سلمان مصالحة
عن الإله الصّحراوي، العنف والسّيف
قراءة النّصوص المقدّسة
ليست بالأمر السّهل. إنّ صعوبة القراءة لا تكمن في لغة هذه النّصوص فحسب. أقول ذلك، مع أنّ لغة النّصوص في حالات كثيرة، ولعدم اتّضاح المفردات واختلاف القراءات والدّلالات، تفتح الباب على مصراعيه للتّفسيرات المختلفة الّتي قد تكون متناقضة في بعض الأحايين. إنّ الصّعوبة الكبرى كامنة في الأساس في كون هذه النّصوص تتّسمُ بالقداسة في نظر جمهرة المؤمنين، ولذلك فإنّ النّظر فيها يُحرّك أعصابًا حسّاسة لدى هؤلاء. والقداسة، على العموم ولدى كافّة الأديان، تُشكّلُ كَواتمَ عُقولٍ على رؤوس أتباعها.
كُنتُ ذكرتُ من قبل أنّ الإيمان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجهل، إذ يجنحُ الإنسان بعد انسداد طرق المعرفة أمامه إلى إناطة مجاهله بقوى خارقة بواسطة شخصنة ظواهر الطّبيعة، على سبيل المثال، وعزوها إلى آلهة موكلة بها. هكذا وُلدت آلهة الشّمس، آلهة القمر، آلهة الرّعد وآلهة البرق والمطر، إلى آخر قائمة آلهة الطّبيعة. وكذا هي الحال في حضارات الشّعوب المختلفة من مشارق الأرض إلى مغاربها على مرّ العصور. أي أنّ حُدود المعارف هي حدود الإيمان الّتي تفرق بين الانسان وبين الإله، وكلّ ما وقع في عالم المَجاهل البشريّة أُحيلَ إلى الآلهة في نهاية المطاف لتتولّى هذه التّحكُّم بها.
والقداسة أيضًا، ترتبط ارتباطًا
وثيقًا بالعاطفة، إذ أنّ العاطفة أيضًا مرتبطة بالجهل هي الأخرى. فكلّ ما يمتُّ إلى العواطف بصلة، تلك الّتي نجهل كيف تحدث ولماذا تحدث، نقوم نحن بتحويلها وتخزينها في الحقول الدّلاليّة لتعابير العواطف. كذا يحدث في حال الحبّ وحال الكراهية، وكذا يحدث في حال الفرح وحال الحزن. فمصطلحات الحبّ، الكراهية، الفرح والحزن، على سبيل المثال، هي تجريدات لغويّة لحالات تجمع الكثير من الدّلالات الذّهنيّة المجرّدة، كما تترافق مع تفاعلات كيماويّة، فيسيولوجيّة، في الدّماغ البشري.
وأقول إنّ القداسة مرتبطة بالعاطفة، لأنّ القداسة أيضًا تُحدث تفاعلات كيماويّة في الدّماغ البشري، مثلما يحدث في أحوال الحبّ والكراهية والفرح والحزن. ولأنّنا، في حقيقة الأمر، لا نعرف لماذا نحبّ أو لماذا نكره، ولا نعرف لماذا نفرح أو لماذا نحزن، فإنّنا في ذات الوقت لا نعرف أيضًا لماذا كلّ هذه العاطفة المتعلّقة بالقداسة. إنّ انعدام المعرفة هذا - هو بالضّبط التّعريف الأمثل للجهل. كما جاء القول بأنّ القداسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعاطفة لسبب بسيط، وهو أنّ كلّ حديث عن هذه القداسة بلغة المنطق، لغة العقل، يثير لدى عوامّ الجهلة من المؤمنين كلّ تلك التّفاعلات الكيماويّة، المرتبطة بمشاعر الغضب، ومشاعر الكراهية العمياء على وجه التّحديد.
