الخميس، 4 ديسمبر 2008
الأربعاء، 3 ديسمبر 2008
أشباح
سلمان مصالحة ||
أشباح
لَوْ أنَّ لِي حَجَرًا مَا كُنْتُ أَقْذِفُهُ
فِي بِرْكَةٍ طَفَحَتْ مِنْ
دَمْعِ تِمْسَاحِ
إنّ الدُّمُوعَ إذَا حَرَّكْتَهَا انْتَثَرَتْ
وَاغْرَوْرَقَتْ
عَبْرَةً ذِي النَّفْسُ، يَا صَاحِ
يَا مَنْ تَرَاكَضَ خَلْفَ
العَقْلِ يَطْلُبُهُ
لا الصُّبْحُ جَاءَ، وَعَافَ الزَّيْتَ مِصْبَاحِي
دَعْ
ذَا عَدَمْتُكَ وَاعْزِفْ عَنْ مُغَامَرَةٍ
إنَّ التَّفَكُّرَ مَسْكُونٌ
بِأَشْبَاحِ
فَابْعَثْ سَلامَكَ للنُّدْمانِ حَيْثُ مَضَوْا
وَارْحَلْ
إلَى بَلَدٍ فِي الكَاسِ مُرْتَاحِ
وَادْفِنْ هُمُومَكَ فِي خَمْرٍ
لَهَا خَفَرٌ
لا تَبْتَئِسْ فَخَلاصُ الرُّوحِ فِي الرّاحِ
فِي
رَشْفِهَا أَثَرٌ مِنْ وَصْلِ عَاشِقِهَا
إنْ لامَسَتْ رُوحَهُ أَمْسَتْ
بِأَرْوَاحِ
***
الاثنين، 1 ديسمبر 2008
إذا حمل الطير غربًا فؤادي
سلمان مصالحة ||
إذا حمل الطير غربًا فؤادي
(رحلة فلسطينيّ في الرّبوع الأندلسيّة)رَكِبْتُ ضُحًى صَهْوَةَ القَلْبِ شَوْقَا
كَمَنْ شَدَّهُ الحُلْمُ، أَوْ رَامَ نُطْقَا
وَيَمَّمْتُ وَجْهِيَ صَوْبَ رُبُوعٍ
نَمَتْ فِي الجَنَانِ، فَأَوْرَقَ رَوْقَا
وَأَعْمَلْتُ فِكْرِيَ بَعْضَ نَهَارٍ
بِمَا أَوْرَثَ البَحْرُ فِي الأَرْضِ أُفْقَا
وَرُوحًا سَمَتْ فَوْقَ مَوْجٍ كَطَيْرٍ
تَسَلَّقَ حَبْلَ الرِّياحِ، فَأَلْقَى
عَلَى الغَرْبِ نَجْمًا، وَمَالَ فَثَنَّى
عَلَى الشَّرْقِ غَيْثًا، وأَشْعَلَ بَرْقَا
رَكِبْتُ ضُحًى صَهْوَةَ الحُلْمِ حُزْنًا
وَوَدَّعْتُ طِفْلاً بِقَلْبِيَ عَقَّا
تَرَكْتُ وَرائِي كَلامًا كَثِيرًا
وَرَمْلاً كَثِيفَ الظِّلالِ وَرِقَّا
وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الدُّرُوبَ رَمَتْنِي
إلَى شَاهِقٍ مِنْ زَمانٍ مُنَقَّى
وَراءَ جِبَالٍ غَفَتْ خَلْفَ بَحْرٍ
بها غابِرٌ عامِرٌ لَيْسَ يُرْقَى
عَلا أَسْرُجَ الخَيْلِ، يَبْغِي هِلالاً
هَوَى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَارْتَدَّ أَلْقَا
بَنَى أَجْنُحًا لِلرِّيَاحِ، وَبَيْتًا
بِهِ الرُّوحُ شَادَتْ صُرُوحًا وَأَبْقَى
حُرُوفًا مُسَطَّرَةً كَالقَوَافِي
وَنَظْمًا عَلَى هَامِ مَنْ هَامَ عِشْقَا
هُنا رحْلَةٌ في رُبُوعِ حَكايا
لَها أَوّلٌ لَيْسَ يَفْنَى، فَيَبْقَى
كَلامًا عَلَى القَلْبِ، إذْ عَزَّ قَوْلٌ
تَصَوَّبَ غَيْثٌ عَلَيْهِ فَرَقَّا
هُنَا خُطْوَةٌ دَرَسَتْ فِي تُرابٍ
هُنَا آيَةٌ تَرْفَعُ الرَّايَ فَوْقَا
تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا تَلَظَّتْ
بِنَارِ جَهَنَّمَ فَازْدَدْتُ حَرْقَا
حَمَلْتُ مَعِي شَهْقَةً مِنْ بِلادٍ
تَقِي شَاعِرًا زادَهُ الغَرْبُ شَهْقَا
تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا وَدَمْعًا
جَرَى مِنْ شُجُونِ العُيُونِ، فَشَقَّا
عَلَيَّ الرَّحِيلُ، لِبَعْضِ زَمانٍ
يُذَكِّرُنِي بِالَّذِي سَوْفَ أَلْقَى
فَيَا أيُّهَا الطَّيْرُ دَعْنِي أُغَنِّي
وَخُذْ بَعْضَ لَحْنِي لِقَلْبِكَ خَفْقَا
كَلامُكَ رَجْعُ حُرُوفٍ تَوارَتْ
عَنِ السَّمْعِ، يا طَيْرُ بِاللّهِ رِفْقَا
فَإنِّي، وَإنْ زَانَ قَوْلِيَ سِحرٌ
فَقَدْ كَذَبَ السِّحْرُ، لَوْ كانَ صِدْقَا
إذا حَمَلَ الطَّيْرُ غَرْبًا فُؤَادِي
فَيَا عَجَبَ القَلْبِ يَزْدادُ شَرْقَا
***
من مجموعة: "لغة أم"، منشورات زمان، القدس 2006
***
كَمَنْ شَدَّهُ الحُلْمُ، أَوْ رَامَ نُطْقَا
وَيَمَّمْتُ وَجْهِيَ صَوْبَ رُبُوعٍ
نَمَتْ فِي الجَنَانِ، فَأَوْرَقَ رَوْقَا
وَأَعْمَلْتُ فِكْرِيَ بَعْضَ نَهَارٍ
بِمَا أَوْرَثَ البَحْرُ فِي الأَرْضِ أُفْقَا
وَرُوحًا سَمَتْ فَوْقَ مَوْجٍ كَطَيْرٍ
تَسَلَّقَ حَبْلَ الرِّياحِ، فَأَلْقَى
عَلَى الغَرْبِ نَجْمًا، وَمَالَ فَثَنَّى
عَلَى الشَّرْقِ غَيْثًا، وأَشْعَلَ بَرْقَا
رَكِبْتُ ضُحًى صَهْوَةَ الحُلْمِ حُزْنًا
وَوَدَّعْتُ طِفْلاً بِقَلْبِيَ عَقَّا
تَرَكْتُ وَرائِي كَلامًا كَثِيرًا
وَرَمْلاً كَثِيفَ الظِّلالِ وَرِقَّا
وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الدُّرُوبَ رَمَتْنِي
إلَى شَاهِقٍ مِنْ زَمانٍ مُنَقَّى
وَراءَ جِبَالٍ غَفَتْ خَلْفَ بَحْرٍ
بها غابِرٌ عامِرٌ لَيْسَ يُرْقَى
عَلا أَسْرُجَ الخَيْلِ، يَبْغِي هِلالاً
هَوَى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَارْتَدَّ أَلْقَا
بَنَى أَجْنُحًا لِلرِّيَاحِ، وَبَيْتًا
بِهِ الرُّوحُ شَادَتْ صُرُوحًا وَأَبْقَى
حُرُوفًا مُسَطَّرَةً كَالقَوَافِي
وَنَظْمًا عَلَى هَامِ مَنْ هَامَ عِشْقَا
هُنا رحْلَةٌ في رُبُوعِ حَكايا
لَها أَوّلٌ لَيْسَ يَفْنَى، فَيَبْقَى
كَلامًا عَلَى القَلْبِ، إذْ عَزَّ قَوْلٌ
تَصَوَّبَ غَيْثٌ عَلَيْهِ فَرَقَّا
هُنَا خُطْوَةٌ دَرَسَتْ فِي تُرابٍ
هُنَا آيَةٌ تَرْفَعُ الرَّايَ فَوْقَا
تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا تَلَظَّتْ
بِنَارِ جَهَنَّمَ فَازْدَدْتُ حَرْقَا
حَمَلْتُ مَعِي شَهْقَةً مِنْ بِلادٍ
تَقِي شَاعِرًا زادَهُ الغَرْبُ شَهْقَا
تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا وَدَمْعًا
جَرَى مِنْ شُجُونِ العُيُونِ، فَشَقَّا
عَلَيَّ الرَّحِيلُ، لِبَعْضِ زَمانٍ
يُذَكِّرُنِي بِالَّذِي سَوْفَ أَلْقَى
فَيَا أيُّهَا الطَّيْرُ دَعْنِي أُغَنِّي
وَخُذْ بَعْضَ لَحْنِي لِقَلْبِكَ خَفْقَا
كَلامُكَ رَجْعُ حُرُوفٍ تَوارَتْ
عَنِ السَّمْعِ، يا طَيْرُ بِاللّهِ رِفْقَا
فَإنِّي، وَإنْ زَانَ قَوْلِيَ سِحرٌ
فَقَدْ كَذَبَ السِّحْرُ، لَوْ كانَ صِدْقَا
إذا حَمَلَ الطَّيْرُ غَرْبًا فُؤَادِي
فَيَا عَجَبَ القَلْبِ يَزْدادُ شَرْقَا
***
من مجموعة: "لغة أم"، منشورات زمان، القدس 2006
***
لحن: مروان عبادو * أداء: ڤيولا راهب
الأحد، 30 نوفمبر 2008
وضع النّقاط على الحروف المبهمات
سلمان مصالحة
وضع النّقاط على الحروف المبهمات
ما كنت لأردّ بهذه
المقالة لأنّي أؤمن بفتح الأبواب على مصاريعها للآخرين كي يلجوا منها، ويدلوا
فيها بدلوهم في نقاش منفتح وصريح إلى أبعد الحدود. غير أنّ المقالة الّتي كتبها
د. أفنان القاسم تقديمًا لمقابلة إلكترونيّة معي نشرها على موقعه الخاص استثارت
لديّ بعض النّقاط الّتي رأيت ألاّ أمرّ عليها مرّ الكرام، لما فيها من إيضاح لبعض
الجوانب الّتي يتخبّط فيها الكاتب من جهة، وما تشكّله هذه التّخبّطات من سمة
مميّزة للكثير من الكتّاب العرب في هذا الأوان.
ولأنّي أحترم لغتي العربيّة بما
تمثّله في من دلالات ذهنيّة فأنا لا ألقي الكلام على عواهنه، بل أنتقي الكلمات
بتؤدة لما فيها من معاني واضحة الدّلالة لا يمكن أن تُفسَّر إلاّ على الوجه الّذي
أقصده مع حريّة الاتّساع في المعاني والدّلالات الّتي قد تفسح لها هذه المفردات
والمصطلحات. من هنا نبدأ: يستهلّ د. أفنان القاسم كلمته بمقولة أضحكتني كثيرًا،
حيث وسمني بكوني "ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". إذ يبدو لي أنّ الّذين أدمنوا
على تمثيل دور "الضحيّة" في كلّ شاردة وواردة لم يعودوا يفرّقون بين معاني
وسياقات استعمالها.
ولمّا كنت لم أشعر أو لم أكن في يوم من الأيّام، على الأقلّ
منذ أن بلغت سنّ الرّشد، ضحيّة لأيّ شيء فإنّ وسمي بكوني ضحيّة قد أضحكني كثيرًا.
هذا ناهيك عمّا جاء لصيقًا بهذه التّسمية، أي "من ضحايا الفكر السّائد". ولمّا
كنت عربيّ النّشأة أمميّ الأهواء في الآن ذاته، أعيش في وطني وأكتب بلغتي، لغتنا
جميعًا الّتي احترمها بخلاف الآخرين الّذين يحتقرونها ويشوّهونها ليل نهار، فلا
أدري ما الّذي يرمي إليه الدكتور القاسم باصطلاح "الفكر السائد". أيّ فكر هذا،
وأين هو سائد؟ هل هو "الفكر السائد" عند العرب، أم شيء آخر؟ وهل يمكن أصلاً
الإشارة إلى فكر وإلى سيادة عند العرب في هذا العصر؟
ربّما كان من المفيد
التّذكير والتّأكيد مجدّدًا على أنّه لا يمكن أن ينتج فكر بمعزل عن الحريّة.
ولمّا كانت المجتمعات في البلدان العربيّة من أقصاها إلى أقصاها تعيش في أنظمة من
الكبت السّياسي والاجتماعي والثّقافي فلا يمكن أن تنتج هذه المجتمعات وهذه
البلدان فكرًا أو ثقافة أو علمًا بأيّ حال من الأحوال، مهما تبجّح المتبجّحون
ومهما دغدغوا عواطف الأجيال الشّابّة ببلاغة عربيّة تليدة وبليدة في آن معًا.
الكبت لا تمارسه الأنظمة فحسب، بل يمكن أن نقول إنّ الكبت الّذي تمارسه بعض
التّيّارات، السّائدة حقًّا، ثقافيًّا واجتماعيًّا على الفرد هو في الكثير من
الأحيان أشدّ وطءًا عليه من كبت الأنظمة ذاتها.
إذن، ما هو "السّائد" في هذه
الأقطار والمجتمعات؟ يمكن أن أجمل هذا السّائد، وبخطوط عريضة، في تيّارين اثنين
لا ثالث لهما في هذا الغار المظلم. التّيّار الأوّل هو جوقة المثقّفين المرتزقين
المصفّقين لهذه الأنظمة الكابتة على اختلاف درجات كبتها بين قطر عربيّ وآخر.
