سلمان مصالحة
وضع النّقاط على الحروف المبهمات
ما كنت لأردّ بهذه
المقالة لأنّي أؤمن بفتح الأبواب على مصاريعها للآخرين كي يلجوا منها، ويدلوا
فيها بدلوهم في نقاش منفتح وصريح إلى أبعد الحدود. غير أنّ المقالة الّتي كتبها
د. أفنان القاسم تقديمًا لمقابلة إلكترونيّة معي نشرها على موقعه الخاص استثارت
لديّ بعض النّقاط الّتي رأيت ألاّ أمرّ عليها مرّ الكرام، لما فيها من إيضاح لبعض
الجوانب الّتي يتخبّط فيها الكاتب من جهة، وما تشكّله هذه التّخبّطات من سمة
مميّزة للكثير من الكتّاب العرب في هذا الأوان.
ولأنّي أحترم لغتي العربيّة بما
تمثّله في من دلالات ذهنيّة فأنا لا ألقي الكلام على عواهنه، بل أنتقي الكلمات
بتؤدة لما فيها من معاني واضحة الدّلالة لا يمكن أن تُفسَّر إلاّ على الوجه الّذي
أقصده مع حريّة الاتّساع في المعاني والدّلالات الّتي قد تفسح لها هذه المفردات
والمصطلحات. من هنا نبدأ: يستهلّ د. أفنان القاسم كلمته بمقولة أضحكتني كثيرًا،
حيث وسمني بكوني "ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". إذ يبدو لي أنّ الّذين أدمنوا
على تمثيل دور "الضحيّة" في كلّ شاردة وواردة لم يعودوا يفرّقون بين معاني
وسياقات استعمالها.
ولمّا كنت لم أشعر أو لم أكن في يوم من الأيّام، على الأقلّ
منذ أن بلغت سنّ الرّشد، ضحيّة لأيّ شيء فإنّ وسمي بكوني ضحيّة قد أضحكني كثيرًا.
هذا ناهيك عمّا جاء لصيقًا بهذه التّسمية، أي "من ضحايا الفكر السّائد". ولمّا
كنت عربيّ النّشأة أمميّ الأهواء في الآن ذاته، أعيش في وطني وأكتب بلغتي، لغتنا
جميعًا الّتي احترمها بخلاف الآخرين الّذين يحتقرونها ويشوّهونها ليل نهار، فلا
أدري ما الّذي يرمي إليه الدكتور القاسم باصطلاح "الفكر السائد". أيّ فكر هذا،
وأين هو سائد؟ هل هو "الفكر السائد" عند العرب، أم شيء آخر؟ وهل يمكن أصلاً
الإشارة إلى فكر وإلى سيادة عند العرب في هذا العصر؟
ربّما كان من المفيد
التّذكير والتّأكيد مجدّدًا على أنّه لا يمكن أن ينتج فكر بمعزل عن الحريّة.
ولمّا كانت المجتمعات في البلدان العربيّة من أقصاها إلى أقصاها تعيش في أنظمة من
الكبت السّياسي والاجتماعي والثّقافي فلا يمكن أن تنتج هذه المجتمعات وهذه
البلدان فكرًا أو ثقافة أو علمًا بأيّ حال من الأحوال، مهما تبجّح المتبجّحون
ومهما دغدغوا عواطف الأجيال الشّابّة ببلاغة عربيّة تليدة وبليدة في آن معًا.
الكبت لا تمارسه الأنظمة فحسب، بل يمكن أن نقول إنّ الكبت الّذي تمارسه بعض
التّيّارات، السّائدة حقًّا، ثقافيًّا واجتماعيًّا على الفرد هو في الكثير من
الأحيان أشدّ وطءًا عليه من كبت الأنظمة ذاتها.
إذن، ما هو "السّائد" في هذه
الأقطار والمجتمعات؟ يمكن أن أجمل هذا السّائد، وبخطوط عريضة، في تيّارين اثنين
لا ثالث لهما في هذا الغار المظلم. التّيّار الأوّل هو جوقة المثقّفين المرتزقين
المصفّقين لهذه الأنظمة الكابتة على اختلاف درجات كبتها بين قطر عربيّ وآخر.
والثّاني هو تيّار ليس أقلّ إيلامًا على النّفس من سابقه، وأعني به تيّار
الإسلامويّين ومن يتّبعهم من الغاوين من فلول مراهقي العروبة وفتات اليسار العربي
الّذي لم يطرح في يوم من الأيّام نفسه بديلاً حقيقيًّا في هذه المجتمعات ولهذه
المجتمعات، بل كان دومًا متعاونًا مع الأنظمة المستبدّة ومع الاستبداد المجتمعي
الّذي لم يجرؤ أبدًا على زعزعة أركانه المحافظة. لو أنّي كنت أنتمي إلى أحد هذين
التّيارين السّائدين في المجتمعات العربيّة لكان من حقّ الدكتور القاسم أن يسمني
بـ"ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". يجدر هنا أن أذكّر الدكتور القاسم وكلّ هؤلاء
الغارقين في هذه المقولات أنّ مواقفي الصّريحة الّتي تقف في موقع نقيض لهذين
التّيارين الآنفين تسحب البساط من تحت هذا النّوع من المقولات المضحكة حقًّا.
لكن، ما لي وهذا الكلام إذ ها هو يناقض نفسه بنفسه لاحقًا، حين يصفني بكوني أكتب
"من خارج المكان فيما يخصّ مسائلنا وهمومنا".
فإذا كنت أكتب من خارج المكان بخصوص
مسائلنا وهمومنا، فهذا يعني أنّي أقف في موقع هو نقيض من السّائد، أليس كذلك؟ ثمّ
إنّي لا أعرف ما الّذي يحدو بالكتّاب العرب إلى تأبّط الكلام بنون الجمع هذه:
مسائلنا وهمومنا. مسائل من، وهموم من، يا أستاذ؟ يبدو أنّ سطوة اللّغة الفصحى
المكتوبة، غير المحكيّة، على ذهنيّة الكُتّاب العرب تفقدهم صوابهم أحيانًا، إذ
يميلون إلى الظنّ في قرارة أنفسهم أنّهم صاروا جزءًا من جسم كبير محدّد المعالم،
بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا. وفي ظنّي، إنّ الاحتماء "السّائد" بنون الجمع
هذه في الكتابات العربيّة هي جزء من ذهنيّة الهرب من مواجهة الواقع في البيئة
القريبة من الكاتب ذاته الّذي يستخدمها. وأعترف هنا أيضًا، وفي هذه النّقطة،
أنّني فعلاً "ضحيّة" من ضحايا هذا الاستخدام باللّغة العربيّة، إذ أجد نفسي أنا
أيضًا مستخدمًا هذه الـ"نحن" أحيانًا. لكن، في كلّ ما عدا ذلك، فلست ضحيّة ولا
أريد أن أكون ضحيّة. وإذا كنت ضحيّة فأنا ضحيّة من ضحايا ذاتي لا ضحيّة من ضحايا
غيري. إنّ دور الضّحيّة هذا أتركه لمن يرتأيه من أناس غيري. هل يُفهم المقروء؟
لقد أسلفت من قبل أنّي أحترم لغتي العربيّة وأحترم الكتابة بها لأنّي أحترم
القارئ أوّلاً وقبل كلّ شيء. ولهذا السّبب فإنّي أنتقي كلامي بتؤدة وأحاول صوغ
الكلام بدقّة، قدر استطاعتي، كي لا تلتبس المعاني على القارئ فلا يعرف مقصدي ولا
يفقه ما أنا ذاهب إليه في مقالتي. إنّ ما يثير في نفسي الحزن هو هذه الحال
الذّهنيّة العربيّة الّتي يشكّل الأستاذ أفنان القاسم مثالاً صارخًا لها. ما
أقصده هنا هي حال الضّحالة، إن لم تكن هذه إعاقة بنيويّة، في فهم المقروء كما
تتجلّى في أقوال الأستاذ أفنان القاسم حين يقول عنّي مستندًا إلى إجاباتي ما يلي:
"ويذهب في تصوره البراني إلى حد يلامس فيه الخطورة عندما يعتبر القضية الفلسطينية
واحدة من بين قضايا ليست أهمها، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإستراتيجية
الإسرائيلية...".