ونحنُ، حينما ننظر في نصوص
القداسة، على اختلاف مشاربها، فإنّما ننظر فيها لأنّنا نعتبرها جزءًا لا يتجزّأ من مؤلّفاتنا البشريّة، من مؤلّفاتنا الحضاريّة. فالتّوراة، على سبيل المثال، هي ملكنا، والأناجيل ملكنا والقرآن ملكنا، مثلها في ذلك مثل كلّ النّتاج الحضاري الإنساني الّذي هو ملك لنا جميعًا. وبوصفها كذلك فهي ملك للبشريّة كافّة، وفي الآن ذاته يجب أن تكون موضع بحث ونقد وحتّى نقض من قبل كلّ من ينتمي إلى هذه البشريّة. إنّنا ننظر فيها مثلما ننظر في الطّبيعة، في الأفلاك، في الكيمياء، في الأدب والشّعر والتّاريخ وفي سائر العلوم الإنسانيّة قبولاً أو رفضًا، شرط أن يتمّ ذلك بحكمة ورويّة ضمن حدود المعارف البشريّة وبعيدًا عن العاطفة، بعيدًا عن القداسة الّتي تضع كواتم عقول على رؤوس النّاس.
فها هو إله إسرائيل،
الإله التّوحيدي التّوراتي، وكما يظهر لنا من أسماءه الحسنى الّتي وردت في العهد القديم، إلهٌ قبليّ محاربٌ يدفع أتباعه إلى القضاء على الوبر والبشر من أهل عمليق: "كَذَا يَقُولُ رَبُّ الجُنْدِ: أَتَذَكَّرُ ذاكَ الَّذِي صَنَعَ عَمَلِيقُ بِإسرائيلَ، إذْ كَمَنَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ صَاعِدًا مِنْ مِصْرَ. الآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَلِيقَ، وَخُذْ كُلَّ الَّذِي لَهُ، وَلا تَشْفَقْ عَلَيْهِ، وَأَمِتْ مِنْ رَجُلٍ حَتَّى امْرَأَةٍ، مِنْ رَضِيعٍ وَحَتَّى طِفْلٍ، مِنَ ثَوْرٍ حَتَّى حَمَلٍ، مِنَ جَمَلٍ حَتَّى حِمَارٍ". (صموئيل الأوّل، 15، 2-3، الترجمة من الأصل العبري هي لي). إذن، فالتّعبير "رَبُّ الجُنْدِ" هو ممّا يمكن أن نطلق عليه الأسماء الحسنى التّوراتيّة لهذا الإله. ولَمَّا كان كذلك فهو لا يأبه بقطع الرؤوس وترك الجثث لتنهشها الطّيور ودوابّ الأرض، كما يرد في الفصل السّابع عشر من ذات السّفر: "فَقَالَ دَاوُدُ لِلفِلِسْطِيّ: أَنْتَ تَأْتِينِي بِسَيْفٍ، وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ؛ وَأَنَا آتِيكَ بِاسْمِ رَبِّ الجُنْدِ، إلهِ جُيُوشِ إسْرائِيلَ الَّذِين أَهَنْتَ. هذَا اليَوْمَ يُسَلِّمُكَ الرَّبُّ إلَى يَدِي، فَأَضْرِبُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ مِنْكَ، وَأُعْطِي جُثَّةَ عَسْكَرِ الفِلِسْطِيّين لِطَيْرِ السَّمَاءِ وَدَابَّةِ الأَرْضِ، لِتَعْلَمَ كُلُّ الأَرْضِ أنَّ ثَمَّ إلَهًا لإسْرائِيلَ." (صموئيل الأوّل، 17، 45-46).
ومن بين أسمائه الحسنى التّوراتيّة نجد التّعبير "إله النّقمات"، كما ورد في المزامير: {يَا إلهَ النّقَمَاتِ يَا رَبِّ؛ يَا إلهَ النّقَمات...} (مزامير 94، 1). ولذلك فليس من سبيل أمام إسرائيل سوى الإذعان لمشيئته: "كُلُّ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَكَ، وَلا يَسْمَعُ أَقْوَالَكَ بِكُلِّ الَّذِي تَأْمُرُهُ بِهِ - يُمَاتُ. فَقَطْ، تَجَلَّدْ وَتَشَجَّعْ" (يشوع 1، 18). ولذلك فإنّ السّيف هو الفيصل عندما يفتح يهوشوع البلاد: "فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخُوا فِي الأَبْواقِ؛ وَكَانَ إذْ سَمِعَ الشَّعْبُ صَوْتَ البُوقِ، هَتَفُوا هُتَافًا كَبِيرًا، فَسَقَطَ السُّورُ تَحْتَهُ وَظَهَرَ الشَّعْبُ عَلَى المَدِينَةِ رَجُلاً تِلْوَ آخَرَ، وَأَطْبَقُوا عَلَى المَدِينَةِ. وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الّذِي في المَدِينَةِ، مِنْ رَجُلٍ حَتَّى امْرَأَةٍ، مِنْ فَتًى حَتَّى شَيْخٍ؛ وَحَتَّى الثّوْرِ وَالحَمَلِ وَالحِمَارِ، بِحَدِّ السَّيْفِ". (يشوع 6، 20-21). والسّيف كان الفيصل مع أهل عي، كما ورد في الفصل الثّامن من سفر يشوع: "وَكانَ لَمّا فَرغَ إسْرائيلُ مِن قَتْلِ كُلِّ سَاكِنِي العَيْ فِي الحَقْلِ، فِي القَفْرِ حَيْثُ لَحقُوهم به، وَسَقَطُوا كُلُّهُمْ بَحَدِّ السّيْفِ أَجْمَعِينَ؛ فَعَادَ كُلُّ إسْرائيلَ إلى العَيِّ وضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ" (يشوع 8، 14). وكذا كان مصير مقيدة الّتي نكّل بأهلها وضرب ملكها بحدّ السّيف، وكذا كانت أحوال بلاد أخرى: "وأخذ يَشُوعُ كُلَّ أُولئِكَ المُلُوكِ وَأَرْضَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لأَنّ الرّبَّ إلهَ إسْرَائيلَ حَارَبَ عَنْ إسْرائِيلَ." (يشوع 10، 42)
إذن، يُفهم من هذا الكلام أنّ السّيف، على ما يمثّله من رمزٍ للحرب والقتل، هو جزء من ذلك الإله الّذي ظهر على ألسنة الرّاحلين في البراري التّائهين الهائمين على وجوههم في الصّحاري.
وكذا هي الحال عندما نقرأ في الإنجيل
عمّا ورد على لسان يسوع المسيح في متّى: "لا تَظنّوا أنّي جئتُ لأُلقي سَلامًا عَلَى الأرْضِ. ما جئتُ لأُلقي سَلامًا بل سَيْفًا." (متّى 10، 34-35). فنحنُ نقرأ النّصّ ونفهمه كما تفيد لغة المقولة. النّصّ مكتوب بلغة بسيطة سهلة ولا تحتوي على مفردات لغويّة غريبة يمكن تأويلها على أكثر من وجه. فكلّ ما في المقولة من مفردات هي: جاء، ألقى، سلام وسيف وأداتا النّفي والاستدراك. أي أنّ هذه المفردات واضحة جليّة بيّنة المعاني والدّلالات. غير أنّ جمهرة المؤمنين قد وجدوا أنّ في هذه المقولة، على ندرتها، ما لا يريحُ من وجهة النّظر المسيحيّة. ولذلك، ومثلما يحدث في حالات البلبلة العقائديّة، فقد جنح المفسّرون إلى البحث عن مخارج من هذا المأزق الّذي وجدوا أنفسهم فيه. ولأنّ النّصّ سهل وبسيط ومفهوم إلى أبعد الحدود فلم يتبقّ أمامهم سوى السّير في طريق المجاز، طريق التأويل المجازي للنّصّ، كالقول مثلًا إنّ كلمة سيف هي كلمة مجازية ذكرها المسيح في معرض حديثه عن الصعوبات التي تلاقيها رسالته... وسيف الروح هو كلمة الله، هو السيف الفعّال للتغلّب على الشرور والأباطيل، وما شابه ذلك من تأويلات.