والثّاني هو تيّار ليس أقلّ إيلامًا على النّفس من سابقه، وأعني به تيّار
الإسلامويّين ومن يتّبعهم من الغاوين من فلول مراهقي العروبة وفتات اليسار العربي
الّذي لم يطرح في يوم من الأيّام نفسه بديلاً حقيقيًّا في هذه المجتمعات ولهذه
المجتمعات، بل كان دومًا متعاونًا مع الأنظمة المستبدّة ومع الاستبداد المجتمعي
الّذي لم يجرؤ أبدًا على زعزعة أركانه المحافظة. لو أنّي كنت أنتمي إلى أحد هذين
التّيارين السّائدين في المجتمعات العربيّة لكان من حقّ الدكتور القاسم أن يسمني
بـ"ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". يجدر هنا أن أذكّر الدكتور القاسم وكلّ هؤلاء
الغارقين في هذه المقولات أنّ مواقفي الصّريحة الّتي تقف في موقع نقيض لهذين
التّيارين الآنفين تسحب البساط من تحت هذا النّوع من المقولات المضحكة حقًّا.
لكن، ما لي وهذا الكلام إذ ها هو يناقض نفسه بنفسه لاحقًا، حين يصفني بكوني أكتب
"من خارج المكان فيما يخصّ مسائلنا وهمومنا".
فإذا كنت أكتب من خارج المكان بخصوص
مسائلنا وهمومنا، فهذا يعني أنّي أقف في موقع هو نقيض من السّائد، أليس كذلك؟ ثمّ
إنّي لا أعرف ما الّذي يحدو بالكتّاب العرب إلى تأبّط الكلام بنون الجمع هذه:
مسائلنا وهمومنا. مسائل من، وهموم من، يا أستاذ؟ يبدو أنّ سطوة اللّغة الفصحى
المكتوبة، غير المحكيّة، على ذهنيّة الكُتّاب العرب تفقدهم صوابهم أحيانًا، إذ
يميلون إلى الظنّ في قرارة أنفسهم أنّهم صاروا جزءًا من جسم كبير محدّد المعالم،
بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا. وفي ظنّي، إنّ الاحتماء "السّائد" بنون الجمع
هذه في الكتابات العربيّة هي جزء من ذهنيّة الهرب من مواجهة الواقع في البيئة
القريبة من الكاتب ذاته الّذي يستخدمها. وأعترف هنا أيضًا، وفي هذه النّقطة،
أنّني فعلاً "ضحيّة" من ضحايا هذا الاستخدام باللّغة العربيّة، إذ أجد نفسي أنا
أيضًا مستخدمًا هذه الـ"نحن" أحيانًا. لكن، في كلّ ما عدا ذلك، فلست ضحيّة ولا
أريد أن أكون ضحيّة. وإذا كنت ضحيّة فأنا ضحيّة من ضحايا ذاتي لا ضحيّة من ضحايا
غيري. إنّ دور الضّحيّة هذا أتركه لمن يرتأيه من أناس غيري. هل يُفهم المقروء؟
لقد أسلفت من قبل أنّي أحترم لغتي العربيّة وأحترم الكتابة بها لأنّي أحترم
القارئ أوّلاً وقبل كلّ شيء. ولهذا السّبب فإنّي أنتقي كلامي بتؤدة وأحاول صوغ
الكلام بدقّة، قدر استطاعتي، كي لا تلتبس المعاني على القارئ فلا يعرف مقصدي ولا
يفقه ما أنا ذاهب إليه في مقالتي. إنّ ما يثير في نفسي الحزن هو هذه الحال
الذّهنيّة العربيّة الّتي يشكّل الأستاذ أفنان القاسم مثالاً صارخًا لها. ما
أقصده هنا هي حال الضّحالة، إن لم تكن هذه إعاقة بنيويّة، في فهم المقروء كما
تتجلّى في أقوال الأستاذ أفنان القاسم حين يقول عنّي مستندًا إلى إجاباتي ما يلي:
"ويذهب في تصوره البراني إلى حد يلامس فيه الخطورة عندما يعتبر القضية الفلسطينية
واحدة من بين قضايا ليست أهمها، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإستراتيجية
الإسرائيلية...".
كيف وصل الأستاذ أفنان القاسم إلى هذا الفهم؟ لا أدري. لقد كان
كلامي واضحًا إلى أبعد الحدود، فمن أين جاء بهذا الفهم إذن؟ إنّه هو نفسه الّذي
يسأل عن "القضيّة"؟ أمّا كلامي الّذي صغته في إجابتي على سؤاله فهو واضح لا يمكن
الالتباس فيه. إنّه هو نفسه الّذي يستخدم مصطلح "القضيّة الفلسطينيّة"، أمّا أنا
فقد حذّرت في إجابتي من هذا الاستخدام الشّائع في الإعلام العربي، مُذكّرًا
الجميع أنّه: "عندما يدور الحديث عن قضيّة يتحوّل الموضوع إلى تمرين ذهنيّ، أو
ربّما مسألة مجرّدة تحتمل الجدل فيها بعيدًا عن الأبعاد الإنسانيّة. فإذا كانت
"فلسطين" قضيّة فهناك الكثير من القضايا الأخرى، ومثلما يتمّ تقديم البحث أو
تعليق بعض القضايا لأسباب متعلّقة بمصالح هذا النّظام أو ذاك حفاظًا على رؤوسه،
كذا هي "القضيّة الفلسطينيّة"، قد تلحّ أحيانًا وقد تتأخّر لأنّ قضايا المنطقة
كثيرة وعويصة وهنالك ما هو ألحّ للتّعامل معه. وفي أثناء ذلك يتمّ تناسي البشر
والشّجر والحجر"، كما ورد حرفيًّا في إجابتي على سؤاله. أليس كلامي هذا واضحًا؟
الحقيقة الّتي لا بدّ من مواجهتها في هذا السّياق هي أنّ الفلسطينيّين وطوال عقود
من الزّمن، ولأسباب عديدة لن نطرق أبوابها الآن في هذه العجالة، قد أدمنوا الجلوس
في خانة الذّهنيّة الاتّكاليّة. ليس هذا فحسب، بل يظنّون أنّهم مركز العالم، أو
على الأقلّ مركز العالم العربي الّذي هو في الواقع عالم "لا يعرف أَساسُهْ مِنْ
راسُهْ"، كما شاع القول في لهجتنا الدّارجة.
وإذا كانت البلاغة العربيّة، الّتي
قد يقرؤها، يسمعها أو يشاهدها هنا وهناك في الصحافة والإعلام العربي من الكلام
المعسول الّذي يجيء من التّيّارين الآنفين اللّذين ذكرتهما سابقًا حول فلسطين وما
إلى ذلك، تُدغدغ مشاعره، فهنيئًا له بهذه الدّغدغة. لقد نسي، أو تناسى، أنّ هذه
الأنظمة قد تركت للنّاس هذه "القضيّة الفلسطينيّة" بصفتها عظمة يتلهّون بها صباح
مساء، بشرط أن لا يقربوا الأنظمة الفاسدة والمُفسدة في بلادهم.
لقد وصلت إلى
قناعة منذ زمن أنّ كلّ أولئك الصّارخين عن فلسطين في الإعلام العربي لا يعرفون
فلسطين في الحقيقة، لا يعرفون أهلها، لا يعرفون بشرها، وبرها، شجرها وحجرها.
إنّها صيحتهم الوحيدة المسموح لهم بها (وخاصّة في تلك الفضائيّات المنطلقة من
أكبر القواعد العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط، أو تلك الصّحف الزّاعقة من
لندن والّتي لا ندري من يموّلها أصلاً، إذ تنعدم فيها الإعلانات التّجاريّة)،
بينما هم في قرارة أنفسهم يصيحون ضدّ الظّلم والقهر في بلدانهم. المحافظون الجدد
يسمّون هذه "الفوضى البنّاءة". هذه هي الحقيقة العربيّة المرّة، أليس كذلك؟
وعلى
كلّ حال، أنتظر أنا مثلما ينتظر الآخرون أن يشرح لنا الأستاذ القاسم ما هي هذه
"القضيّة الفلسطينيّة" الّتي يسأل عنها. هل هي التّحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي،
وإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع إلى جانب إسرائيل واعتراف متبادل بين
دولتين؟ أم أن "القضيّة" هي القضاء على دولة إسرائيل وتسفير اليهود إلى ما وراء
البحار؟ إنّه مُلزم، مثلما أنّ الجميع ملزمون، في الحالتين بإعطاء إجابات صريحة
للذّات أوّلاً، ثمّ للنّاس الأقربين ثانيًا ولسائر العالم في نهاية المطاف.
إذا
كان من الصّنف الأوّل فعليه أن يصارح الملأ من أبناء قومه بذلك ودون لفّ ودوران،
وإذا كان من الصّنف الثّاني، فليقلها أيضًا صراحة. لكن، ليعرف أيضًا إنّه في حال
كهذه لن يجد أحدًا في العالم متعاطفًا معه ولا مع "قضيّته"، مهما ساءت أحواله
وأحوالها. وإذا كان يعتقد أنّ قضيّته هي قضيّة مركزيّة، فهو مخطئ، فالعالم مشغول
بكثير من القضايا، وما قضيّته هذه سوى واحدة من قضايا كثيرة أخرى تشغل الآخرين.
أليس العراقيّ مشغولاً بعراقه أوّلاً؟ أليس اللّبنانيّ مشغولاً بلبنانه أوّلاً؟
أليس السّودانيّ والمصري مشغولين بمصرهما وسودانهما؟ وكذا المغربي واليمنيّ إلى
آخر القائمة. وكذا هو العالم الآخر من حولنا.
وفي نهاية المطاف لن يَقلع لك أحد
الأشواك من يديك، فما عليك إلاّ أن تقلعها بنفسك. لقد عانى الشّعب الفلسطيني
كثيرًا من فساد قياداته وزعاماته السيّاسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، لقد عانى
كثيرًا من جبن مثقّفيه وارتزاقهم، لقد عانى كثيرًا من قراءة الواقع وقراءة العالم
المعاصر، لقد عانى كثيرًا من جهله واتّكاليّته. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن يسمع
أصوات أخرى تكلّمه صراحة ودون غمز أو لفّ ودوران. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن
يتحرّر سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ومن حقّه أن يكون كسائر الشّعوب
المتحضّرة. أمّا اتّهامي باستخدام "لغة غوغائيّة"، فهو أكثر إضحاكًا ممّا سلف. إذ
أنّ القارئ النّبيه البصير سيقرّر بنفسه، لغة مَنْ منّا هي الغوغائيّة.
وأخيرًا،
وكي أضع النّقاط على الحروف المبهمات، ها أنا من موقعي هذا، هنا في وطني، ورغم
كلّ إشكاليّات هذا الموقع الّذي أعيش فيه وأكتب منه وفيه وله، أقول بصريح العبارة
إنّي أقف ضدّ الصّهيونيّة العنصريّة، مثلما أقف في الوقت ذاته ضدّ القومويّة
العربيّة العنصريّة، وضدّ كلّ قومويّة عنصريّة أخرى. يجب أن نقولها كلمة صريحة
على الملأ: إنّ القومويّة على جميع تفرّعاتها وأشكالها هي داء نفسيّ عضال يضرب
ذهن البشر فيصيبهم بالشّلل الفكري ويتركهم في حال بدائيّة لا يستطيعون الفكاك
منها. وهي، أي القومويّة العنصريّة، داء طالما جلب الويلات على من يحمل في ذهنه
هذا الڤيروس.
وهذا الكلام لا يعني طبعًا الانتماء الطّبيعي إلى مجموع حضاري معيّن
من البشر قد يختلف عن الآخرين لكنّه يبقى مؤتلفًا معهم في الانتماء إلى هذه
البشريّة الّتي ننشد الخير لها جميعًا على هذه الأرض، وفي السّماء أيضًا. لقد قلت
هناك إنّ علينا أن نتصارح كي نتصالح. والآن، أما آن الأوان بعد للقوم الّذين
أنتمي إليهم لمعالجة هذا الدّاء والشّفاء منه؟ والعقل وليّ التّوفيق!
يوليو 2008
***
المقالة في إيلاف المقالة في الشفاف
يوليو 2008
***
المقالة في إيلاف المقالة في الشفاف
الاثنين، 24 نوفمبر 2008
هل هي حقًّا جامعة دول عربيّة، أم عبريّة؟
سلمان مصالحة ||
هل هي حقًّا جامعة دول عربيّة، أم عبريّة؟
لا يستغربنّ أحدٌ
هذا العنوان المتعلّق بجامعة الدّول العربيّة! وكما وعدتكم في المقالة السّابقة، "قد ينجح الكسلان"، فها أنا أفي بوعدي الآن. فما سنكشفه للقرّاء الكرام في هذه المقالة سيزيل الغشاوة عن أعينهم وسيجدون فيه الإجابة الواضحة على هذا السؤال.
لقد شاع قول العرب: الإناء ينضح بما فيه. ولأنّي، بخلاف هؤلاء النّفر من البشر في الجامعة العربيّة، لا أكتفي بإلقاء الكلام على عواهنه، فقد درجت على طريق الاستقراء والتّقصّي. وهكذا عقدت العزم على شدّ رحالي إلى إناء جامعة الدّول العربيّة ابتغاء معرفة ما ينضح به إناؤها، وعرض ما استخلصه من نتائج على القرّاء الكرام. وما غرضي من وراء ذلك إلاّ ليكون القرّاء العرب في كلّ مكان على بيّنة من أمرهم، على بيّنة من أمر سيّداتهم وساداتهم. والإناء الّذي أقصده، هو موقع جامعة الدّول العربيّة على شبكة الإنترنت. نعم، فهذه المؤسّسة الّتي يُطلقون عليها اسم "الجامعة"، قد أوصلت هذا المصطلح إلى حضيض يصعب تصديقه.
