الخميس، 20 نوفمبر 2008

إقرأ، أم اسمع، باسم ربّك؟


سلمان مصالحة

إقرأ، أم اسمع، باسم ربّك؟



جميل جدًّا أن يتحدّث
العرب عن الحداثة. لقد بلغ بهم الأمر وضعًا صار يُخيّل فيه للمرء أن هذه الحداثة مُشتقّة من الحديث ذي الشّجون، أي الكلام الفاضي كما يُقال بلغة العامّة. ولمّا أنْ طالَ بهم، وعلى الأصحّ لَمّا أنْ طالنا، هذا الحديث بجميع تقليعاته، فقد أفضى بهم وبنا، وسبحان من له العلم، إلى العولمة. نعم، هكذا وبدون سابق إنذار انبرى الكتّاب العرب إلى الخوض في هذه المعمعة العولميّة الّتي هي، مثلها في ذلك مثل الحداثة، لا ناقة لهم - لنا - فيها ولا جمل. فالحداثة والعولمة هما نتيجتان بارزتان مباشرتان للمجتمع الصّناعي المتطوّر في عالم ما بعد انهيار الأيديولوجيّات، كما يُشاع. والحقيقة أنّ الأيديولوجيّات لم تنهرْ إنّما بدّلت ملبوسها. ولمّا كان العربان ليسوا من هذا في شيء، فما شأنهم إذن بهذه التّقليعات؟

وللإجابة على هذا السؤال،
لا بدّ لنا أوّلاً من وضع بعض النّقاط على بعض الحروف المبهمات. لقد بدأت الدّعوة الإسلاميّة من القراءة: إقرأ باسم ربّك. وبكلمات أخرى، فالقراءة هي الدّعوة الأساس، هي القائم الّذي بنيت عليه الدّعوة. ولمّا كان أكثر من نصف العربان، وعلى الأقلّ في هذا الزّمان، من الأمّيّين، فحديث مثقّفيهم عن الحداثة، أو العولمة وما إلى ذلك من تقليعات غربيّة، ما هو إلاّ عظمة من بين عظام كثيرة يتلهّون بها في زمن شيوع وسائل الإعلام. غير أنّ نظرة بسيطة على وسائل الإعلام هذه، المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، تضعنا أمام مرآة صقيلة لا تخفي من تجاعيدنا الاجتماعيّة والثّقافيّة شيئًا. فها هي الفضائيّات العربيّة قد اشتقّت هي الأخرى نفسها، كعادة الأشقّاء في الاشتقاق، من الفضاء السّحيق، أي من الكلام الفاضي الّذي يسحقنا صباح مساء. لقد تحوّلت هذه الفضائيّات العربيّات إلى وسائل مسموعة ومرئيّة غايتها بعث الجهل في الأجيال العربيّة. أي أنّنا دخلنا بقدرة قادر، وفي الأساس بقدرة مُقتدرين مموّلين، عصرًا من الجاهليّة الجديدة، وبعبارة أخرى، جاهليّة حداثيّة معولمة في آن معًا.

غير أنّ الكتّاب العرب، ولكونهم بعيدين جدًّا عن أن يكونوا مستقلّين فكريًّا، فمن الصّعب عليهم أن يواجهوا هذه الحقائق الدّامغة، فهم يلهثون دومًا، "لهاثًا حداثيًّا"، وراء الأضواء في قنوات الفضاء. وقنوات المطبوعات الورقيّة والرّقميّة في ذلك سواء.

فإلى أين المفرّ إذن؟
المفرّ من جميع هذه الأوباء العربيّة يُفضي بالمثقّفين العرب إلى الحداثة الغربيّة، وإلى تقليعاتها الّتي تتبدّل هناك كما تتبدّل الملابس الدّاخليّة. أمّا المتتبّع لحال الأجيال العربيّة النّاشئة فإنّه يلاحظ بروز مشاكل عويصة في فهم المقروء العربيّ. وقد سبق وقلنا، إنّ الدّعوة الإسلاميّة كانت بدأت بالقراءة. 


فما الّذي أوصلنا إلى
هذا الوضع؟ القضيّة، وبكلّ بساطة، هي أنّ اللّغة العربيّة وخلال تطوّر دام قرون طويلة، وبروز اللّهجات، المختلفة، أحيانًا في بلدة واحدة، لم تعد اللّغة العربيّة لغة أمّ عند العربيّ. وحين نقول اللّغة العربيّة فنقصد بهذا المصطلح هذه اللّغة المكتوبة الّتي تقرؤونها هنا في هذه الصّفحات أو في الكتب أوغيرها من المنشورات. هذه اللّغة المكتوبة لم تكن في يوم من الأيّام لغة أمّ لأيّ عربيّ من محيطه إلى خليجه. هذه اللّغة هي لغة مُكتَسَبة وشأنها في ذلك شأن أيّ لغة أجنبيّة أخرى.

ولهذا السّبب، لا تجد الشاب العربيّ يتحدّث بها، لا في الشّارع، لا في المدرسة ولا في البيت. إنّه يتعامل مع هذه اللّغة الفصيحة كما لو كانت لغة أجنبيّة كسائر اللّغات الأجنبيّات. إنّ ما تفعله وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، في هذا العصر الفضائي، ونحن نعرف تأثير هذه الوسائل على الأجيال النّاشئة، هو تكريس لهذا الوضع العربيّ المأساوي. أيّ أنّ جميع هذه الوسائل تقوم بعمليّة تكريس للّهجات، أي اللّغات العربيّة المختلفة على حساب لغة التّفكير المهمّة أي اللّغة العربيّة الفصحى. نحنُ نعلم أيضًا أنّ اللّهجات العربيّة، إضافةً إلى كونها عاملاً مركزيًّا للتّشرذم العربيّ، فإنّها، وهذا هو الأهمّ، تقف في طرف نقيض من القراءة. والسبب لذلك جليّ واضح، فهي غير مكتوبة، وإن كُتبت فإنّ العربيّ لا يفهمها في كلّ مكان يتواجد فيه.