غير أنّ الرّسالة ذاتها جاءت لتفرّق بين الأب وابنه، بين الأم وابنتها، أي بين الإنسان وأهله، كما ورد لاحقًا: "جئتُ لأُفرّق الإنسان ضدّ أبيه والابنةَ ضدّ أُمّها والكنّة ضدّ حماتها. وأعداءُ الإنسان أهل بيته." بل أكثر من ذلك، فإنّ الإيمان منوط بفناء الذّات، فعلى المؤمن أن ينفي أهله وذاته، بل يُفني في الحقيقة أهله وذاته في محبّة الرّسول: "من أحبَّ أبًا أو أُمًّا أكثرَ منّي فلا يستحقّني. ومن أحبّ ابنًا أو ابنةً أكثرَ منّي فلا يستحقّني." (متّى 10، 36-37).
لقد انتقلت مقولة يسوع النّاصري هذه،
بشأن نفي الذّات وتفريق الأب وابنه والأم وابنتها، إلى الإسلام وبصورة حرفيّة تقريبًا. فها نحن نقرأ الحديث النبوي فنسمع فيه كلام يسوع منقولاً بالحرف: "حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" ("نقلاً عن: صحيح مسلم، ومسند أحمد، مسند الطّبراني، سنن النسائي، سنن ابن ماجة، كنز العمال وغيرها). لقد حاول عمر بن الخطاب أن يعترض على ذلك عندما سمع هذا الكلام، كما روي في الحديث أنّ عمر بن الخطاب قال: "يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليّ من كلّ شيء إلاّ من نفسي فقال: والّذي نفسي بيده، حتّى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنّك الآن أحبُّ إليّ من نفسي" (عن البخاري).
ومعنى هذا الكلام في الحديث النّبوي كما يؤكّد على ذلك النّووي: "أنّ من استكمل الإيمانَ علمَ أنّ حقّ النبيّ صلعم آكَدُ عليه من حقّ أبيه وابنه والنّاس أجمعين... ولا يصحّ الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلعم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن..." (النّووي، المنهاج في شرح صحيح مسلم). فلا فرق، إذن بين هذه المقولة ومقولة يسوع، إذ يبدو أنّها اقتُبست حرفيًّا منه.
أمّا في ما يخصّ السّيف
وما يرمز إليه من عنف، فحدّث ولا حرج. فمن بين الأحاديث الصّحاح، على الأقلّ من وجهة نظر المؤمنين ما رُوي عن ابن عمر نقلاً عن الرّسول: "عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلعم قال: أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسولُ اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءَهم وأموالَهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله" (عن: صحيح البخاري، وصحيح مسلم).
مهما حاولنا تفسير هذا الكلام من طرق مختلفة، فما من سبيل إلى فهم هذا الكلام سوى عبر طريق العنف. إنّ ما يزيد هذه القناعة بأنّ السّيف وما يرمز إليه هو في صلب هذه المقولات هو هذا الحديث الّذي رواه أحمد عن الرّسول في مسنده: "إنّ الله بعثني بالسّيف بين يدي السّاعة، وجعلَ رزقي تحتَ ظلّ رمحي، وجعل الذلّ والصّغار على من خالفني..." (عن: مسند أحمد). هذا الكلام واضح جليّ، فالمؤمن في ورطة إن أخذ بهذا الكلام، وهو في ورطة إن تركه.
وها هي سورة براءة، وهي آخر ما نزل من القرآن: "وكانت براءة آخر القرآن نزولاً وتوفي رسول الله صلعم ولم يبين موضعها." (نقلاً عن: تفسير القرطبي، تفسير النيسابوري، الدرّ المنثور للسّيوطي). وهي السّورة الوحيدة الّتي لا تبدأ بالبسملة، كما يروي القرطبي، وذلك لأنّها تنقض العهود: "فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلعم والمشركين بعث بها النبي صلعم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة." (نقلاً عن: تفسير القرطبي).
والسّبب من وراء إسقاط البسملة واضح للعيان من الرّواية التّالية: "قال عبد اللّه بن عباس، سألت علي بن أبي طالب: لمَ لمْ يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمانٌ وبراءة نزلت بالسّيف، ليس فيها أمان." (نقلاً عن: تفسير القرطبي، وانظر كذلك في الدرّ المنثور للسّيوطي، زاد المسير لابن الجوزي، تفسير الثّعالي، فتح القدير للشوكاني وغيرها من المراجع). أي أنّ كلّ ما يمكن أن يُفهم من آيات سابقة على وجود إمكانيّة لتفسير مخفّف من علاقات بين المؤمنين بغيرهم قد نُسخت بجميع معانيها، إذ أنّ: "كلّ هؤلاء الآيات نسختها فى براءة آية السيف." (عن: تفسير مقاتل).
منذ القدم وحتّى يومنا هذا يتخبّط المسلمون في أحكام الآيات القرآنيّة. فها هو شيخ الأزهر في معرض حديثه عن معاملة الأسرى يتخبّط هو الآخر في هذه المسألة. ومن خلال كلامه يظهر مدى المأزق الّذي يواجهه لدى التّعامل مع هذه القضيّة، في ضوء ما حفظ التّاريخ من آيات وأحاديث وروايات السّلف، فيقول: "فمسألة الأسرى من الأعداء، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين، ومرجع الحكم فيها إلى البُصراء بالحرب وبوضع خططها، لأنهم أعرفُ الناس بكيفة معاملة الأسرى. وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس، لأنه الثابت من فعل رسول الله صلعم ومن أفعاله أصحابه، ولأن ذكر المنّ والفداء لا ينافى جواز غيره، كالقتل -مثلا- لأن هذا الـ"غير" مفهومٌ من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة. وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء، منهم الإمام ابن جرير، فقد قال ما ملخصه: والصواب من القول عندنا فى ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المنّ والقتل والفداء إلى الرسول صلعم وإلى القائمين بعده بأمر الأمة. وإن لم يكن القتل مذكورًا فى هذه الآية، لأنه قد أذن -سبحانه- بقتلهم فى آيات أخرى منها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقد فعل الرسول صلعم كل ذلك، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط. وأخذ الفداء من غيره..." (نقلاً عن: التّفسير الوسيط لشيخ الأزهر، محمّد سيّد طنطاوي). أي، وبكلمات أخرى، فإنّ شيخ الأزهر وفي هذا العصر، يبيح، هو الآخر، قتل الأسرى في حالات معيّنة، وذلك استنادًا إلى نصوصه المقدّسة. هذا ما يُفهم منه رغم محاولات اللّفّ والدّوران في كلامه.
وخلاصة القول:
ممّا عرضنا آنفًا يظهر ذلك القرب والتّطابق بين الإله الصّحراوي، بدءًا بـ"يهوه"، الإله التّوراتي وانتهاءً بما ظهر في صحاري جزيرة العرب. ويظهر، من خلال كلّ ما أوردنا، مدى العنف المتجلّي في صورته الّتي تنعكس في هذه النّصوص المقدّسة. والسؤال الّذي يطرح نفسه في هذا السّياق هو، هل يمكن أن تتغيّر طبيعة هذا الإله؟ والإجابة على ذلك هي نعم بالتأكيد. فمثلما ورد في الآية "لا يُغيّرُ اللّه ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم"، نستطيع أن نقول إنّ الطّريق المثلى للوصول إلى تغيير طبيعة الإله هي أن يغيّر النّاس ما بهم، إذ لن يُغيّر النّاس ما بإلههم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم. لأنّ الإله قد خُلق على شاكلتهم، فإن غيّروا ما بأنفسهم، تغيّرت شاكلة إلههم.
والعقل ولي التّوفيق.
ديسمبر 2007
***
المقالة في إيلاف
0 تعليقات:
إرسال تعليق