أوّلاً: ما هي القدس؟
كثيرًا ما يتشدّق العرب بأهميّة القدس في الوجدان العربي والإسلامي، غير أنّ الشّعارات الرنّانة شيء والحقيقة شيء آخر مختلف تمامًا. فها قد نما إلى أسماعنا في الآونة الأخيرة خبر اختيار القدس عاصمة للثقافة العربيّة لسنة 2009، وسرعان ما أثيرت تساؤلات حول الموضوع وحول اللجنة المنظّمة، ثم قرأنا عن حدوث استقالات البعض منها وما إلى ذلك من طرائف ونكات عربيّة عاديّة في مثل هذه الحالات. والحقيقة الّتي لا مناص من طرحها هنا هي أنّ العرب، على العموم، عندما يذكرون القدس فإنّما يذكرونها كمجرّد شعار ليس إلاّ. إذ لا أحد منهم يعرف حدود هذه المدينة، أين تبدأ وأين تنتهي. فهل هي يا ترى حدود بلديّة القدس حينما كانت ضمن المملكة الأردنيّة الهاشميّة قبل حرب حزيران 67، أم هي الحدود الّتي تفرضها إسرائيل والاحتلال الإسرائيلي الآن بعد عقود من هذا الاحتلال؟ وماذا تقول السّلطة الفلسطينيّة حول هذه المسألة، وما هي الحدود الّتي ترسمها هذه السّلطة الفلسطينيّة للقدس؟ إنّها أسئلة لا بدّ من طرحها على الملأ، لكي نكون على بيّنة من أمرنا، لكي نعرف ما هي القدس الّتي نتحدّث عنها.
أمّا جامعة الدّول العربيّة، وعلى ما يبدو، فإنّها ترى الأمور بصورة أخرى. على الأقلّ، هذا ما قد يخرج به القارئ الّذي يزور موقع هذه "الجامعة" المزعومة والمأزومة في آن. فعلى سبيل المثال تحاول المادّة الضّحلة في موقع الجامعة أن تتعرّض لطوبوغرافيا المدينة، فماذا نقرأ عن القدس؟ هذا ما يرد: "أراضيها تلال صخرية قليلة الارتفاع تحيط بها الاودية القليلة العمق مثل وادي جهنم من الشرق ووادى الحبانيين من الغرب، ووادى الربابة من الجنوب". ألا يثير هذا الكلام السّخرية؟ إنّ موظّفي الجامعة على ما يبدو لا يعرفون من القدس غير الاسم والشّعار. إنّهم يعتقدون أنّ القدس هي فقط تلك المساحة الصّغيرة الّتي تقع داخل أسوار المدينة القديمة، أي حدود القرن السّابع عشر. فهنيئًا، إذن، لهؤلاء الجهلة بما يعرفونه عن مدينة القدس وحدودها وبما يقدّمونه لزوّار موقعهم! أليس من الأجدر أن نقول لهؤلاء: ألا ابتلعتكم جهنّم وواديها!
وكيف نعرف أنّ القدس تعني لهم فقط تلك المدينة الواقعة بين الأسوار؟ ها هم عندما يذكرون المواقع الهامّة في القدس يشيرون إلى الحرم الشّريف: "الحرم الشريف: كان وما زال البؤرة الرئيسية فى تخطيط المدينة...يقع فى الطرف القبلى شرق مدينة القدس". إضافة إلى هذه اللّغة الرّكيكة، بوصفهم الحرم بالبؤرة، لأنّهم يترجمون حتّى هذا الأمر عن لغات أخرى ولم يكتبوه أصلاً باللّغة العربيّة، فإنّهم يحدّدون موقعه في الطّرف القبلي شرق مدينة القدس. هكذا، إذن، شرق مدينة القدس!! ألا يعني هذا أنّهم لا يعرفون مدينة القدس؟ إنّهم يعتقدون أنّ القدس هي فقط تلك المساحة الضّيّقة داخل الأسوار القديمة. وإذا كانوا كذلك، أليس من حقّنا أن نقول عن ربع الجامعة العربيّة، بمثل لغتهم، ما يلي:
جامعة الدّول العربيّة كانت وما زالت البؤرة الرّئيسيّة في إشاعة الجهل بين العرب.
ثانيًا: كذلك، ولأنّ رهط الجامعة العربيّة
يدافعون عن مدينة القدس، وهي المدينة الّتي لا يعرفون عنها شيئًا، فإنّهم يُطلقون الشّعارات كيفما اتّفق. هل تريدون دررًا من موقعهم؟ هاكم، إذن: "كما ورد بالوثائق المنقوشة ذكر القدس باسمها القديم (أورشليم) في نصوص مصرية فرعونية... وهذه النقوش بالخط المسماري ومدونة باللغة الآرامية عثر عليها في تل العمارنة... وفيما يتعلق بالأدلة اللغوية فان اسم أورشليم ليس عبريًّا..." (نقلاً عن: موقع الجامعة العربيّة). طيّب، قد نتفهّم نحن هذه النّخوة العربيّة. لكن وعلى ما يبدو فإنّ هؤلاء الجهلة في جامعة الدّول العربيّة لا يقرؤون العربيّة ولا علاقة لهم حتّى بالتّراث العربي المكتوب باللّغة العربيّة. فلنذهب نحنُ إذن إلى هذا التّراث ولننظر فيه قليلاً، فماذا نجد فيه بخصوص أورشليم هذه؟
لنقرأ معًا ما ذكره لنا السّلف: "أوريشلم: بالضم ثم السكون وكسر الراء وياء ساكنة وشين معجمة مفتوحة ولام مكسورة... هو اسم للبيت المقدس بالعبرانية،... وقال أبو عبيدة: هو عبراني معرب" (نقلاً عن: ياقوت الحموي، معجم البلدان). أمّا الخوارزمي فيقول: "إيليا، هي مدينة بيت المقدس، وهي بالعبرانية أورشليم" (نقلاً عن: الخوارزمي: مفاتيح العلوم).،وكذا يقول الفيروزاباذي: "وشلم: اسم بيت المقدس ممنوع للعجمة وهو بالعبرانية أورشليم" (نقلاً عن: الفيروزاباذي: القاموس المحيط). وكذا هي الحال في لسان العرب وتاج العروس: "شلم... وهو موضع بالشأم كما في الصحاح قال ويقال هو اسم مدينة بيت المقدس بالعبرانية، ممنوع من الصرف للعجمة ووزن الفعل، وهو بالعبرانية أورشليم. (نقلاً عن: تاج العروس، ولسان العرب)، وبالإضافة إلى ذلك يذكر ابن منظور: "ويُقال أيضًا: إيلياء وبيت المقدس وبيت المكياش..." (نقلاً عن: لسان العرب، مادة: شلم). فما هو "بيت المكياش" هذا الّذي يورده لسان العرب اسمًا للقدس؟ يذكر محقّقو لسان العرب في هامش المعجم إنّها وردت كذا بالأصل المخطوط. على ما يبدو فإنّهم لم يعرفوا كيفيّة قراءة هذه الكلمة في المخطوط عندما قاموا بتحقيق المعجم، وقد تحدث أخطاء قراءة كهذه لدى العمل على تحقيق المخطوطات. غير أنّي أقول لهؤلاء: إنّ هذا التّعبير في الحقيقة تعبير مأخوذ من اللّغة العبريّة، والتّعبير هو "بيت المكداش" (بيت المقدس)، أي الهيكل، هيكل سليمان. فليصحّحوا إذن هذا التّعبير في الطّبعات الجديدة الّتي سيصدرونها من معجم لسان العرب.
ثالثًا: ولا يكتفي موقع الجامعة بذلك،
بل ولأنّ هؤلاء العاملين في الجامعة هم من أصحاب النّخوة العربيّة المعروفة فهم يضيفون: "وأهل القدس، عندما طالعهم عمر بن الخطاب، كانوا عربًا ينطقون باللغة العربية، أي أن عروبة المدينة كانت قائمة راسخة قبل الدخول السلمي العمري بأمد طويل". أمّا نحن فلا ندري من أين جاء هؤلاء بهذه المعلومة، فلا شكّ أنّها تشكّل فتحًا علميًّا عربيًّا جديدًا. ولأنّ هؤلاء الكسالى في جامعة الدّول العربيّة لا يقرؤون، فها نحن نختصر الطّريق عليهم، فنذكّرهم بما يروي لنا السّلف الصّالح.
لنقرأ معًا الاقتباس التّالي ممّا يرويه لنا الواقدي: "فلما كان في اليوم الخامس، وقد صلى المسلمون صلاة الفجر، كان أوّلَ من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيدُ بن أبي سفيان، فشهرَ سلاحَه وجعلَ يدنو من سورهم وقد أخذَ معه تُرجمانًا يبلغه عنهم ما يقولون، فوقفَ بإزاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون. فقال لترجمانه: قُلْ لَهُم أميرُ العرب يقولُ لَكُم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام..." (نقلاً عن: الواقدي، فتوح الشام). فإذا كان أهل القدس "عربًا ينطقون باللّغة العربيّة"، كما يذكر موقع الجامعة العربيّة، فما حاجة "أمير العرب"، إذن، إلى ترجمان؟ هل رغب "أمير العرب" في أن يُفسّر له هذا التّرجمان "الماءَ بعدَ الجُهد بالماء"، كما قال الشّاعر؟ ربّما.
ليس هذا فحسب، بل عندما يذكرون تحرير القدس من الصّليبيّين، ماذا يكتبون: "تم تحريرها على يد البطل العربى صلاح الدين الايوبى...". فهل هذا كلام يا سادة؟ فمنذ متى صار صلاح الدّين عربيًّا؟ إنّه بطل، صحيح وعلى الراس فوق العين! إنّه مسلم، صحيح وعلى الرّاس فوق العين! لكن، لماذا تسلبونه من الأكراد؟ أليس من حقّ الأكراد على الأقلّ أن يُفاخروا به وبانتمائه إليهم؟ وإزاء هذه السّخافات، أما آن الأوان لفرض الجمارك على الكلام الخارج من أفواه هؤلاء التّافهين؟
رابعًا: لقد أفرد موقع هذه "الجامعة"،
الّتي تدّعي أهميّة القدس في الوجدان العربي، خانة للقدس تحتوي على معلومات أقلّ ما يقال عنها أنّها تتّسم بالضّحالة، إضافة إلى صياغة المواد بلغة عربيّة ركيكة مليئة بالأخطاء. لكنّ المفاجأة الكبرى، هي ما يذكره هذا الموقع من أنّ فريقًا خاصًّا عمل على إعدادها، حيث ينصّ الموقع على ذلك صراحة أنّها من: "اعداد: ادارة الشئون الاسرائيلية - قسم متابعة شئون القدس". هكذا، إذن. أليس في ذلك اعتراف من هذه "الجامعة" الّتي لا يمكن إلاّ أن تتّصف بالهبل، بأنّ القدس هي شأن من الشؤون الإسرائيليّة الّتي تفرد لها الجامعة فريقًا مختصًّا بهذه الشّؤون. ولماذا يا ترى لا يوجد لدى هذه الجامعة فريق مختصّ وإدارة مختصّة للشّؤون الفلسطينيّة، والّتي من المفروض أن تكون هي المسؤولة عن هذه الأمور المتعلّقة بالقدس، وعلى عاتقها تُلقى هذه المهمّات؟ هل القدس تابعة للقضايا والشؤون الإسرائيليّة لدى الجامعة العربيّة؟ إنّه مجرّد سؤال، وعليهم الإجابة عنه.
خامسًا: والحديث ذو شجون، كما يقولون،
فقد يسأل سائل: وكيف تعرف أنّهم في الجامعة العربيّة يترجمون عن لغات أخرى؟ فأقول لمن يسأل: لقد أفردوا فصلاً عن الحضارة العربيّة ومقدّمة عن العالم العربي، فماذا نقرأ فيه؟ اسمعوا وعوا: "فهناك جبال أطلس المستقرة في القطاع الشمالي الغربي من قارة أفريقيا... والتي تمثل حاجزا بين صحراء صحاري ومنطقة السواحل". فأيّ تعبير هو هذا: صحراء صحاري؟ أليس هو ترجمة إلى العربيّة من لغات أخرى كانت قد تبنّت المصطلح العربي أصلاً، ويأتي الآن جهلة الجامعة العربيّة لترجمة المصطلح العربي من لغات أخرى إلى العربيّة؟ فما هذا الهبل أيّها السّيدات والسّادة؟
وانظروا في المثال التّالي: "يشتمل الجزء الأكبر من كثافة السكان في العالم العربي والتي تقدر بحوالي 150 مليون نسمة علي شبابا، فان تقريبا نصف الكثافة هي من الشباب تحت سن الخامسة عشر"... هل هذه لغة الجامعة العربيّة العربيّة؟ فهنيئًا لهم بجامعتهم هذه وسائر جامعاتهم الّتي تُخرّج أمثال هؤلاء!
وهاكم المثال التّالي: "فان أغلبية العرب يعيشون في مجموعات كبيرة في المناطق الساحلية، وحول وديان الأنهار". فماذا يعنون بوديان الأنهار؟ قرّروا: إمّا وديان وإمّا أنهار، فالعربيّة لا تحتوي على صيغة كهذه، وديان الأنهار. أليست هذه أيضًا ترجمة عن لغات أخرى.
لكنّنا، عندما نصل إلى الاقتباس التّالي، نفهم ما هو مصدر الرّكاكة اللّغويّة: "تعد الزراعة هي الحرفة الاقتصادية الأساسية في العالم العربي، فمن أهم محاصيل الغذاء التي يستهلكها سكان المنطقة هي القمح، والشعير...". فعلى ما يبدو فإنّ موظّفي الجامعة العربيّة، بوصفهم من سكّان المنطقة، هم أيضًا من مستهلكي الشّعير الّذي أتخم عقولهم. ولهذا السّبب فإنّهم يصلون إلى القول: "يعد العالم العربي اليوم هو بمثابة مجمع غني بتأثيرات عديدة، ومختلفة". فهل هذه لغة عربيّة حقًّا؟ وكذلك: "يعد الوطن العربي من أوائل المستوطنات التي أحس فيها الإنسان بالاستقرار الاجتماعي". لا شكّ إنّه استقرار اجتماعي قد أحسّ به ولا يزال يحسّ به الانسان في الوطن العربي. أليست هذه نكتة مضحكة؟
سادسًا: ولا يكتفي جهابذة الجامعة بذلك،
بل يترجمون تراثهم، نعم تراثهم، أيضًا من لغات أخرى. أنظروا هذه الصّياغة في الاقتباس التّالي: "نشأت في تلك الحقبة من الزمن الأديان السمائية التوحيدية الثلاث... عاش معتنقي الأديان الثلاثة في حب وتآخ علي مر العصور وذلك لأنهم أيقنوا حقيقة أنهم أبناء إله واحد". ليس فقط أنّ الاقتباس شاهد على لغة عربيّة ركيكة، بل فهي مشتملة على مضامين واهمة وواهية في آن معًا نابعة من ترجمة سيئة. فمنذ متى يعتقدون أنّهم أبناء إله واحد؟ هل هذه عقيدة إسلاميّة، يهوديّة، مسيحيّة أم ماذا؟ أم هي عقيدة جديدة تحاول الجامعة العربيّة التّبشير بها؟ ربّما.
هل ترغبون بالمزيد؟ لا بأس، إليكم الاقتباس التّالي: "جاء النبي محمد صلي الله عليه وسلم في القرن السابع بعد الميلاد حاملا رسالة الإسلام، وسرعان ما نشر تابعي محمد الإيمان الإسلامي في الغرب... و أيضا في الشرق. لم يكن تابعي الإسلام هؤلاء، فقط فاتحين بل أيضا لقد أقاموا حضارة جديدة... في عالم راكد ثقافيا وقتذاك". فلو تركنا جانبًا الأخطاء النّحويّة، فهل هنالك عربيّ أو مسلم يحترم نبيّه وتراثه يكتب بهذه الصّياغة؟ أوليست مصطلحات مثل هذه، "تابعي الإسلام" و"تابعي محمد"، ترجمات حرفيّة عن لغات أخرى؟ إذن، ما هو العالم الرّاكد ثقافيًّا في هذا الأوان، أيّها السّيدات والسّادة؟
سابعًا: ومسك الختام، العبريّة.
فقد يسأل بعض القرّاء، وكيف تقول إنّها جامعة عبريّة؟ فأقول لمثل هؤلاء: لا بأس عليكم أيضًا، واليكم البرهان القاطع التّالي. فلنقرأ معًا هذا الاقتباس من موقع الجامعة العربيّة: "يعيش العرب على مساحة واسعة... وبالرغم من أنهم أعضاء واحد وعشرون مدينة مختلفة، ولكن العرب يعتبرون أنفسهم جزء من أمة واحدة".
لنضع مرّة أخرى جانبًا الأخطاء اللّغويّة في الصياغة. لكن، من أين جاؤوا بهذا الكلام القائل إنّ العرب "أعضاء واحد وعشرون مدينة مختلفة"؟ فهل العرب يسكنون في واحد وعشرين مدينة مختلفة فقط؟ كلاّ، إذ، ماذا بخصوص القرى والأرياف والبوادي وغيرها من الأماكن المأهولة؟ إذن، ماذا يقصدون بكلمة مدينة، ومن أين جاؤوا بها؟
والحقيقة هي أنّهم جاؤوا بها من اللّغة العبريّة، فهم يترجمون المادّة عن اللّغة العبريّة، إذ أنّ مصطلح "مدينة" بالعبريّة يعني: دولة. غير أنّ مترجمي الجامعة العربيّة الّذين يترجمون أحوال بلادهم من اللّغة العبريّة، ولكون الكلمة العبريّة "مدينة" ذات جرس عربي وذات دلالة عربيّة شائعة، فقد غاب عن ذهنهم أنّهم يترجمون، فأبقوا الكلمة العبريّة على حالها، بدل استخدام مصطلح "دولة" كترجمة دقيقة لها. وكذلك، فإنّ العدد 21، كما يظهر في الجملة ذاتها، فهو غير صحيح، إذ أنّ العدد الصّحيح هو 22 دولة. وعلى ما يبدو أنّ هذا الخطأ أيضًا نابع من التّرجمة من أصل عبريّ.
هذه هي حقيقة هؤلاء في جامعة الـ"مدينوت" (الدّول) العربيّة.
إذن، هل هذه جامعة عربيّة، أم عبريّة؟
وبعد كلّ ما ذكرنا، أليس من الأجدر أخيرًا أن نتوجّه إليهم باللّغة العبريّة قائلين لهم: شَلُومْ عَلِيخِمْ!
والعقلُ وَليّ التّوفيق!
***
نشرت المقالة في: إيلاف، 28 أكتوبر 2007
السبت، 22 نوفمبر 2008
في مديح المرأة
سلمان مصالحة
في مديح المرأة
يُجمع عماء النّفس على أنّ من يترعرع في بيت عانى فيه من ضرب وعنف فإنّه يميل في الغالب إلى أن يصبح عنيفًا في معاملته مع أبنائه هو بعد أن يبني هو عائلته. أي أنّ طفولة الفرد والظّروف المحيطة به هي ما يشكّل في نهاية المطاف سمة له في حياته البالغة مع أفراد عائلته هو.
إنّ ما ينطبق على الفرد، يمكن أن ينطبق على المجتمعات بأسرها. أيّ أنّ المجموعات البشريّة الّتي تشكّل أقوامًا، أو عائلة مجتمعيّة ذات لغة وماض وحاضر ما، هي في نهاية المطاف بمثابة الفرد في مقابل سائر المجتمعات البشريّة. من هنا فإنّ نزعة العنف القائمة في المجتمعات العربيّة مردّها في نهاية المطاف إلى طفولة حضاريّة عربيّة اكتنفها العنف على مرّ تاريخها.
إنّ ما ينطبق على الفرد، يمكن أن ينطبق على المجتمعات بأسرها. أيّ أنّ المجموعات البشريّة الّتي تشكّل أقوامًا، أو عائلة مجتمعيّة ذات لغة وماض وحاضر ما، هي في نهاية المطاف بمثابة الفرد في مقابل سائر المجتمعات البشريّة. من هنا فإنّ نزعة العنف القائمة في المجتمعات العربيّة مردّها في نهاية المطاف إلى طفولة حضاريّة عربيّة اكتنفها العنف على مرّ تاريخها.
ولهذا السّبب، فعندما تُقيم هذه المجموعة البشريّة كيانًا مجتمعيًّا، ولنطلق عليه مصطلح دولة مثلاً، فإنّ العنف هو الّذي يتحكّم في علاقات الأفراد في هذا الكيان المسخ، وعلى وجه الخصوص في علاقة الحاكم، أي الأب، بالرّعيّة، أي المواطنين. ولهذا السّبب، فإنّ الحاكم العربي يتحدّث إلى المواطنين مستخدمًا صيغة "يا أبنائي"، وهكذا أيضًا ينظر المواطنون شيبًا وشبّانًا إلى الحاكم بوصفه أبًا. فكثيرًا ما نسمع كيف يتوجّه المواطنون العرب إلى الحاكم قائلين: "نحن أبناؤك"، إلى آخر هذه الصّيغ الّتي إن دلّت على شيء فإنّما هي تدلّ على هذه العلاقة المتّسمة بالفوقيّة، من طرف الحاكم، والدّونيّة من طرف المواطن.
ولمّا لم يكن التّدرّج في هذه الكيانات تدرّجًا طبيعيًّا، أي عبر أيّ صيغة من صيغ التطوّر البشري العاقل، وإنّما عبر العنف، على تنويعاته المختلفة، الّذي يوصل إلى سدّة الحكم. أي عبر قانون الغاب فإنّ الحاكم العربيّ يبقى في مركزه مستندًا إلى القوّة، كما هي الحال لدى حيوانات الطّبيعة في الغابة. وبعد أن يشيخ الفحل في الغابة يأتي ليحتلّ مكانه فحل آخر ليفرض هيمنته على الفصيل الحيواني من حوله، أي المواطنين في حال الدّولة العربيّة. غير أنّ ما ينفع في عالم الحيوان الغرائزي في الغابة لا يمكن أن ينفع في حال بني البشر في مسيرة بناء المجتمعات. ولهذا السّبب ما من سبيل أما المجتمعات العربيّة للأخذ بركب التطوّر إلاّ عبر تفكيك هذه البنية الذهنيّة المسيطرة على حكّامها وأفرادها.
ما من شكّ في أنّ هذه الفحولة المزيّفة هي ذاتها الّتي شلّت على مرّ العصور عمل عضو هام في الجسم العربي، ألا وهو المرأة، وهو كما هو معلوم عضو يشكّل نصف جسد المجتمع العربي بأسره. وإذا كان نصف الجسد العربي، أي المرأة، مشلولاً، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تقوم لهذا الجسم العربي أيّ قائمة، بل سيبقى جسمًا مشلول النّصف، وسيظلّ مُقعَدًا وسيظلّ عالةً على سائر الأمم من حوله. وعندما نضيف هذه الحقيقة إلى كون الأنظمة العربيّة أنظمة قمعيّة أصلاً للمجتمعات العربيّة بصورة عامّة، فلن يتبقّى لهذه البقعة من العالم أيّ بصيص أمل للخروج من المأزق البنيوي الّذي تعيش فيه، وهذا في الحقيقة ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع.
ولو نظرنا مثلاً إلى دول إسلاميّة وصلت فيها المرأة إلى أعلى المناصب في الدّولة، مثل بنازير بوتو في الباكستان، أو تانسو تشيلر في تركيا، أو حتّى كما هي الحال في بنغلاديش، فإنّ ما يلفت النّظر هو كون هذه البلاد ليست عربيّة. وبكلمات أخرى، لقد وصلت المرأة هناك إلى أعلى المناصب بسبب هذه الخلفيّة الحضاريّة غير العربيّة أصلاً. لذلك نستطيع أن نخلص إلى النّتيجة الّتي تقول إنّ الذهنيّة العربيّة في الحقيقة هي العائق الأكبر أمام المرأة، وفي نهاية المطاف هذه الذّهنيّة الذّكوريّة الزّائفة هي العائق الأكبر أما تطوّر المجتمعات العربيّة.
لهذا السّبب، فقد آن الأوان أن نرفع صوتنا بالدّعوة إلى أن تحتلّ المرأة العربيّة مكانتها في مقدّمة المجتمع، وبكلمات أخرى، لقد آن الأوان أن تكون المرأة العربيّة رئيسة لدولة عربيّة، وأن تكون المرأة ملكة لمملكة عربيّة. لكن، من أجل أن نصل إلى هذه الغاية علينا أن نغيّر الذّهنيّة الفحوليّة المزيّفة الّتي تسيطر على الرّجل العربي وتشلّ كيانه من المحيط إلى الخليج. لأنّه في نهاية المطاف فإنّ المرأة هي الحلّ.
يناير 2006
***
ولمّا لم يكن التّدرّج في هذه الكيانات تدرّجًا طبيعيًّا، أي عبر أيّ صيغة من صيغ التطوّر البشري العاقل، وإنّما عبر العنف، على تنويعاته المختلفة، الّذي يوصل إلى سدّة الحكم. أي عبر قانون الغاب فإنّ الحاكم العربيّ يبقى في مركزه مستندًا إلى القوّة، كما هي الحال لدى حيوانات الطّبيعة في الغابة. وبعد أن يشيخ الفحل في الغابة يأتي ليحتلّ مكانه فحل آخر ليفرض هيمنته على الفصيل الحيواني من حوله، أي المواطنين في حال الدّولة العربيّة. غير أنّ ما ينفع في عالم الحيوان الغرائزي في الغابة لا يمكن أن ينفع في حال بني البشر في مسيرة بناء المجتمعات. ولهذا السّبب ما من سبيل أما المجتمعات العربيّة للأخذ بركب التطوّر إلاّ عبر تفكيك هذه البنية الذهنيّة المسيطرة على حكّامها وأفرادها.
ما من شكّ في أنّ هذه الفحولة المزيّفة هي ذاتها الّتي شلّت على مرّ العصور عمل عضو هام في الجسم العربي، ألا وهو المرأة، وهو كما هو معلوم عضو يشكّل نصف جسد المجتمع العربي بأسره. وإذا كان نصف الجسد العربي، أي المرأة، مشلولاً، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تقوم لهذا الجسم العربي أيّ قائمة، بل سيبقى جسمًا مشلول النّصف، وسيظلّ مُقعَدًا وسيظلّ عالةً على سائر الأمم من حوله. وعندما نضيف هذه الحقيقة إلى كون الأنظمة العربيّة أنظمة قمعيّة أصلاً للمجتمعات العربيّة بصورة عامّة، فلن يتبقّى لهذه البقعة من العالم أيّ بصيص أمل للخروج من المأزق البنيوي الّذي تعيش فيه، وهذا في الحقيقة ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع.
ولو نظرنا مثلاً إلى دول إسلاميّة وصلت فيها المرأة إلى أعلى المناصب في الدّولة، مثل بنازير بوتو في الباكستان، أو تانسو تشيلر في تركيا، أو حتّى كما هي الحال في بنغلاديش، فإنّ ما يلفت النّظر هو كون هذه البلاد ليست عربيّة. وبكلمات أخرى، لقد وصلت المرأة هناك إلى أعلى المناصب بسبب هذه الخلفيّة الحضاريّة غير العربيّة أصلاً. لذلك نستطيع أن نخلص إلى النّتيجة الّتي تقول إنّ الذهنيّة العربيّة في الحقيقة هي العائق الأكبر أمام المرأة، وفي نهاية المطاف هذه الذّهنيّة الذّكوريّة الزّائفة هي العائق الأكبر أما تطوّر المجتمعات العربيّة.
لهذا السّبب، فقد آن الأوان أن نرفع صوتنا بالدّعوة إلى أن تحتلّ المرأة العربيّة مكانتها في مقدّمة المجتمع، وبكلمات أخرى، لقد آن الأوان أن تكون المرأة العربيّة رئيسة لدولة عربيّة، وأن تكون المرأة ملكة لمملكة عربيّة. لكن، من أجل أن نصل إلى هذه الغاية علينا أن نغيّر الذّهنيّة الفحوليّة المزيّفة الّتي تسيطر على الرّجل العربي وتشلّ كيانه من المحيط إلى الخليج. لأنّه في نهاية المطاف فإنّ المرأة هي الحلّ.