لذا نرى لزامًا علينا أن نقول
إنّ اللّهجات الدّارجة، لا يمكن بأي حال أن توصل إلى التّقدّم والتّطوّر، وذلك لفقرها، أي فقر مجالاتها بطبيعة الحال. كما بوسعنا أن نُضيف إلى ذلك قضيّة مهمّة، ربّما لم يلتفت إليها المختصّون بهذه القضايا. إنّ هذا العصر الفضائي الفاضي، يُشكّل بما يعرضه وينتجه من برامج هابطة وأفلام وغناء عربيّ سخيف، تكريسًا للهجات فقيرة لا يمكن أن ترقى إلى لغة التّفكير والإبداع العلمي والحضاري في جميع مجالات العلوم والحضارة البشريّة.
إنّه تكريسٌ لغريزة السّمع، على حساب غريزة البصر (ونعني بها هنا البصيرة) الّتي تتأتّى بالقراءة. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هذه الظّاهرة وبسبب الأميّة المتفشّية بين العربان قد طالت حتّى القرآن. نعم، فحتّى القرآن في هذا العصر العربيّ السّقيم تحوّل إلى الأسماع عبر أشرطة التّسجيل بدلاً عن القراءة والتّأمّل. فالعربيّ الآن في هذا العصر على العموم لا يقرأ القرآن بل هو يستمع إليه عبر تسجيلات صوتيّة للمقرئين الشّيوخ. وهكذا تحوّلت "إقرأ" بفعل هذه الـ"حداثة" العربيّة إلى "إسمع".

وهذا يوصلنا إلى
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام. السّمع هو حالة لا إراديّة بخلاف القراءة الّتي تأتي بعد قرارٍ ذاتيّ مستقلّ نابع عن قصدٍ بفعل الشيء. السّماع قد يكون في خلفيّة أمور أخرى كثيرة، بينما القراءة هي دائمًا في المركز. غير أنّ هذه الطّريق هي الأخرى طريق إشكاليّة تتشعّب إلى مسارب ذات أبعاد تتعلّق بالپويطيقا العربيّة.

ما من شكّ في أنّ الجميع يعي تلك المعضلة القائمة في العربيّة والمتمثّلة في الفجوة القائمة بين النّص العربي على العموم، وبخاصّة في الشّعر، وبين اللّغة المحكيّة الدّارجة على ألسن العرب. فالنّصّ العربيّ يبدو دائمًا بعيدًا عن المتلقّي كما لو أنّه قابعٌ في برج عاجيّ. النّصوص العربيّة، والشّعريّة منها على وجه الخصوص، تتّسم بلغة بلاغيّة عالية وسبب ذلك هو هذه الهوّة القائمة بين الفصحى والعاميّة، فالكتابة بكلام فصيح هي دائمًا كتابة بلغة شبه أجنبيّة. وكما أنّ الدّارس للغة ما يظلّ حديثه مبنيًّا على النّحو والقواعد والمفردات القاموسيّة الّتي درسها لدى معلّميه، بينما لغة الخطاب الحياتي اليومي تظلّ أكثر ديناميّة وتجدّدًا. هكذا هي حال الكتابة الشّعريّة العربيّة على العموم، فهي دائمًا كتابة بلغة مدرسيّة. إنّها دائمًا لغة ذات جرس مختلف عن لغة الخطاب اليومي، ذات نحو مختلف وإعراب مختلف وفي أغلب الأحيان تستخدم مفردات قاموسيّة لا ينطقها الشّارع. لهذا السّبب، تظلّ هذه اللّغة بعيدة عن الشّارع، وبكلمات أخرى بعيدة عن جوهر التّجربة الّتي أريد لها أن تُصاغ شعرًا.

عادة، في اللّغات الحيّة المتطوّرة أنت تكتب ما تلفظه، وتلفظ ما تكتبه، غير أنّ حال اللّغة العربيّة هي هذه الإزدواجيّة الّتي تتنازعك بين الكلام المحكي والكلام المكتوب. إنّها عمليّة ترجمةٍ سرمديّة من لغة إلى لغة، من لغة محكيّة إلى لغة مكتوبة، هي في نهاية المطاف ترجمة من عالم إلى آخر. وهكذا، ليس غريبًا أنّنا نعيش، ولا أستثني نفسي من هذا التّشخيص، في حال من الإنفصام العاطفي، الّذي مردّه إلى هذا الفصام اللّغوي على ما أعتقد. والكتابات الأدبيّة العربيّة هي أفضل مثال على هذا الفصام.

وأخيرًا، على فكرة، هذه
ملاحظة لمراهقي العروبة: لا الاستعمار ولا الصّهيونية مسؤولين عن هذه الحال العربيّة، بل حقيقة الأمر هي أنّ "دُودُهْ مِنْ عُودُهْ"، كما نقول في لهجتنا الجليليّة. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التّوفيق!

يونيو 2008
***


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع