سلمان مصالحة ||
تداعيات ليلية
اليَوْمَ أَطْلَقْتُ العِنَانَ لِخَاطِرٍ،
وَمَشَيْتُ خَلْفَ هَواجِسِي
ثَمِلاً بِما أُعْطِيتُ مِنْ هَمٍّ
تَفَتَّحَ فِي اغْتِرَابِي. كُنْتُ
مَحْمُولاً عَلَى أَلَمٍ قَدِيمٍ،
تَنَاثَرَ مِنْ كِتَابٍ مُبْهَمٍ.
فَطَرَقْتُ بَابًا مُوصَدًا مِنْ
أَلْفِ عَامٍ، حَامِلاً حُلُمِي
المُخَبَّأَ فِي الفُؤَادِ. وَطُفْتُ
أَبْحَثُ عَنْ مَنَامٍ لَمْ أَزُرْهُ
وَلَمْ يَزُرْنِي فِي رُقَادِي.
مَرَّ فَجْرٌ، مَرَّ عَصْرٌ،
فَانْثَنَيْتُ عَنِ المُضِيِّ بِدَرْبِيَ
المَرْصُوفِ بِالأَرَقِ المُوَزَّعِ
خَلْفَ بَابِي مِثْلَ غَيْمٍ فِي
السَّرَابِ. فَرَدَّنِي قَلَقِي إلَى
مَا كُنْتُ أَوْرَثْتُ الشَّوَارِعَ
مِنْ شَبَابِي. أَيْنَ بَابِي الآنَ،
أَيْنَ جَوَارِحِي ارْتَحَلَتْ
بِلا أَثَرٍ يُذَكِّرُ بِالَوَدَاعِ؟
وَكَيْفَ جَاءَ الصَّيْفُ بَعْدَ
غِيابِهِ فِي دَمْعَةٍ وَقَعَتْ
عَلَى شَفَةِ اليَرَاعِ. هُناكَ
كَانَ المَوْتُ يَزْحَفُ خَلْفَ
شَيْخٍ حَانِيَ الظَّهْرِ، كَطِفْلٍ
فِي الرِّضَاعِ. سَئِمْتُ مَا
كَتَبَ المَصِيرُ لِهَاجِسٍ.
كَلَّتْ بِهِ عَيْنِي بِهَذا العَصْرِ،
فَانْهَمَكَتْ ذِرَاعِي تَفْرُشُ
النَّجْمَاتِ فِي دَرْبِي، تَحُثُّ
الرِّيحَ أَنْ تَجْرِي بِمَا اشْتَهَتِ
الغُيُومُ، وَتُرْسِلُ الكَلِمَاتِ
عَبْرَ أَصَابِعٍ، سَرَحَتْ
كَسِرْبِ أَيَائِلٍ فِي اللَّيْلِ.
هَذا اللّيْلُ جَاءَ يَقُصُّ
سِيرَتَهُ عَلَيَّ، بِلَحْظَةٍ
وَسَعَتْ سَمَائِي. جَاءَ
يَحْمِلُ بَعْضَ ما تَرَكَتْ
لَهُ سُفُنُ العَنَاءِ، وَكَأَنَّنِي
كُنْتُ الوِعَاءَ لِكُلِّ هَذا الحُلْمِ
فِي طَرَفِ الفَضَاءِ، فَمَنْ
يَكُونُ اللَّيْلُ، مَنْ هذا الّذِي
طَلَبَ اتِّبَاعِي، نَاسِيًا مَا
كُنْتُ أَذْكُرُ فِي رَحِيلِي،
وَاجْتِمَاعِي بِالأَيَائِلِ.
وَحْدَهَا طَرِبَتْ مَعِي،
قُلْتُ ارْجَعِي للأَصْلِ حَيْثُ
تَرَكْتِنِي، لِأَبُوحَ مَا نَسِيَتْ
شُجُونِي فِي الأصَائِلِ. كَانَ
فِي القَلْبِ فَرْخٌ، مِنْ زَمانٍ قَدْ
مَضَى. لَمْ يَلْتَفِتْ للرِّيشِ إذْ
هَبَّتْ بِهِ رِيحٌ فَأَطْلَقَتِ الرِّياحُ
جَنَاحَهُ مَرحًا، وسَافَرَ
للبَعِيدِ، ولَمْ يَعُدْ. فَبَقِيتُ
مِثْلَ هَوَاجِسِي، قَلِقًا عَلَى
حُلُمٍ تَوَلَّى. لَيْسَ عِنْدِي الآنَ
شَيْءٌ غَيرَ هذا اللَّيْلِ، حَلَّ
إزَارَهُ فَفَرْشْتُ سَهْلاً، كَيْ
يَكُونَ لِقاؤُنَا شِعْرًا، وَظِلَّ
سَوَالِفٍ مِنْ بَحْرِ حُزْنٍ، كَيْ
يَطُلَّ مِنَ الفَضَاءِ عَلَيَّ نُورٌ
مِنْ ظَلامِكَ، كَيْ أُفَتَّشَ فِي
كَلامِكَ عَنْ حَكَايَا أُثْقِلَتْ
فِي اللَّيْلِ حِمْلاً مِنْ دُمُوعٍ
شَابَهَا فِي العَيْنِ لَوْنُ
الجَمْرِ، حِينَ خَبَرْتُ أَنِّي
رَاحِلٌ خَلْفَ الحُدُودِ،
وَعَابِرٌ جَبَلاً وَسَهْلاً.
مُبْحِرٌ بِشِتَاءِذَاكِرَتِي الَّتِي
نَبَعَتْ كَفَيْضِ تَوَهُّمٍ فِي
اللَّيْلِ، طِفْلاً. أَيْنَ أَنْتَ
الآنَ فِي هَذا المَكانِ، وَأَيْنَ
اللَّيْلُ مِنْ ذَاكَ الزَّمانِ يُعِيدُ
إلَيَّ مَا أَبْقَيْتُ مِنْ مَرَحٍ
لِفَرْخٍ لَمْ أَكُنْهُ، ولَمْ يَكُنِّي.
لَمْ أَجِدْهُ فِي المَسَاءِ، وَلَمْ
يَجِدْنِي، فِي صَبَاحِي،
هَائِمًا بِرَحِيلِ لَيْلٍ لَمْ يَكُنْ
إلاَّ كَحُلْمٍ عَابِرٍ. يَا لَيْلُ،
أهْلاً بِالنُّزُولِ بِدَارَتِي،
يَا لَيْلُ، أَهْلاً بِالمُرُورِ
عَلَى دِيَارٍ فِي الفُؤَادِ،
حَلَلْتَ طَلاّ.
***