يناير 2006
***
الخميس، 20 نوفمبر 2008
إقرأ، أم اسمع، باسم ربّك؟
سلمان مصالحة
إقرأ، أم اسمع، باسم ربّك؟
جميل جدًّا أن يتحدّث
العرب عن الحداثة. لقد بلغ بهم الأمر وضعًا صار يُخيّل فيه للمرء أن هذه الحداثة مُشتقّة من الحديث ذي الشّجون، أي الكلام الفاضي كما يُقال بلغة العامّة. ولمّا أنْ طالَ بهم، وعلى الأصحّ لَمّا أنْ طالنا، هذا الحديث بجميع تقليعاته، فقد أفضى بهم وبنا، وسبحان من له العلم، إلى العولمة. نعم، هكذا وبدون سابق إنذار انبرى الكتّاب العرب إلى الخوض في هذه المعمعة العولميّة الّتي هي، مثلها في ذلك مثل الحداثة، لا ناقة لهم - لنا - فيها ولا جمل. فالحداثة والعولمة هما نتيجتان بارزتان مباشرتان للمجتمع الصّناعي المتطوّر في عالم ما بعد انهيار الأيديولوجيّات، كما يُشاع. والحقيقة أنّ الأيديولوجيّات لم تنهرْ إنّما بدّلت ملبوسها. ولمّا كان العربان ليسوا من هذا في شيء، فما شأنهم إذن بهذه التّقليعات؟
وللإجابة على هذا السؤال،
لا بدّ لنا أوّلاً من وضع بعض النّقاط على بعض الحروف المبهمات. لقد بدأت الدّعوة الإسلاميّة من القراءة: إقرأ باسم ربّك. وبكلمات أخرى، فالقراءة هي الدّعوة الأساس، هي القائم الّذي بنيت عليه الدّعوة. ولمّا كان أكثر من نصف العربان، وعلى الأقلّ في هذا الزّمان، من الأمّيّين، فحديث مثقّفيهم عن الحداثة، أو العولمة وما إلى ذلك من تقليعات غربيّة، ما هو إلاّ عظمة من بين عظام كثيرة يتلهّون بها في زمن شيوع وسائل الإعلام. غير أنّ نظرة بسيطة على وسائل الإعلام هذه، المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، تضعنا أمام مرآة صقيلة لا تخفي من تجاعيدنا الاجتماعيّة والثّقافيّة شيئًا. فها هي الفضائيّات العربيّة قد اشتقّت هي الأخرى نفسها، كعادة الأشقّاء في الاشتقاق، من الفضاء السّحيق، أي من الكلام الفاضي الّذي يسحقنا صباح مساء. لقد تحوّلت هذه الفضائيّات العربيّات إلى وسائل مسموعة ومرئيّة غايتها بعث الجهل في الأجيال العربيّة. أي أنّنا دخلنا بقدرة قادر، وفي الأساس بقدرة مُقتدرين مموّلين، عصرًا من الجاهليّة الجديدة، وبعبارة أخرى، جاهليّة حداثيّة معولمة في آن معًا.
غير أنّ الكتّاب العرب، ولكونهم بعيدين جدًّا عن أن يكونوا مستقلّين فكريًّا، فمن الصّعب عليهم أن يواجهوا هذه الحقائق الدّامغة، فهم يلهثون دومًا، "لهاثًا حداثيًّا"، وراء الأضواء في قنوات الفضاء. وقنوات المطبوعات الورقيّة والرّقميّة في ذلك سواء.
فإلى أين المفرّ إذن؟
المفرّ من جميع هذه الأوباء العربيّة يُفضي بالمثقّفين العرب إلى الحداثة الغربيّة، وإلى تقليعاتها الّتي تتبدّل هناك كما تتبدّل الملابس الدّاخليّة. أمّا المتتبّع لحال الأجيال العربيّة النّاشئة فإنّه يلاحظ بروز مشاكل عويصة في فهم المقروء العربيّ. وقد سبق وقلنا، إنّ الدّعوة الإسلاميّة كانت بدأت بالقراءة.
فما الّذي أوصلنا إلى
هذا الوضع؟ القضيّة، وبكلّ بساطة، هي أنّ اللّغة العربيّة وخلال تطوّر دام قرون طويلة، وبروز اللّهجات، المختلفة، أحيانًا في بلدة واحدة، لم تعد اللّغة العربيّة لغة أمّ عند العربيّ. وحين نقول اللّغة العربيّة فنقصد بهذا المصطلح هذه اللّغة المكتوبة الّتي تقرؤونها هنا في هذه الصّفحات أو في الكتب أوغيرها من المنشورات. هذه اللّغة المكتوبة لم تكن في يوم من الأيّام لغة أمّ لأيّ عربيّ من محيطه إلى خليجه. هذه اللّغة هي لغة مُكتَسَبة وشأنها في ذلك شأن أيّ لغة أجنبيّة أخرى.
ولهذا السّبب، لا تجد الشاب العربيّ يتحدّث بها، لا في الشّارع، لا في المدرسة ولا في البيت. إنّه يتعامل مع هذه اللّغة الفصيحة كما لو كانت لغة أجنبيّة كسائر اللّغات الأجنبيّات. إنّ ما تفعله وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، في هذا العصر الفضائي، ونحن نعرف تأثير هذه الوسائل على الأجيال النّاشئة، هو تكريس لهذا الوضع العربيّ المأساوي. أيّ أنّ جميع هذه الوسائل تقوم بعمليّة تكريس للّهجات، أي اللّغات العربيّة المختلفة على حساب لغة التّفكير المهمّة أي اللّغة العربيّة الفصحى. نحنُ نعلم أيضًا أنّ اللّهجات العربيّة، إضافةً إلى كونها عاملاً مركزيًّا للتّشرذم العربيّ، فإنّها، وهذا هو الأهمّ، تقف في طرف نقيض من القراءة. والسبب لذلك جليّ واضح، فهي غير مكتوبة، وإن كُتبت فإنّ العربيّ لا يفهمها في كلّ مكان يتواجد فيه.
لذا نرى لزامًا علينا أن نقول
إنّ اللّهجات الدّارجة، لا يمكن بأي حال أن توصل إلى التّقدّم والتّطوّر، وذلك لفقرها، أي فقر مجالاتها بطبيعة الحال. كما بوسعنا أن نُضيف إلى ذلك قضيّة مهمّة، ربّما لم يلتفت إليها المختصّون بهذه القضايا. إنّ هذا العصر الفضائي الفاضي، يُشكّل بما يعرضه وينتجه من برامج هابطة وأفلام وغناء عربيّ سخيف، تكريسًا للهجات فقيرة لا يمكن أن ترقى إلى لغة التّفكير والإبداع العلمي والحضاري في جميع مجالات العلوم والحضارة البشريّة.
إنّه تكريسٌ لغريزة السّمع، على حساب غريزة البصر (ونعني بها هنا البصيرة) الّتي تتأتّى بالقراءة. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هذه الظّاهرة وبسبب الأميّة المتفشّية بين العربان قد طالت حتّى القرآن. نعم، فحتّى القرآن في هذا العصر العربيّ السّقيم تحوّل إلى الأسماع عبر أشرطة التّسجيل بدلاً عن القراءة والتّأمّل. فالعربيّ الآن في هذا العصر على العموم لا يقرأ القرآن بل هو يستمع إليه عبر تسجيلات صوتيّة للمقرئين الشّيوخ. وهكذا تحوّلت "إقرأ" بفعل هذه الـ"حداثة" العربيّة إلى "إسمع".
وهذا يوصلنا إلى
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام. السّمع هو حالة لا إراديّة بخلاف القراءة الّتي تأتي بعد قرارٍ ذاتيّ مستقلّ نابع عن قصدٍ بفعل الشيء. السّماع قد يكون في خلفيّة أمور أخرى كثيرة، بينما القراءة هي دائمًا في المركز. غير أنّ هذه الطّريق هي الأخرى طريق إشكاليّة تتشعّب إلى مسارب ذات أبعاد تتعلّق بالپويطيقا العربيّة.
ما من شكّ في أنّ الجميع يعي تلك المعضلة القائمة في العربيّة والمتمثّلة في الفجوة القائمة بين النّص العربي على العموم، وبخاصّة في الشّعر، وبين اللّغة المحكيّة الدّارجة على ألسن العرب. فالنّصّ العربيّ يبدو دائمًا بعيدًا عن المتلقّي كما لو أنّه قابعٌ في برج عاجيّ. النّصوص العربيّة، والشّعريّة منها على وجه الخصوص، تتّسم بلغة بلاغيّة عالية وسبب ذلك هو هذه الهوّة القائمة بين الفصحى والعاميّة، فالكتابة بكلام فصيح هي دائمًا كتابة بلغة شبه أجنبيّة. وكما أنّ الدّارس للغة ما يظلّ حديثه مبنيًّا على النّحو والقواعد والمفردات القاموسيّة الّتي درسها لدى معلّميه، بينما لغة الخطاب الحياتي اليومي تظلّ أكثر ديناميّة وتجدّدًا. هكذا هي حال الكتابة الشّعريّة العربيّة على العموم، فهي دائمًا كتابة بلغة مدرسيّة. إنّها دائمًا لغة ذات جرس مختلف عن لغة الخطاب اليومي، ذات نحو مختلف وإعراب مختلف وفي أغلب الأحيان تستخدم مفردات قاموسيّة لا ينطقها الشّارع. لهذا السّبب، تظلّ هذه اللّغة بعيدة عن الشّارع، وبكلمات أخرى بعيدة عن جوهر التّجربة الّتي أريد لها أن تُصاغ شعرًا.
عادة، في اللّغات الحيّة المتطوّرة أنت تكتب ما تلفظه، وتلفظ ما تكتبه، غير أنّ حال اللّغة العربيّة هي هذه الإزدواجيّة الّتي تتنازعك بين الكلام المحكي والكلام المكتوب. إنّها عمليّة ترجمةٍ سرمديّة من لغة إلى لغة، من لغة محكيّة إلى لغة مكتوبة، هي في نهاية المطاف ترجمة من عالم إلى آخر. وهكذا، ليس غريبًا أنّنا نعيش، ولا أستثني نفسي من هذا التّشخيص، في حال من الإنفصام العاطفي، الّذي مردّه إلى هذا الفصام اللّغوي على ما أعتقد. والكتابات الأدبيّة العربيّة هي أفضل مثال على هذا الفصام.
وأخيرًا، على فكرة، هذه
ملاحظة لمراهقي العروبة: لا الاستعمار ولا الصّهيونية مسؤولين عن هذه الحال العربيّة، بل حقيقة الأمر هي أنّ "دُودُهْ مِنْ عُودُهْ"، كما نقول في لهجتنا الجليليّة. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
العرب عن الحداثة. لقد بلغ بهم الأمر وضعًا صار يُخيّل فيه للمرء أن هذه الحداثة مُشتقّة من الحديث ذي الشّجون، أي الكلام الفاضي كما يُقال بلغة العامّة. ولمّا أنْ طالَ بهم، وعلى الأصحّ لَمّا أنْ طالنا، هذا الحديث بجميع تقليعاته، فقد أفضى بهم وبنا، وسبحان من له العلم، إلى العولمة. نعم، هكذا وبدون سابق إنذار انبرى الكتّاب العرب إلى الخوض في هذه المعمعة العولميّة الّتي هي، مثلها في ذلك مثل الحداثة، لا ناقة لهم - لنا - فيها ولا جمل. فالحداثة والعولمة هما نتيجتان بارزتان مباشرتان للمجتمع الصّناعي المتطوّر في عالم ما بعد انهيار الأيديولوجيّات، كما يُشاع. والحقيقة أنّ الأيديولوجيّات لم تنهرْ إنّما بدّلت ملبوسها. ولمّا كان العربان ليسوا من هذا في شيء، فما شأنهم إذن بهذه التّقليعات؟
وللإجابة على هذا السؤال،
لا بدّ لنا أوّلاً من وضع بعض النّقاط على بعض الحروف المبهمات. لقد بدأت الدّعوة الإسلاميّة من القراءة: إقرأ باسم ربّك. وبكلمات أخرى، فالقراءة هي الدّعوة الأساس، هي القائم الّذي بنيت عليه الدّعوة. ولمّا كان أكثر من نصف العربان، وعلى الأقلّ في هذا الزّمان، من الأمّيّين، فحديث مثقّفيهم عن الحداثة، أو العولمة وما إلى ذلك من تقليعات غربيّة، ما هو إلاّ عظمة من بين عظام كثيرة يتلهّون بها في زمن شيوع وسائل الإعلام. غير أنّ نظرة بسيطة على وسائل الإعلام هذه، المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، تضعنا أمام مرآة صقيلة لا تخفي من تجاعيدنا الاجتماعيّة والثّقافيّة شيئًا. فها هي الفضائيّات العربيّة قد اشتقّت هي الأخرى نفسها، كعادة الأشقّاء في الاشتقاق، من الفضاء السّحيق، أي من الكلام الفاضي الّذي يسحقنا صباح مساء. لقد تحوّلت هذه الفضائيّات العربيّات إلى وسائل مسموعة ومرئيّة غايتها بعث الجهل في الأجيال العربيّة. أي أنّنا دخلنا بقدرة قادر، وفي الأساس بقدرة مُقتدرين مموّلين، عصرًا من الجاهليّة الجديدة، وبعبارة أخرى، جاهليّة حداثيّة معولمة في آن معًا.
غير أنّ الكتّاب العرب، ولكونهم بعيدين جدًّا عن أن يكونوا مستقلّين فكريًّا، فمن الصّعب عليهم أن يواجهوا هذه الحقائق الدّامغة، فهم يلهثون دومًا، "لهاثًا حداثيًّا"، وراء الأضواء في قنوات الفضاء. وقنوات المطبوعات الورقيّة والرّقميّة في ذلك سواء.
فإلى أين المفرّ إذن؟
المفرّ من جميع هذه الأوباء العربيّة يُفضي بالمثقّفين العرب إلى الحداثة الغربيّة، وإلى تقليعاتها الّتي تتبدّل هناك كما تتبدّل الملابس الدّاخليّة. أمّا المتتبّع لحال الأجيال العربيّة النّاشئة فإنّه يلاحظ بروز مشاكل عويصة في فهم المقروء العربيّ. وقد سبق وقلنا، إنّ الدّعوة الإسلاميّة كانت بدأت بالقراءة.
فما الّذي أوصلنا إلى
هذا الوضع؟ القضيّة، وبكلّ بساطة، هي أنّ اللّغة العربيّة وخلال تطوّر دام قرون طويلة، وبروز اللّهجات، المختلفة، أحيانًا في بلدة واحدة، لم تعد اللّغة العربيّة لغة أمّ عند العربيّ. وحين نقول اللّغة العربيّة فنقصد بهذا المصطلح هذه اللّغة المكتوبة الّتي تقرؤونها هنا في هذه الصّفحات أو في الكتب أوغيرها من المنشورات. هذه اللّغة المكتوبة لم تكن في يوم من الأيّام لغة أمّ لأيّ عربيّ من محيطه إلى خليجه. هذه اللّغة هي لغة مُكتَسَبة وشأنها في ذلك شأن أيّ لغة أجنبيّة أخرى.
ولهذا السّبب، لا تجد الشاب العربيّ يتحدّث بها، لا في الشّارع، لا في المدرسة ولا في البيت. إنّه يتعامل مع هذه اللّغة الفصيحة كما لو كانت لغة أجنبيّة كسائر اللّغات الأجنبيّات. إنّ ما تفعله وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة منها بخاصّة، في هذا العصر الفضائي، ونحن نعرف تأثير هذه الوسائل على الأجيال النّاشئة، هو تكريس لهذا الوضع العربيّ المأساوي. أيّ أنّ جميع هذه الوسائل تقوم بعمليّة تكريس للّهجات، أي اللّغات العربيّة المختلفة على حساب لغة التّفكير المهمّة أي اللّغة العربيّة الفصحى. نحنُ نعلم أيضًا أنّ اللّهجات العربيّة، إضافةً إلى كونها عاملاً مركزيًّا للتّشرذم العربيّ، فإنّها، وهذا هو الأهمّ، تقف في طرف نقيض من القراءة. والسبب لذلك جليّ واضح، فهي غير مكتوبة، وإن كُتبت فإنّ العربيّ لا يفهمها في كلّ مكان يتواجد فيه.
لذا نرى لزامًا علينا أن نقول
إنّ اللّهجات الدّارجة، لا يمكن بأي حال أن توصل إلى التّقدّم والتّطوّر، وذلك لفقرها، أي فقر مجالاتها بطبيعة الحال. كما بوسعنا أن نُضيف إلى ذلك قضيّة مهمّة، ربّما لم يلتفت إليها المختصّون بهذه القضايا. إنّ هذا العصر الفضائي الفاضي، يُشكّل بما يعرضه وينتجه من برامج هابطة وأفلام وغناء عربيّ سخيف، تكريسًا للهجات فقيرة لا يمكن أن ترقى إلى لغة التّفكير والإبداع العلمي والحضاري في جميع مجالات العلوم والحضارة البشريّة.
إنّه تكريسٌ لغريزة السّمع، على حساب غريزة البصر (ونعني بها هنا البصيرة) الّتي تتأتّى بالقراءة. لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ هذه الظّاهرة وبسبب الأميّة المتفشّية بين العربان قد طالت حتّى القرآن. نعم، فحتّى القرآن في هذا العصر العربيّ السّقيم تحوّل إلى الأسماع عبر أشرطة التّسجيل بدلاً عن القراءة والتّأمّل. فالعربيّ الآن في هذا العصر على العموم لا يقرأ القرآن بل هو يستمع إليه عبر تسجيلات صوتيّة للمقرئين الشّيوخ. وهكذا تحوّلت "إقرأ" بفعل هذه الـ"حداثة" العربيّة إلى "إسمع".
وهذا يوصلنا إلى
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام. السّمع هو حالة لا إراديّة بخلاف القراءة الّتي تأتي بعد قرارٍ ذاتيّ مستقلّ نابع عن قصدٍ بفعل الشيء. السّماع قد يكون في خلفيّة أمور أخرى كثيرة، بينما القراءة هي دائمًا في المركز. غير أنّ هذه الطّريق هي الأخرى طريق إشكاليّة تتشعّب إلى مسارب ذات أبعاد تتعلّق بالپويطيقا العربيّة.
ما من شكّ في أنّ الجميع يعي تلك المعضلة القائمة في العربيّة والمتمثّلة في الفجوة القائمة بين النّص العربي على العموم، وبخاصّة في الشّعر، وبين اللّغة المحكيّة الدّارجة على ألسن العرب. فالنّصّ العربيّ يبدو دائمًا بعيدًا عن المتلقّي كما لو أنّه قابعٌ في برج عاجيّ. النّصوص العربيّة، والشّعريّة منها على وجه الخصوص، تتّسم بلغة بلاغيّة عالية وسبب ذلك هو هذه الهوّة القائمة بين الفصحى والعاميّة، فالكتابة بكلام فصيح هي دائمًا كتابة بلغة شبه أجنبيّة. وكما أنّ الدّارس للغة ما يظلّ حديثه مبنيًّا على النّحو والقواعد والمفردات القاموسيّة الّتي درسها لدى معلّميه، بينما لغة الخطاب الحياتي اليومي تظلّ أكثر ديناميّة وتجدّدًا. هكذا هي حال الكتابة الشّعريّة العربيّة على العموم، فهي دائمًا كتابة بلغة مدرسيّة. إنّها دائمًا لغة ذات جرس مختلف عن لغة الخطاب اليومي، ذات نحو مختلف وإعراب مختلف وفي أغلب الأحيان تستخدم مفردات قاموسيّة لا ينطقها الشّارع. لهذا السّبب، تظلّ هذه اللّغة بعيدة عن الشّارع، وبكلمات أخرى بعيدة عن جوهر التّجربة الّتي أريد لها أن تُصاغ شعرًا.
عادة، في اللّغات الحيّة المتطوّرة أنت تكتب ما تلفظه، وتلفظ ما تكتبه، غير أنّ حال اللّغة العربيّة هي هذه الإزدواجيّة الّتي تتنازعك بين الكلام المحكي والكلام المكتوب. إنّها عمليّة ترجمةٍ سرمديّة من لغة إلى لغة، من لغة محكيّة إلى لغة مكتوبة، هي في نهاية المطاف ترجمة من عالم إلى آخر. وهكذا، ليس غريبًا أنّنا نعيش، ولا أستثني نفسي من هذا التّشخيص، في حال من الإنفصام العاطفي، الّذي مردّه إلى هذا الفصام اللّغوي على ما أعتقد. والكتابات الأدبيّة العربيّة هي أفضل مثال على هذا الفصام.
وأخيرًا، على فكرة، هذه
ملاحظة لمراهقي العروبة: لا الاستعمار ولا الصّهيونية مسؤولين عن هذه الحال العربيّة، بل حقيقة الأمر هي أنّ "دُودُهْ مِنْ عُودُهْ"، كما نقول في لهجتنا الجليليّة. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
يونيو 2008
***الأربعاء، 19 نوفمبر 2008
مزامير تبحث عن ذاتها
سلمان مصالحة || مزامير تبحث عن ذاتها
ورد في الحديث: "من استمع الي قينة صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة"، رواه السّيوطي في الجامع الصغير. والآنك هو الرّصاص المذاب.
وإذا كان هذا ما ينتظر المستمعين، فما من شكّ في أنّ الأمّة العربيّة قد امتلأت آذانها رصاصًا مُذابًا منذ زمن، وفي هذه الحياة الدّنيا قبل أن تقوم السّاعة. أقول امتلأت آذان العرب بالآنك، إذ يبدو أنّهم ما عادوا يسمعون ما تعرضه هذه الإذاعات والفضائيّات من غناء وموسيقى. ففي هذا الفضاء المشحون بكلّ ما يعكّر الذّوق العربي، هنالك لحظات يعود بها الفرد إلى حديث آخر، فيقول في نفسه إنّه كان من الأجدر أن يؤخذ بهذا الكلام: روى الإمام أحمد في مسنده : عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني ان أمحق المزامير والكِبارات يعني آلة تشبة العود – والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية ". وأوثان الجاهليّة الجديدة هي كلّ هؤلاء المغنّين والمغنّيات الّذين أضحوا أوثانًا يطوف حولها الشّبان من جيل العربان وهم يبحثون عن مكان في هذا العالم وفي هذا الزّمان. وهذا الزّمان الرّديء يفرض نفسه عليك غير آبهٍ برغباتك، بحياتك، بأحلامك، بكلّ ما يختلج في سريرتك، في سرّائك وضرّائك. وما أدراكَ ما السّرّاء وما أدراكَ ما الضّرّاء؟
غير أنّ ثمّة لحظات
يرى فيها الفرد ذاته مجرّدة من كلّ هذه المنغّصات، وما أكثرها في هذا الفضاء العربي الرديء، لغةً وفكرًا ولحنًا. ومن بين هذه اللّحظات لحظات الإنصات إلى ديسك جديد صدر حديثًا عن مركز الأرموي لموسيقى المشرق بفلسطين. إنّه "مزامير" الموسيقى خالد جبران مؤلّفًا وعازفًا بمشاركة تامر أبو غرالة- بزق باص، هومان بور مهدي - زارب ودفّ، ربيع جبران - صوت. وهذا العمل يتألّف من ستّ مؤلّفات هي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چرواند، والصلب.
نقرأ في تقديم خالد جبران لهذا الدّيسك: "كُتبت هذه المقطوعات خصّيصًا لآلات موسيقيّة بعينها كالعود أو البزق، وهي تضع الآلة الموسيقيّة في قلب عمليّة الإبداع، وبخلاف المعهود تُخاطب المستمع مباشرة دون وساطة الكلمة المغنّاة ودلالاتها اللّغويّة. فهي إذن موسيقى تتحدّث عن نفسها". وفي نهاية التّقديم يقول: "أُلّفت هذه المقطوعات خلال أعوام الانتفاضة الأخيرة كمنفذ وحيد أُتقنه مُجيبًا على سؤال يومي يُطرح على كلّ عربي وشرقي: من أنت؟".
وهكذا نرى أنّ الموسيقى الّتي أرادت أن تتحدّث عن نفسها دون وساطة الكلمة، هي في الحقيقة أسيرة داخل سجن هذه الكلمات الّتي تُحدق بها من كلّ جانب. فالسّؤال الّذي يرغب خالد جبران في الإجابة عليه لا يمكن أن يتبلور ويُعرَض على الأسماع إلاّ من خلال هذه الكلمات المنطوقة الّتي تفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات. ومن هذه النّقطة ينطلق الدّيسك متكلّمًا بلغة الموسيقى، وفي الوقت ذاته يحسّ المستمع بكلّ هذا الكلام الّذي لا يُباحُ لفظًا، بل يتحرّك في ذهنه ويرنّ في أذنه، شاء ذلك أم أبى.
يحمل الدّيسك المستمع
على ظهر الآلات الموسيقيّة، من البزق والعود والطّبلة، في الحقيقة زارب ودفّ، في هذه الرّحلة الطّويلة للبحث عن الذّات. فالبزق ينقلك إلى أصفهان وإلى ذلك المكان الّذي بدأت منه الموسيقى الشّرقيّة. ورغم الصّوت المعدني لآلة البزق إلاّ أنّ العمل يرغمك على الإنصات والإبحار معه إلى عوالم أوّليّة تفوح منه معاناة المشرق على روائحها الصّحراويّة. ثمّ يأتي العود هذه الإله ذات الحشرجات الّتي تختزل في آهاتها المتثاقلة شِعاب الصّحراء فيأخذك في سفر عميق بين كبوات وانتفاضات حياة عربيّة لا ترغب في الرّحيل بعد عن هذه الرّمال والكثبان الّتي تلفّها من كلّ جانب. وبين الزارب والدفّ والعود والبزق، أي في مسرح النّغمات الّتي تفترق في جواهرها، ما بين ثنايا البطن الّتي هي وطن آلة الطبلة على اختلافاتها وبين الأذن الّتي هي وطن آلة البزق، يفترق عشّاق الهوى بين سماع منفتح على آفاق لا تنتهي وبين مكان محاصر في هذا الزّمان. حتّى ينتهي بك إلى هذا الصّلب الّذي يختتم الدّيسك، حيث تأخذ الآلات بتجميع المشاعر وتلهيبها نحو ما هو آت من عملية الصّلب. والغريب في هذا المقطع من الدّيسك هو أن المستمع يجد نفسه متماثلاً مع عمليّة الصّلب. لكنّ السؤال هو، هل نحن الصّالبون أم المصلوبون؟ وهذا السؤال، على غرابته، يحوي بداخله الإجابة في نهاية المطاف، إذ أنّه يخترق الحدود الّتي تفصل بين العقائد الّتي يتشكّل منها المشهد الوجودي لهذا الوطن.
بهذا الدّيسك يستطيع المستمع العربي
أن يقول أنّا جزء من هذه البشريّة، لي ما لها وعليّ ما عليها. وفوق كلّ ذلك لا يشكّل الدّيسك انصهارًا في العولمة، بل هو انفتاح واسع على العالم، وفي الوقت ذاته يعرض نفسه حافظًا لبعض ما تبقّى من هويّة خصوصيّة. لكن، ومن جهة أخرى، ما هي هذه الهويّة؟ فلو نظرنا إلى عناوين المقطوعات الّتي يشملها الدّيسك، وهي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چراوند، الصّلب، بالإضافة إلى اسم الدّيسك، مرامير، نرى أنّ عنوانًا واحدًا فقط، هو سفر، له نكهة عربيّة من ناحية الدّلالة المؤسِّسَة للعاطفة العربيّة الصّحراويّة. أمّا سائر المقطوعات فتستمدّ دلالاتها من عوالم تقع خارج جزيرة الموسيقى العربيّة. فهل هذه التّأثيرات الخارجيّة هي هي الّتي جعلت الموسيقى تُعدّ من عمل الشّيطان في نظر العربان؟ كما روى ابن أبي الدّنيا في كتاب "مكائد الشّيطان": "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنّ ابليس لما أُنزل الى الأرض قال : يارب انزلتني الى الأرض ، وجعلتني رجيما، فاجعل لي بيتًا قال: الحمام ، قال: فاجعل لي مجلسًا قال: الأسواق ومجامع الطرقات، قال: فاجعل لي طعامًا قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابًا، قال كل مسكر قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال المزمار". إذن، وإذا كان كلّ هذا هو أنت، فمن أنت أيّها العربي؟ ولكن، حتّى وإن لم يحصل المستمع على إجابة على السؤال: من أنت؟ فربّما يكون انعدام الإجابة على هذا السّؤال هي في الواقع الإجابة الحقيقيّة والصّادقة عليه.
وعلى كلّ حال،
يظلّ الاستماع إلى هذا الدّيسك تجربة موسيقيّة عربيّة رائدة، تتحدّث إلى النّفس بلغة الآلات الموسيقيّة، الشعريّة والشعوريّة في آن. ومن يتحدّث بهذه اللّغة الموسيقيّة أو يستمع إليها لا يمكن أن يتحوّل قردًا أو خنزيرًا، كما ورد في الحديث الّذي رواه ابن ماجة في سننه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ليشربن ناس من أُمّتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات. يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير". ربّما كان على العكس من ذلك تمامًا، فمن لا يستمع إلى أو من لا يستمتع بهذه اللّغة الموسيقيّة، ربّما هو الّذي سيُضحي قردًا أو خنزيرًا، أو ربّما يُصبّ في أذنيه الآنك.
أليس كذلك؟
أغسطس 2005
وإذا كان هذا ما ينتظر المستمعين، فما من شكّ في أنّ الأمّة العربيّة قد امتلأت آذانها رصاصًا مُذابًا منذ زمن، وفي هذه الحياة الدّنيا قبل أن تقوم السّاعة. أقول امتلأت آذان العرب بالآنك، إذ يبدو أنّهم ما عادوا يسمعون ما تعرضه هذه الإذاعات والفضائيّات من غناء وموسيقى. ففي هذا الفضاء المشحون بكلّ ما يعكّر الذّوق العربي، هنالك لحظات يعود بها الفرد إلى حديث آخر، فيقول في نفسه إنّه كان من الأجدر أن يؤخذ بهذا الكلام: روى الإمام أحمد في مسنده : عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني ان أمحق المزامير والكِبارات يعني آلة تشبة العود – والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية ". وأوثان الجاهليّة الجديدة هي كلّ هؤلاء المغنّين والمغنّيات الّذين أضحوا أوثانًا يطوف حولها الشّبان من جيل العربان وهم يبحثون عن مكان في هذا العالم وفي هذا الزّمان. وهذا الزّمان الرّديء يفرض نفسه عليك غير آبهٍ برغباتك، بحياتك، بأحلامك، بكلّ ما يختلج في سريرتك، في سرّائك وضرّائك. وما أدراكَ ما السّرّاء وما أدراكَ ما الضّرّاء؟
غير أنّ ثمّة لحظات
يرى فيها الفرد ذاته مجرّدة من كلّ هذه المنغّصات، وما أكثرها في هذا الفضاء العربي الرديء، لغةً وفكرًا ولحنًا. ومن بين هذه اللّحظات لحظات الإنصات إلى ديسك جديد صدر حديثًا عن مركز الأرموي لموسيقى المشرق بفلسطين. إنّه "مزامير" الموسيقى خالد جبران مؤلّفًا وعازفًا بمشاركة تامر أبو غرالة- بزق باص، هومان بور مهدي - زارب ودفّ، ربيع جبران - صوت. وهذا العمل يتألّف من ستّ مؤلّفات هي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چرواند، والصلب.
نقرأ في تقديم خالد جبران لهذا الدّيسك: "كُتبت هذه المقطوعات خصّيصًا لآلات موسيقيّة بعينها كالعود أو البزق، وهي تضع الآلة الموسيقيّة في قلب عمليّة الإبداع، وبخلاف المعهود تُخاطب المستمع مباشرة دون وساطة الكلمة المغنّاة ودلالاتها اللّغويّة. فهي إذن موسيقى تتحدّث عن نفسها". وفي نهاية التّقديم يقول: "أُلّفت هذه المقطوعات خلال أعوام الانتفاضة الأخيرة كمنفذ وحيد أُتقنه مُجيبًا على سؤال يومي يُطرح على كلّ عربي وشرقي: من أنت؟".
وهكذا نرى أنّ الموسيقى الّتي أرادت أن تتحدّث عن نفسها دون وساطة الكلمة، هي في الحقيقة أسيرة داخل سجن هذه الكلمات الّتي تُحدق بها من كلّ جانب. فالسّؤال الّذي يرغب خالد جبران في الإجابة عليه لا يمكن أن يتبلور ويُعرَض على الأسماع إلاّ من خلال هذه الكلمات المنطوقة الّتي تفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات. ومن هذه النّقطة ينطلق الدّيسك متكلّمًا بلغة الموسيقى، وفي الوقت ذاته يحسّ المستمع بكلّ هذا الكلام الّذي لا يُباحُ لفظًا، بل يتحرّك في ذهنه ويرنّ في أذنه، شاء ذلك أم أبى.
يحمل الدّيسك المستمع
على ظهر الآلات الموسيقيّة، من البزق والعود والطّبلة، في الحقيقة زارب ودفّ، في هذه الرّحلة الطّويلة للبحث عن الذّات. فالبزق ينقلك إلى أصفهان وإلى ذلك المكان الّذي بدأت منه الموسيقى الشّرقيّة. ورغم الصّوت المعدني لآلة البزق إلاّ أنّ العمل يرغمك على الإنصات والإبحار معه إلى عوالم أوّليّة تفوح منه معاناة المشرق على روائحها الصّحراويّة. ثمّ يأتي العود هذه الإله ذات الحشرجات الّتي تختزل في آهاتها المتثاقلة شِعاب الصّحراء فيأخذك في سفر عميق بين كبوات وانتفاضات حياة عربيّة لا ترغب في الرّحيل بعد عن هذه الرّمال والكثبان الّتي تلفّها من كلّ جانب. وبين الزارب والدفّ والعود والبزق، أي في مسرح النّغمات الّتي تفترق في جواهرها، ما بين ثنايا البطن الّتي هي وطن آلة الطبلة على اختلافاتها وبين الأذن الّتي هي وطن آلة البزق، يفترق عشّاق الهوى بين سماع منفتح على آفاق لا تنتهي وبين مكان محاصر في هذا الزّمان. حتّى ينتهي بك إلى هذا الصّلب الّذي يختتم الدّيسك، حيث تأخذ الآلات بتجميع المشاعر وتلهيبها نحو ما هو آت من عملية الصّلب. والغريب في هذا المقطع من الدّيسك هو أن المستمع يجد نفسه متماثلاً مع عمليّة الصّلب. لكنّ السؤال هو، هل نحن الصّالبون أم المصلوبون؟ وهذا السؤال، على غرابته، يحوي بداخله الإجابة في نهاية المطاف، إذ أنّه يخترق الحدود الّتي تفصل بين العقائد الّتي يتشكّل منها المشهد الوجودي لهذا الوطن.
بهذا الدّيسك يستطيع المستمع العربي
أن يقول أنّا جزء من هذه البشريّة، لي ما لها وعليّ ما عليها. وفوق كلّ ذلك لا يشكّل الدّيسك انصهارًا في العولمة، بل هو انفتاح واسع على العالم، وفي الوقت ذاته يعرض نفسه حافظًا لبعض ما تبقّى من هويّة خصوصيّة. لكن، ومن جهة أخرى، ما هي هذه الهويّة؟ فلو نظرنا إلى عناوين المقطوعات الّتي يشملها الدّيسك، وهي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چراوند، الصّلب، بالإضافة إلى اسم الدّيسك، مرامير، نرى أنّ عنوانًا واحدًا فقط، هو سفر، له نكهة عربيّة من ناحية الدّلالة المؤسِّسَة للعاطفة العربيّة الصّحراويّة. أمّا سائر المقطوعات فتستمدّ دلالاتها من عوالم تقع خارج جزيرة الموسيقى العربيّة. فهل هذه التّأثيرات الخارجيّة هي هي الّتي جعلت الموسيقى تُعدّ من عمل الشّيطان في نظر العربان؟ كما روى ابن أبي الدّنيا في كتاب "مكائد الشّيطان": "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنّ ابليس لما أُنزل الى الأرض قال : يارب انزلتني الى الأرض ، وجعلتني رجيما، فاجعل لي بيتًا قال: الحمام ، قال: فاجعل لي مجلسًا قال: الأسواق ومجامع الطرقات، قال: فاجعل لي طعامًا قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابًا، قال كل مسكر قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال المزمار". إذن، وإذا كان كلّ هذا هو أنت، فمن أنت أيّها العربي؟ ولكن، حتّى وإن لم يحصل المستمع على إجابة على السؤال: من أنت؟ فربّما يكون انعدام الإجابة على هذا السّؤال هي في الواقع الإجابة الحقيقيّة والصّادقة عليه.
وعلى كلّ حال،
يظلّ الاستماع إلى هذا الدّيسك تجربة موسيقيّة عربيّة رائدة، تتحدّث إلى النّفس بلغة الآلات الموسيقيّة، الشعريّة والشعوريّة في آن. ومن يتحدّث بهذه اللّغة الموسيقيّة أو يستمع إليها لا يمكن أن يتحوّل قردًا أو خنزيرًا، كما ورد في الحديث الّذي رواه ابن ماجة في سننه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ليشربن ناس من أُمّتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات. يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير". ربّما كان على العكس من ذلك تمامًا، فمن لا يستمع إلى أو من لا يستمتع بهذه اللّغة الموسيقيّة، ربّما هو الّذي سيُضحي قردًا أو خنزيرًا، أو ربّما يُصبّ في أذنيه الآنك.
أليس كذلك؟
أغسطس 2005
***
المقالة في إيلاف
____________________________________
____________________________________
الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008
عن الإله الصّحراوي، العنف والسّيف
سلمان مصالحة
عن الإله الصّحراوي، العنف والسّيف
قراءة النّصوص المقدّسة
ليست بالأمر السّهل. إنّ صعوبة القراءة لا تكمن في لغة هذه النّصوص فحسب. أقول ذلك، مع أنّ لغة النّصوص في حالات كثيرة، ولعدم اتّضاح المفردات واختلاف القراءات والدّلالات، تفتح الباب على مصراعيه للتّفسيرات المختلفة الّتي قد تكون متناقضة في بعض الأحايين. إنّ الصّعوبة الكبرى كامنة في الأساس في كون هذه النّصوص تتّسمُ بالقداسة في نظر جمهرة المؤمنين، ولذلك فإنّ النّظر فيها يُحرّك أعصابًا حسّاسة لدى هؤلاء. والقداسة، على العموم ولدى كافّة الأديان، تُشكّلُ كَواتمَ عُقولٍ على رؤوس أتباعها.
كُنتُ ذكرتُ من قبل أنّ الإيمان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجهل، إذ يجنحُ الإنسان بعد انسداد طرق المعرفة أمامه إلى إناطة مجاهله بقوى خارقة بواسطة شخصنة ظواهر الطّبيعة، على سبيل المثال، وعزوها إلى آلهة موكلة بها. هكذا وُلدت آلهة الشّمس، آلهة القمر، آلهة الرّعد وآلهة البرق والمطر، إلى آخر قائمة آلهة الطّبيعة. وكذا هي الحال في حضارات الشّعوب المختلفة من مشارق الأرض إلى مغاربها على مرّ العصور. أي أنّ حُدود المعارف هي حدود الإيمان الّتي تفرق بين الانسان وبين الإله، وكلّ ما وقع في عالم المَجاهل البشريّة أُحيلَ إلى الآلهة في نهاية المطاف لتتولّى هذه التّحكُّم بها.
والقداسة أيضًا، ترتبط ارتباطًا
وثيقًا بالعاطفة، إذ أنّ العاطفة أيضًا مرتبطة بالجهل هي الأخرى. فكلّ ما يمتُّ إلى العواطف بصلة، تلك الّتي نجهل كيف تحدث ولماذا تحدث، نقوم نحن بتحويلها وتخزينها في الحقول الدّلاليّة لتعابير العواطف. كذا يحدث في حال الحبّ وحال الكراهية، وكذا يحدث في حال الفرح وحال الحزن. فمصطلحات الحبّ، الكراهية، الفرح والحزن، على سبيل المثال، هي تجريدات لغويّة لحالات تجمع الكثير من الدّلالات الذّهنيّة المجرّدة، كما تترافق مع تفاعلات كيماويّة، فيسيولوجيّة، في الدّماغ البشري.
وأقول إنّ القداسة مرتبطة بالعاطفة، لأنّ القداسة أيضًا تُحدث تفاعلات كيماويّة في الدّماغ البشري، مثلما يحدث في أحوال الحبّ والكراهية والفرح والحزن. ولأنّنا، في حقيقة الأمر، لا نعرف لماذا نحبّ أو لماذا نكره، ولا نعرف لماذا نفرح أو لماذا نحزن، فإنّنا في ذات الوقت لا نعرف أيضًا لماذا كلّ هذه العاطفة المتعلّقة بالقداسة. إنّ انعدام المعرفة هذا - هو بالضّبط التّعريف الأمثل للجهل. كما جاء القول بأنّ القداسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعاطفة لسبب بسيط، وهو أنّ كلّ حديث عن هذه القداسة بلغة المنطق، لغة العقل، يثير لدى عوامّ الجهلة من المؤمنين كلّ تلك التّفاعلات الكيماويّة، المرتبطة بمشاعر الغضب، ومشاعر الكراهية العمياء على وجه التّحديد.
ونحنُ، حينما ننظر في نصوص
القداسة، على اختلاف مشاربها، فإنّما ننظر فيها لأنّنا نعتبرها جزءًا لا يتجزّأ من مؤلّفاتنا البشريّة، من مؤلّفاتنا الحضاريّة. فالتّوراة، على سبيل المثال، هي ملكنا، والأناجيل ملكنا والقرآن ملكنا، مثلها في ذلك مثل كلّ النّتاج الحضاري الإنساني الّذي هو ملك لنا جميعًا. وبوصفها كذلك فهي ملك للبشريّة كافّة، وفي الآن ذاته يجب أن تكون موضع بحث ونقد وحتّى نقض من قبل كلّ من ينتمي إلى هذه البشريّة. إنّنا ننظر فيها مثلما ننظر في الطّبيعة، في الأفلاك، في الكيمياء، في الأدب والشّعر والتّاريخ وفي سائر العلوم الإنسانيّة قبولاً أو رفضًا، شرط أن يتمّ ذلك بحكمة ورويّة ضمن حدود المعارف البشريّة وبعيدًا عن العاطفة، بعيدًا عن القداسة الّتي تضع كواتم عقول على رؤوس النّاس.
فها هو إله إسرائيل،
الإله التّوحيدي التّوراتي، وكما يظهر لنا من أسماءه الحسنى الّتي وردت في العهد القديم، إلهٌ قبليّ محاربٌ يدفع أتباعه إلى القضاء على الوبر والبشر من أهل عمليق: "كَذَا يَقُولُ رَبُّ الجُنْدِ: أَتَذَكَّرُ ذاكَ الَّذِي صَنَعَ عَمَلِيقُ بِإسرائيلَ، إذْ كَمَنَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ صَاعِدًا مِنْ مِصْرَ. الآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَلِيقَ، وَخُذْ كُلَّ الَّذِي لَهُ، وَلا تَشْفَقْ عَلَيْهِ، وَأَمِتْ مِنْ رَجُلٍ حَتَّى امْرَأَةٍ، مِنْ رَضِيعٍ وَحَتَّى طِفْلٍ، مِنَ ثَوْرٍ حَتَّى حَمَلٍ، مِنَ جَمَلٍ حَتَّى حِمَارٍ". (صموئيل الأوّل، 15، 2-3، الترجمة من الأصل العبري هي لي). إذن، فالتّعبير "رَبُّ الجُنْدِ" هو ممّا يمكن أن نطلق عليه الأسماء الحسنى التّوراتيّة لهذا الإله. ولَمَّا كان كذلك فهو لا يأبه بقطع الرؤوس وترك الجثث لتنهشها الطّيور ودوابّ الأرض، كما يرد في الفصل السّابع عشر من ذات السّفر: "فَقَالَ دَاوُدُ لِلفِلِسْطِيّ: أَنْتَ تَأْتِينِي بِسَيْفٍ، وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ؛ وَأَنَا آتِيكَ بِاسْمِ رَبِّ الجُنْدِ، إلهِ جُيُوشِ إسْرائِيلَ الَّذِين أَهَنْتَ. هذَا اليَوْمَ يُسَلِّمُكَ الرَّبُّ إلَى يَدِي، فَأَضْرِبُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ مِنْكَ، وَأُعْطِي جُثَّةَ عَسْكَرِ الفِلِسْطِيّين لِطَيْرِ السَّمَاءِ وَدَابَّةِ الأَرْضِ، لِتَعْلَمَ كُلُّ الأَرْضِ أنَّ ثَمَّ إلَهًا لإسْرائِيلَ." (صموئيل الأوّل، 17، 45-46).
ومن بين أسمائه الحسنى التّوراتيّة نجد التّعبير "إله النّقمات"، كما ورد في المزامير: {يَا إلهَ النّقَمَاتِ يَا رَبِّ؛ يَا إلهَ النّقَمات...} (مزامير 94، 1). ولذلك فليس من سبيل أمام إسرائيل سوى الإذعان لمشيئته: "كُلُّ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَكَ، وَلا يَسْمَعُ أَقْوَالَكَ بِكُلِّ الَّذِي تَأْمُرُهُ بِهِ - يُمَاتُ. فَقَطْ، تَجَلَّدْ وَتَشَجَّعْ" (يشوع 1، 18). ولذلك فإنّ السّيف هو الفيصل عندما يفتح يهوشوع البلاد: "فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخُوا فِي الأَبْواقِ؛ وَكَانَ إذْ سَمِعَ الشَّعْبُ صَوْتَ البُوقِ، هَتَفُوا هُتَافًا كَبِيرًا، فَسَقَطَ السُّورُ تَحْتَهُ وَظَهَرَ الشَّعْبُ عَلَى المَدِينَةِ رَجُلاً تِلْوَ آخَرَ، وَأَطْبَقُوا عَلَى المَدِينَةِ. وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الّذِي في المَدِينَةِ، مِنْ رَجُلٍ حَتَّى امْرَأَةٍ، مِنْ فَتًى حَتَّى شَيْخٍ؛ وَحَتَّى الثّوْرِ وَالحَمَلِ وَالحِمَارِ، بِحَدِّ السَّيْفِ". (يشوع 6، 20-21). والسّيف كان الفيصل مع أهل عي، كما ورد في الفصل الثّامن من سفر يشوع: "وَكانَ لَمّا فَرغَ إسْرائيلُ مِن قَتْلِ كُلِّ سَاكِنِي العَيْ فِي الحَقْلِ، فِي القَفْرِ حَيْثُ لَحقُوهم به، وَسَقَطُوا كُلُّهُمْ بَحَدِّ السّيْفِ أَجْمَعِينَ؛ فَعَادَ كُلُّ إسْرائيلَ إلى العَيِّ وضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ" (يشوع 8، 14). وكذا كان مصير مقيدة الّتي نكّل بأهلها وضرب ملكها بحدّ السّيف، وكذا كانت أحوال بلاد أخرى: "وأخذ يَشُوعُ كُلَّ أُولئِكَ المُلُوكِ وَأَرْضَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لأَنّ الرّبَّ إلهَ إسْرَائيلَ حَارَبَ عَنْ إسْرائِيلَ." (يشوع 10، 42)
إذن، يُفهم من هذا الكلام أنّ السّيف، على ما يمثّله من رمزٍ للحرب والقتل، هو جزء من ذلك الإله الّذي ظهر على ألسنة الرّاحلين في البراري التّائهين الهائمين على وجوههم في الصّحاري.
وكذا هي الحال عندما نقرأ في الإنجيل
عمّا ورد على لسان يسوع المسيح في متّى: "لا تَظنّوا أنّي جئتُ لأُلقي سَلامًا عَلَى الأرْضِ. ما جئتُ لأُلقي سَلامًا بل سَيْفًا." (متّى 10، 34-35). فنحنُ نقرأ النّصّ ونفهمه كما تفيد لغة المقولة. النّصّ مكتوب بلغة بسيطة سهلة ولا تحتوي على مفردات لغويّة غريبة يمكن تأويلها على أكثر من وجه. فكلّ ما في المقولة من مفردات هي: جاء، ألقى، سلام وسيف وأداتا النّفي والاستدراك. أي أنّ هذه المفردات واضحة جليّة بيّنة المعاني والدّلالات. غير أنّ جمهرة المؤمنين قد وجدوا أنّ في هذه المقولة، على ندرتها، ما لا يريحُ من وجهة النّظر المسيحيّة. ولذلك، ومثلما يحدث في حالات البلبلة العقائديّة، فقد جنح المفسّرون إلى البحث عن مخارج من هذا المأزق الّذي وجدوا أنفسهم فيه. ولأنّ النّصّ سهل وبسيط ومفهوم إلى أبعد الحدود فلم يتبقّ أمامهم سوى السّير في طريق المجاز، طريق التأويل المجازي للنّصّ، كالقول مثلًا إنّ كلمة سيف هي كلمة مجازية ذكرها المسيح في معرض حديثه عن الصعوبات التي تلاقيها رسالته... وسيف الروح هو كلمة الله، هو السيف الفعّال للتغلّب على الشرور والأباطيل، وما شابه ذلك من تأويلات.
غير أنّ الرّسالة ذاتها جاءت لتفرّق بين الأب وابنه، بين الأم وابنتها، أي بين الإنسان وأهله، كما ورد لاحقًا: "جئتُ لأُفرّق الإنسان ضدّ أبيه والابنةَ ضدّ أُمّها والكنّة ضدّ حماتها. وأعداءُ الإنسان أهل بيته." بل أكثر من ذلك، فإنّ الإيمان منوط بفناء الذّات، فعلى المؤمن أن ينفي أهله وذاته، بل يُفني في الحقيقة أهله وذاته في محبّة الرّسول: "من أحبَّ أبًا أو أُمًّا أكثرَ منّي فلا يستحقّني. ومن أحبّ ابنًا أو ابنةً أكثرَ منّي فلا يستحقّني." (متّى 10، 36-37).
لقد انتقلت مقولة يسوع النّاصري هذه،
بشأن نفي الذّات وتفريق الأب وابنه والأم وابنتها، إلى الإسلام وبصورة حرفيّة تقريبًا. فها نحن نقرأ الحديث النبوي فنسمع فيه كلام يسوع منقولاً بالحرف: "حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" ("نقلاً عن: صحيح مسلم، ومسند أحمد، مسند الطّبراني، سنن النسائي، سنن ابن ماجة، كنز العمال وغيرها). لقد حاول عمر بن الخطاب أن يعترض على ذلك عندما سمع هذا الكلام، كما روي في الحديث أنّ عمر بن الخطاب قال: "يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليّ من كلّ شيء إلاّ من نفسي فقال: والّذي نفسي بيده، حتّى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنّك الآن أحبُّ إليّ من نفسي" (عن البخاري).
ومعنى هذا الكلام في الحديث النّبوي كما يؤكّد على ذلك النّووي: "أنّ من استكمل الإيمانَ علمَ أنّ حقّ النبيّ صلعم آكَدُ عليه من حقّ أبيه وابنه والنّاس أجمعين... ولا يصحّ الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلعم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن..." (النّووي، المنهاج في شرح صحيح مسلم). فلا فرق، إذن بين هذه المقولة ومقولة يسوع، إذ يبدو أنّها اقتُبست حرفيًّا منه.
أمّا في ما يخصّ السّيف
وما يرمز إليه من عنف، فحدّث ولا حرج. فمن بين الأحاديث الصّحاح، على الأقلّ من وجهة نظر المؤمنين ما رُوي عن ابن عمر نقلاً عن الرّسول: "عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلعم قال: أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسولُ اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءَهم وأموالَهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله" (عن: صحيح البخاري، وصحيح مسلم).
مهما حاولنا تفسير هذا الكلام من طرق مختلفة، فما من سبيل إلى فهم هذا الكلام سوى عبر طريق العنف. إنّ ما يزيد هذه القناعة بأنّ السّيف وما يرمز إليه هو في صلب هذه المقولات هو هذا الحديث الّذي رواه أحمد عن الرّسول في مسنده: "إنّ الله بعثني بالسّيف بين يدي السّاعة، وجعلَ رزقي تحتَ ظلّ رمحي، وجعل الذلّ والصّغار على من خالفني..." (عن: مسند أحمد). هذا الكلام واضح جليّ، فالمؤمن في ورطة إن أخذ بهذا الكلام، وهو في ورطة إن تركه.
وها هي سورة براءة، وهي آخر ما نزل من القرآن: "وكانت براءة آخر القرآن نزولاً وتوفي رسول الله صلعم ولم يبين موضعها." (نقلاً عن: تفسير القرطبي، تفسير النيسابوري، الدرّ المنثور للسّيوطي). وهي السّورة الوحيدة الّتي لا تبدأ بالبسملة، كما يروي القرطبي، وذلك لأنّها تنقض العهود: "فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلعم والمشركين بعث بها النبي صلعم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة." (نقلاً عن: تفسير القرطبي).
والسّبب من وراء إسقاط البسملة واضح للعيان من الرّواية التّالية: "قال عبد اللّه بن عباس، سألت علي بن أبي طالب: لمَ لمْ يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمانٌ وبراءة نزلت بالسّيف، ليس فيها أمان." (نقلاً عن: تفسير القرطبي، وانظر كذلك في الدرّ المنثور للسّيوطي، زاد المسير لابن الجوزي، تفسير الثّعالي، فتح القدير للشوكاني وغيرها من المراجع). أي أنّ كلّ ما يمكن أن يُفهم من آيات سابقة على وجود إمكانيّة لتفسير مخفّف من علاقات بين المؤمنين بغيرهم قد نُسخت بجميع معانيها، إذ أنّ: "كلّ هؤلاء الآيات نسختها فى براءة آية السيف." (عن: تفسير مقاتل).
منذ القدم وحتّى يومنا هذا يتخبّط المسلمون في أحكام الآيات القرآنيّة. فها هو شيخ الأزهر في معرض حديثه عن معاملة الأسرى يتخبّط هو الآخر في هذه المسألة. ومن خلال كلامه يظهر مدى المأزق الّذي يواجهه لدى التّعامل مع هذه القضيّة، في ضوء ما حفظ التّاريخ من آيات وأحاديث وروايات السّلف، فيقول: "فمسألة الأسرى من الأعداء، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين، ومرجع الحكم فيها إلى البُصراء بالحرب وبوضع خططها، لأنهم أعرفُ الناس بكيفة معاملة الأسرى. وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس، لأنه الثابت من فعل رسول الله صلعم ومن أفعاله أصحابه، ولأن ذكر المنّ والفداء لا ينافى جواز غيره، كالقتل -مثلا- لأن هذا الـ"غير" مفهومٌ من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة. وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء، منهم الإمام ابن جرير، فقد قال ما ملخصه: والصواب من القول عندنا فى ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المنّ والقتل والفداء إلى الرسول صلعم وإلى القائمين بعده بأمر الأمة. وإن لم يكن القتل مذكورًا فى هذه الآية، لأنه قد أذن -سبحانه- بقتلهم فى آيات أخرى منها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقد فعل الرسول صلعم كل ذلك، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط. وأخذ الفداء من غيره..." (نقلاً عن: التّفسير الوسيط لشيخ الأزهر، محمّد سيّد طنطاوي). أي، وبكلمات أخرى، فإنّ شيخ الأزهر وفي هذا العصر، يبيح، هو الآخر، قتل الأسرى في حالات معيّنة، وذلك استنادًا إلى نصوصه المقدّسة. هذا ما يُفهم منه رغم محاولات اللّفّ والدّوران في كلامه.
وخلاصة القول:
ممّا عرضنا آنفًا يظهر ذلك القرب والتّطابق بين الإله الصّحراوي، بدءًا بـ"يهوه"، الإله التّوراتي وانتهاءً بما ظهر في صحاري جزيرة العرب. ويظهر، من خلال كلّ ما أوردنا، مدى العنف المتجلّي في صورته الّتي تنعكس في هذه النّصوص المقدّسة. والسؤال الّذي يطرح نفسه في هذا السّياق هو، هل يمكن أن تتغيّر طبيعة هذا الإله؟ والإجابة على ذلك هي نعم بالتأكيد. فمثلما ورد في الآية "لا يُغيّرُ اللّه ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم"، نستطيع أن نقول إنّ الطّريق المثلى للوصول إلى تغيير طبيعة الإله هي أن يغيّر النّاس ما بهم، إذ لن يُغيّر النّاس ما بإلههم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم. لأنّ الإله قد خُلق على شاكلتهم، فإن غيّروا ما بأنفسهم، تغيّرت شاكلة إلههم.
والعقل ولي التّوفيق.
ديسمبر 2007
***
المقالة في إيلاف
قضايا عربية
-
دول عصابات
-
تفكيك العنصرية
فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...تتمة الكلام...
-
هذيان ثنائي القومية
على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...تتمة الكلام...
شؤون محلية
-
شعب واحد أم تشعّبات؟
قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.
تتمة الكلام
-
كل يغني على ويلاه
إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.