كيف وصل الأستاذ أفنان القاسم إلى هذا الفهم؟ لا أدري. لقد كان
كلامي واضحًا إلى أبعد الحدود، فمن أين جاء بهذا الفهم إذن؟ إنّه هو نفسه الّذي
يسأل عن "القضيّة"؟ أمّا كلامي الّذي صغته في إجابتي على سؤاله فهو واضح لا يمكن
الالتباس فيه. إنّه هو نفسه الّذي يستخدم مصطلح "القضيّة الفلسطينيّة"، أمّا أنا
فقد حذّرت في إجابتي من هذا الاستخدام الشّائع في الإعلام العربي، مُذكّرًا
الجميع أنّه: "عندما يدور الحديث عن قضيّة يتحوّل الموضوع إلى تمرين ذهنيّ، أو
ربّما مسألة مجرّدة تحتمل الجدل فيها بعيدًا عن الأبعاد الإنسانيّة. فإذا كانت
"فلسطين" قضيّة فهناك الكثير من القضايا الأخرى، ومثلما يتمّ تقديم البحث أو
تعليق بعض القضايا لأسباب متعلّقة بمصالح هذا النّظام أو ذاك حفاظًا على رؤوسه،
كذا هي "القضيّة الفلسطينيّة"، قد تلحّ أحيانًا وقد تتأخّر لأنّ قضايا المنطقة
كثيرة وعويصة وهنالك ما هو ألحّ للتّعامل معه. وفي أثناء ذلك يتمّ تناسي البشر
والشّجر والحجر"، كما ورد حرفيًّا في إجابتي على سؤاله. أليس كلامي هذا واضحًا؟
الحقيقة الّتي لا بدّ من مواجهتها في هذا السّياق هي أنّ الفلسطينيّين وطوال عقود
من الزّمن، ولأسباب عديدة لن نطرق أبوابها الآن في هذه العجالة، قد أدمنوا الجلوس
في خانة الذّهنيّة الاتّكاليّة. ليس هذا فحسب، بل يظنّون أنّهم مركز العالم، أو
على الأقلّ مركز العالم العربي الّذي هو في الواقع عالم "لا يعرف أَساسُهْ مِنْ
راسُهْ"، كما شاع القول في لهجتنا الدّارجة.
وإذا كانت البلاغة العربيّة، الّتي
قد يقرؤها، يسمعها أو يشاهدها هنا وهناك في الصحافة والإعلام العربي من الكلام
المعسول الّذي يجيء من التّيّارين الآنفين اللّذين ذكرتهما سابقًا حول فلسطين وما
إلى ذلك، تُدغدغ مشاعره، فهنيئًا له بهذه الدّغدغة. لقد نسي، أو تناسى، أنّ هذه
الأنظمة قد تركت للنّاس هذه "القضيّة الفلسطينيّة" بصفتها عظمة يتلهّون بها صباح
مساء، بشرط أن لا يقربوا الأنظمة الفاسدة والمُفسدة في بلادهم.
لقد وصلت إلى
قناعة منذ زمن أنّ كلّ أولئك الصّارخين عن فلسطين في الإعلام العربي لا يعرفون
فلسطين في الحقيقة، لا يعرفون أهلها، لا يعرفون بشرها، وبرها، شجرها وحجرها.
إنّها صيحتهم الوحيدة المسموح لهم بها (وخاصّة في تلك الفضائيّات المنطلقة من
أكبر القواعد العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط، أو تلك الصّحف الزّاعقة من
لندن والّتي لا ندري من يموّلها أصلاً، إذ تنعدم فيها الإعلانات التّجاريّة)،
بينما هم في قرارة أنفسهم يصيحون ضدّ الظّلم والقهر في بلدانهم. المحافظون الجدد
يسمّون هذه "الفوضى البنّاءة". هذه هي الحقيقة العربيّة المرّة، أليس كذلك؟
وعلى
كلّ حال، أنتظر أنا مثلما ينتظر الآخرون أن يشرح لنا الأستاذ القاسم ما هي هذه
"القضيّة الفلسطينيّة" الّتي يسأل عنها. هل هي التّحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي،
وإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع إلى جانب إسرائيل واعتراف متبادل بين
دولتين؟ أم أن "القضيّة" هي القضاء على دولة إسرائيل وتسفير اليهود إلى ما وراء
البحار؟ إنّه مُلزم، مثلما أنّ الجميع ملزمون، في الحالتين بإعطاء إجابات صريحة
للذّات أوّلاً، ثمّ للنّاس الأقربين ثانيًا ولسائر العالم في نهاية المطاف.
إذا
كان من الصّنف الأوّل فعليه أن يصارح الملأ من أبناء قومه بذلك ودون لفّ ودوران،
وإذا كان من الصّنف الثّاني، فليقلها أيضًا صراحة. لكن، ليعرف أيضًا إنّه في حال
كهذه لن يجد أحدًا في العالم متعاطفًا معه ولا مع "قضيّته"، مهما ساءت أحواله
وأحوالها. وإذا كان يعتقد أنّ قضيّته هي قضيّة مركزيّة، فهو مخطئ، فالعالم مشغول
بكثير من القضايا، وما قضيّته هذه سوى واحدة من قضايا كثيرة أخرى تشغل الآخرين.
أليس العراقيّ مشغولاً بعراقه أوّلاً؟ أليس اللّبنانيّ مشغولاً بلبنانه أوّلاً؟
أليس السّودانيّ والمصري مشغولين بمصرهما وسودانهما؟ وكذا المغربي واليمنيّ إلى
آخر القائمة. وكذا هو العالم الآخر من حولنا.
وفي نهاية المطاف لن يَقلع لك أحد
الأشواك من يديك، فما عليك إلاّ أن تقلعها بنفسك. لقد عانى الشّعب الفلسطيني
كثيرًا من فساد قياداته وزعاماته السيّاسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، لقد عانى
كثيرًا من جبن مثقّفيه وارتزاقهم، لقد عانى كثيرًا من قراءة الواقع وقراءة العالم
المعاصر، لقد عانى كثيرًا من جهله واتّكاليّته. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن يسمع
أصوات أخرى تكلّمه صراحة ودون غمز أو لفّ ودوران. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن
يتحرّر سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ومن حقّه أن يكون كسائر الشّعوب
المتحضّرة. أمّا اتّهامي باستخدام "لغة غوغائيّة"، فهو أكثر إضحاكًا ممّا سلف. إذ
أنّ القارئ النّبيه البصير سيقرّر بنفسه، لغة مَنْ منّا هي الغوغائيّة.
وأخيرًا،
وكي أضع النّقاط على الحروف المبهمات، ها أنا من موقعي هذا، هنا في وطني، ورغم
كلّ إشكاليّات هذا الموقع الّذي أعيش فيه وأكتب منه وفيه وله، أقول بصريح العبارة
إنّي أقف ضدّ الصّهيونيّة العنصريّة، مثلما أقف في الوقت ذاته ضدّ القومويّة
العربيّة العنصريّة، وضدّ كلّ قومويّة عنصريّة أخرى. يجب أن نقولها كلمة صريحة
على الملأ: إنّ القومويّة على جميع تفرّعاتها وأشكالها هي داء نفسيّ عضال يضرب
ذهن البشر فيصيبهم بالشّلل الفكري ويتركهم في حال بدائيّة لا يستطيعون الفكاك
منها. وهي، أي القومويّة العنصريّة، داء طالما جلب الويلات على من يحمل في ذهنه
هذا الڤيروس.
وهذا الكلام لا يعني طبعًا الانتماء الطّبيعي إلى مجموع حضاري معيّن
من البشر قد يختلف عن الآخرين لكنّه يبقى مؤتلفًا معهم في الانتماء إلى هذه
البشريّة الّتي ننشد الخير لها جميعًا على هذه الأرض، وفي السّماء أيضًا. لقد قلت
هناك إنّ علينا أن نتصارح كي نتصالح. والآن، أما آن الأوان بعد للقوم الّذين
أنتمي إليهم لمعالجة هذا الدّاء والشّفاء منه؟ والعقل وليّ التّوفيق!
يوليو 2008
***
المقالة في إيلاف المقالة في الشفاف
يوليو 2008
***
المقالة في إيلاف المقالة في الشفاف