عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث شفاف. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث شفاف. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات

وراء كواليس حرب لبنان 1983

وثيقة سرية - بيروت 1983

سلمان مصالحة ||

وراء كواليس حرب لبنان 1983

نظرًا لعدم إتاحة الأرشيفات الرسمية في البلاد العربية لعامّة المهتمّين ولأسباب لا قد تخفى على القارئ النبيه، بدءًا من خشية افتضاح سلوكيات مسؤولين وقيادات من وراء الكواليس في هذه الدول العربية التي لم تعرف في تاريخها مبدأ مصارحة الشعوب التي تزعم قيادته وتمثيله، وانتهاءً بافتضاح أمور شخصية يحاول هؤلاء إخفاءها عن العامّة. 

إذن، والحال هذه، فما على الباحث عن بعض تلك الجوانب وخفاياها والوقوف على حقائق خفيت عن ناظريه سوى الذهاب إلى أرشيفات الآخرين الذين كانوا على مرّ التاريخ على صلة بهذه البلدان.

فها أنذا أقدّم للقارئ العربي بعامّة، واللبناني على وجه الخصوص، هذه الوثيقة الإسرائيلية التي قد تكشف أمورًا لم تصل إلى أسماع هؤلاء من قبل.

وأخيرًا، ملاحظة لا بدّ منها:
من الجدير النظر إلى ما يرد في هذه الوثائق بحذر لأنّها تأتي من طرف واحد، ولأجل التحقّق أكثر من الأمر هنالك حاجة للوقوف على أرشيفات الأشخاص المذكورين (إن وجدت أصلًا) لتصديق الأمور أو دحضها.

الوثيقة مكتوبة باللغة العبرية، وأرسلها المندوب الإسرائيلي من بيروت.

جدير بالتنويه أيضًا إلى ما يبدو أنّه خطأ في الوثيقة، حيث ورد في الأصل بعد اسم شارل خوري المكتوب بحروف لاتينية وبين قوسين التعبير (شيعي).  يبدو أن كاتب الوثيقة كان يقصد بوضع التعبير (شيعي) بعد اسم كامل الأسعد. فمن غير المعقول أن المندوب الإسرائيلي الذي دُعي لوجبة غداء عند مساعد رئيس البرلمان ويقوم بتدوين ما جرى بينهما من حديث ويكتب اسمه بالحروف اللاتينية لا يعرف ذلك. فعلى ما يبدو فإنّ هذا الخطأ قد وقع سهوًا.

كما تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ المقصود بـ”فؤاد” الذي يرد اسمه في الوثيقة هو بنيامين بن-إليعيزر والذي كان أشغل منصب ضابط الارتباط مع القوات اللبنانية في ذلك الأوان.

ولقد وضعت هنا ترجمة عربية لها لمزيد الفائدة. 

***

دولة إسرائيل

وزارة الخارجية
القدس
بيروت، 8 مايو 1983 


سرّي

”إلى: المدير العام…..
من: يتسحاق ليؤور، بيروت

بواسطة سامي الشدياق دعاني اليوم للغداء شارل خوري (شيعي)، مساعد رئيس البرلمان كامل الأسعد. وروى لي ما يلي:

1. لقد أرسله كامل الأسعد إليّ شخصيًّا لأجل ”تحضير الأرضية لعقد لقاء بينه وبينك“. إنّه غير معنيّ بلقاءات مع عسكريّين أو رجال استخبارات. (على ما يبدو إشارة إلى محاولات البريغادير مئير دغان الالتقاء به).

2. سألته ماذا يقصد بالقول ”تحضير الأرضية“. فكان جواب شارل أنّ لدى كامل الأسعد شعورًا بأنّ الأجواء بينه وبين إسرائيل ليست إيجابية. هنالك انعدام ثقة وسوء فهم بين الطرفين. لذلك من المفضّل توضيح عدّة أمور مسبقًا.

3. بحسب أقواله كان كامل الأسعد بين الأوائل الذين طالبوا في 1976 بإجراء مباحثات مع إسرائيل في الوقت الذي كان فيه حتّى كميل شمعون معارضًا لذلك. لقد كان يدعم باستمرار بشير والذي كان رجلنا. لقد حاول حينئذ أن ينضمّ إلى حلقة أصدقائنا (إبّان فترة فؤاد)* غير أنّ شمعون منعه من ذلك. بين السنوات 1977-1979 كانت لدى كامل الأسعد علاقات مع السوريين لكن ليس على حسابنا. بعد مقتل بشير سأل ”ماريون“ بواسطة شارل خوري بمن نحن معنيّون أن يكون رئيسًا للحكومة، غير أنّه لم يحصل على إجابة. في الآونة الأخيرة أطلق في فاس عدة تصريحات لم تُفهم من طرفنا بصورة صحيحة، لأنّها أُخرجت من سياقها. في نهاية المطاف كامل الأسعد هو صديق، وشخصية إيجابية من ناحيتنا. وهو شجاع في اتخاذ مواقف، وهو ممن ”يمكن عقد صفقات معه“ في كلّ ما يتعلّق بالبرلمان، بالترتيبات في جنوب لبنان وبالطائفة الشيعية. ففي جلسة البرلمان الأخيرة (المُغلَقَة) قال كامل الأسعد بصورة لا تقبل التأويل إنّ على لبنان الوصول إلى اتفاق مع إسرائيل.

4. لدى كامل الأسعد إحساس بأنّه ليس فقط أنّنا لا نفهم مقاصده وإنّما أيضًا نضرّ به في الجنوب. أنّنا ندعم منافسيه (ذكر شارل مثلًا، قريب عائلته علي الأسعد من قرية الطيبة)، كما وتعرّض سكرتيره الشخصي في الغازية (قريبًا من صيدا) للضرب من قِبَل جماعة ”أمل“. يعتقد كامل الأسعد أنّ علينا أن نثبت عمليًّا في الميدان تغيير هذه الأمور قبل أن ينعقد اللقاء. 

5. قلت لشارل فورًا إنّي لا أعتقد أنّ هذه هي الطريق لتحسين الأجواء. على العكس، بافتراض - ولسنا شركاء بهذا - أنّ الأجواء معتكرة، فإنّي إن أرسلت للبلاد شروطًا مسبقة كهذه، فإنّ الأمور ستزداد تعكيرًا، وأضفت أنّه بخصوص الموضوع فليس لدينا شيء ضدّ كامل الأسعد الذي نعرفه ونكنّ له الاحترام. لست على علم بتفاصيل الأحداث التي ذكرها، غير أنّني أستطيع القول بثقة تامّة إنّه إن كانت قد حصلت فعلًا فهي لم تكن موجّهة ضدّ كامل الأسعد بالمرّة. وبالتأكيد لن يشعر كامل الأسعد بالارتياح إذا ما وضعنا نحن من جانبنا شروطًا مسبقة للقاء. فأقترح لملمة هذه ”المقدمة“وعدم طرحها بعد هذا الحديث بيننا.

6. لقد وعد شارل بنقل هذه الأقوال بروح طيبة إلى كامل الأسعد. كما قد طرح قضية أخرى. فعلى حدّ قوله، قبل 4 شهور ظهر لدى كامل الأسعد شخص غير معروف واسمه عادل مراد من بلدة عيترون في الجنوب وروى أنّّه قد وصل إلى بيروت في مروحيّة بوصفه موفدًا من قِبَل جهة إسرائيلية سائلًا إن كان كامل الأسعد على استعداد للالتقاء برئيس الكنيست. حسبما قال شارل لقد كان هذا مسًّا بكرامة كامل الأسعد، إذ بوسع إسرائيل إيجاد طرق لائقة للاتصال به. أجبت أنّي لا أعلم شيئًا عن هذه الجهة الإسرائيلية وهذا الحدث، غير أنّنا من طرفنا إذا ما تمّ اللقاء فسنقوم بكلّ الترتيبات اللائقة التي تروق للطرفين. 

7.  كما أضفت من أنّك سترحّب بمبادرة كامل الأسعد إذ إنّ اللقاء المقترح، في خضمّ عملية ستحدّد بمدى كبير مستقبل العلاقات بين لبنان وإسرائيل، بوسعه أن يساهم في التفاهم المتبادل. لقد قلت له إنّه عندما نسمع عن الموعد المقترح سأكون سعيدًا بنقله إليك، وبعدئذ نتّفق على مسألة مكان اللقاء. 

8. سيتحدّث شارل مع كامل الأسعد وسيعود ويخبرني.“

مع التحية
يتسحاق ليؤور

***


رسالة في فضل العقل على النقل

 

سلمان مصالحة ||

رسالة في فضل العقل على النقل


الكتابة، كلّ كتابة، ومنذ قديم الزّمان
هي من عمل هذا الحيوان النّاطق، بل هي مزية، من بين مزايا أخرى، تفرق الإنسان عن سائر المخلوقات. إنّها فعل هو نتاج تجريدي من مهمّات العقل، أمبدعًا كان العقلُ أم ناقلاً لما أبدع آخرون.

قبل وجود الكتاب درج الإنسان على التّدوين بالنّقش في الحجر أو النّقش في الألواح الطّينيّة، عبورًا بالكتابة على العظم والجلود وما إلى ذلك من وسائل تحمل نتاج العقل والنّقل لتبقى على مرّ الزّمن، لتكون ذاكرة وزادًا للأجيال القادمة.  هذه هي بالذّات وظيفة الكتاب منذ القدم وهذه وظيفته في يومنا هذا وستظلّ كذلك في المستقبل المنظور على ما يبدو، رغم الطّفرة الإلكترونيّة المعاصرة.  

ولمّا كان الكتاب وما يحويه من مضامين هو من عمل الإنسان العاقل والنّاقل فإنّه يحتمل الخطأ والصّواب، ولهذا أيضًا فإنّه يحتمل النّقد والنّقض. لا فرق في هذه القضيّة إن كان الكتاب حاملاً لمضامين العلوم الطّبيعيّة أو حاملاً لمضامين العقائد الدّينيّة على اختلاف مشاربها ولأيّ من الدّيانات والعقائد البشريّة كان انتماؤها.

إنّ العقائد البشريّة تعكس كلّ تلك المنظومات المعرفيّة الّتي يتوصّل إليها العقل البشري في مراحل تدرّجه على مرّ تاريخه. وفي الحقيقة فإنّ العقائد الدّينيّة لدى بني البشر تعكس في الأساس منظومات المجاهل وليس منظومات المعارف. إنّ بني البشر على العموم يحيلون الجهل بقوانين الطّبيعة والجهل بالظّواهر الطّبيعيّة إلى قوى أخرى خارقة تقع ما وراء حدود علمهم في مراحل تطوّرهم عبر التّاريخ.  هكذا ينتقل الإنسان من العادي المادّي ومحاولة معرفة علاقاته السّببيّة إلى مرحلة الإيمان. أي إنّ الجهل، على العموم، هو العنصر الجوهري الّذي يتأسّس عليه الإيمان على مرّ الزّمان.

هكذا وُلدت الآلهة عبر التّاريخ 
فلقد خلقها الإنسان لكي ينيط بها كلّ ما لم يقدر عقله على سبره وعلى فهم علائقه. وهكذا على مرّ التاريخ جاءت آلهة البشر على شاكلتهم، تحبّ وتبغض وتتزاوج وتتحارب ثمّ تتصالح إلخ، وبمدى عمق وثراء معارفهم تكون معارف آلهتهم على شاكلتهم. لقد لخّص الفيلسوف الإغريقي اكسينوفان هذه المسألة بالقول: لو كانت الحيوانات، أهليّة كانت أم وحشيّة، تعرف فنّ الرسم، لكانت رسمت آلهتها على شاكلتها، ولكان الحصان، على سبيل المثال، قد رسم إلٰهه على شكل حصان.

وهكذا أيضًا، عندما تذكر التّوراة، في قصّة الخلق، أنّ حوّاء قد خُلقت من ضلع آدم، فلا يمكن النّظر إلى هذه الخرافة إلاّ من باب الأسطورة الّتي تحاول الذّهاب بعيدًا والنّظر في المجهول من أجل وضع تفسير مبسّط لبدء الحياة البشريّة على هذه الأرض.  ولمّا كان العقل البشري منذ القدم قاصرًا عن فهم هذه الظّاهرة الّتي تدبّ على الأرض فإنّ الإحالة إلى الأسطورة تصبح الطريق المثلى لفكّ مجاهل هذه القضايا الشّائكة. وهكذا تتحوّل الخرافة إلى قصّة أسطوريّة تتداخل في فعل الإيمان، لأنّ القداسة على العموم هي أداة تُستخدَم لحفظ الذّاكرة الحضاريّة من خلال العودة مرّة تلو أخرى إلى تكرار وترديد الأسطورة. وبوصفها كذلك فهي لا تحتضر ولا تفنى مهما تناقضت مع المُكتشفات العلميّة لأنّ وظيفتها لا تنتهي باندفاع العلوم قدمًا، لأنّها من طبيعة مختلفة أصلاً.

ومن هذا المنطلق ستحمل الذّاكرة الحضاريّة التّوحيديّة، يهوديّة عبورًا إلى الإسلاميّة، كلامَ الله لموسى عبر عوسجة أو عليقة محترقة في الصّحراء. ومهما بدا الأمر مضحكًا في نظر الإنسان الّذي يعيش في هذا العصر غير أنّ هذه الخرافة تبقى حيّة وعالقة فاعلة في ذهنه لأنّها ترتبط بقضايا الإيمان والّتي لا مجال لوزنها بميزان العقل.

كذا هي الحال في ما يتعلّق بظواهر الطّبيعة
الّتي لم يسبر أغوارها العقل البشري في مراحل تطوّره البدائيّة. فكلّ ما يجهله بهذه الشؤون والقضايا ينسبه إلى الآلهة أو إلى عالم الغيب، عالم الخرافة. فلو نظرنا إلى ظاهرة غروب الشمس على سبيل المثال، فماذا نحن واجدون في الموروث العربي الإسلامي؟  من بين الأمور الّتي قد تثير الضّحك في عصرنا العلميّ هذا هو تلك الخرافات الّتي كان أسلافنا يؤمنون بها، وقد يكون من الصّعب على المؤمنين بالنّصوص المقدّسة التّخلّي عنها.  

مثال على ذلك ما ورد في القرآن بخصوص مغرب الشّمس.  فقد ذكر القرآن في سورة الكهف وفي سياق ذي القرنين: "حتّى إذا بلغَ مغربَ الشّمس وَجدَها تغربُ في عينٍ حمئة" (سورة الكهف: 86).

فلو ذهبنا إلى أحد أقدم التّفاسير القرآنيّة الّتي وصلتنا فماذا نجد في تفسير غروبها في ”عين حمئة؟ ها هو الصّحابي أبو ذر الغفاري يتطرّق إلى هذه المسألة: "قال أبو ذر الغفاري: غربت الشمس يومًا، فسألتُ النبيّ (صلعم)، أين تغرب الشمس؟ فقال النبي (صلعم): تغرب فى عين حمئة وطينة سوداء، ثم تخرّ ساجدةً تحت العرش فتستأذن، فيأذن لها..." (تفسير مقاتل بن سليمان، أنظر كذلك بخصوص ذات الرّواية باختلافات طفيفة في تفسير الطّبري، سنن أبي داود، تفسير القرطبي، تفسير البيضاوي، زاد المسير لابن الجوزي، الدّرّ المنثور للسّيوطي، وغيرها من المصادر).

فما هي، يا تُرى، هذه العين الحمئة؟
أوّلاً، لا يوجد إجماع على النّصّ القرآني بهذه الصّورة، وهذا ما يُخبرنا به الطّبري: "فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة {في عين حمئة}، بمعنى: أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قرّاء المدينة، وعامة قرّاء الكوفة {في عين حامية}، يعني أنها تغرب في عين ماء حارة." (نقلاً عن: تفسير الطّبري للآية).  فهذه الرّوايات والقراءات المختلفة هي خير شاهد على أنّ هذه النّصوص، ورغم قداستها، ليست ثابتة وإنّما هي من عمل البشر، من عمل ذاكرتهم الّتي لا يمكن أن تكون ذاكرة محكمة لا يعمل فيها تقادم العهود وتقادم الزّمان وتبدُّل المكان، وربّما الأهواء أيضًا، عمله.

الأمر الوحيد الّذي يُجمع عليه المؤمنون في هذا السّياق هو أنّ الشّمس تغيب. ولكن، كيف وأين تغيب هذه الشّمس فهذه القضايا مثار خلافات، إن لم نَقُل، مثار خرافات. فالبعض يقول إنّها تغيب في طينة سوداء والبعض يقول إنّها تغيب في عين ماء حارّة، وكما يذكر الطّبري: "واختلف أهل التّأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته".  ولهذا الغرض يستعينون بالأحاديث النّبويّة: "عن عبد الله، قال: نظر رسول الله (صلعم) إلى الشمس حين غابت، فقال: في نار اللّه الحامية، في نار الله الحامية، لولا ما يَزَعُها من أمر الله لأَحْرَقت ما على الأرض" (تفسير الطبري).

إنّ الطّبري لا يشكّك في المضمون المضحك للخرافة، بل يحاول التّوفيق بين القراءتين لا غير، فيقول: "والصوابُ من القول في ذلك عندي أن يُقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجهٌ صحيحٌ ومعنًى مفهومٌ، وكلا وجهيه غيرُ مُفسدٍٍ أحدُهما صاحبَه. وذلك أنّه جائزٌ أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ {في عين حامية}  بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة. ويكون القارئ {في عين حمئة}  واصفَها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين" (تفسير الطبري).

ثمّ تسلك الخرافة طريقًا جديدة، إذ تذهب إلى أناس تلك النّواحي لتسرد علينا أحوال معيشتهم.  فها هي الخرافة تتعاظم: "وروى قتادة عن الحسن قال: وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القُدور، ووجد عندها قومًا لباسُهم جُلودُ السّباع، وليس لهم طعام إلاّ ما أحْرَقت الشّمسُ من الدّواب إذا غربت نحوها، وما لفظت العَيْنُ من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس." (زاد المسير لابن الجوزي، وتفسير البيضاوي).

غير أنّ هنالك أيضًا من بين السلف
من قام بمحاولات جدّيّة لدحض هذا الغباء الصّحْراوي البدائيّ. فها هو الرّازي ينظر في هذه المسألة في مؤلّفه "مفاتيح الغيب".  لقد تطرّق الرّازي في البداية إلى اختلاف القراءات وحاول، مثلما فعل الطبري من قبله، التّقريب بينها: "واعلم أنّه لا تَنافيَ بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعًا" (الرّازي، مفاتيح الغيب).  لقد وفّق الرّازي بين الخلافات هذه، لأنّه رأى أنّ المشكلة لا تكمن في القراءة فحسب، بل هي في مضمون هذه المشاهدة أصلاً، وهي المشاهدة الّتي تسم اللّه بالغباء في نهاية المطاف.

ولذلك يستمرّ الرّازي في بحث المسألة، فيقول: "ثبت بالدّليل أنّ الأرض كرةٌ وأنّ السّماء محيطةٌ بها، ولا شكّ أنّ الشمس في الفلك...".  ولأنّ الأرض كرويّة، يضيف الرّازي مستعينًا بتفسير الجبائي: "إنّ راكب البحر يرى الشمس كأنّها تغيب في البحر إذا لم ير الشطّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التّأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره... أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالنّاظر إلى الشّمس يتخيّل كأنّها تغيب في تلك البحار".

غير أنّ الرّازي يشعر بأنّه قد وصل مبلغًا كبيرًا في نقد ونقض الرّوايات التّراثيّة حول نصّ مقدّس فيجنح إلى تخفيف الصّدمة المنوطة بذلك، ربّما، فيضيف: "ولا شك أن البحار الغربيّة قوية السّخونة فهي حامية وهي أيضًا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: {تغرب فى عين حمئة} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض، قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة".

ثمّ ما يلبث الرّازي أن يعود إلى دحض كلّ تلك الخرافات من خلال تتبّع المشاهدات الفلكيّة في الأصقاع المختلفة من الأرض، فيقول: "وذلك لأنّا إذا رصدنا كسوفًا قمريًا، فإذا اعتبرناه، رأينا أنّ المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أوّل الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أوّل النّهار، فعلمنا أنّ أوّل اللّيل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس".

ولأنّ الرّازي يأخذ بالعقل لا بالنّقل،
ولأنّه يأخذ بالمشاهدات العلميّة لا بالخرافات النّابعة من جهل ومن أمّيّة، فهو يصل إلى القول الّذي لا بدّ منه: "وإذا كانت هذه الأحوالُ معلومةً بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أنّ الشّمس طالعةٌ ظاهرةٌ في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلامًا على خلاف اليقين، وكلامُ اللّه تعالى مُبرّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يُصار إلى التأويل الذي ذكرناه".

فهل نذهب نحن أيضًا، مثلما فعل من قبلنا، صاحب مفاتيح الغيب إلى العمل بالعقل بدل النقل؟
 
ففي نهاية المطاف، العقلُ وليّ التّوفيق.
***

نشرت أيضًا: شفاف الشرق الأوسط

غيوم بلقانيّة

من الأرشيف - نص لم يُنشر من قبل:

سلمان مصالحة ||

غيوم بلقانيّة


"متى ستُقنعين ماريانا باعتناق الإسلام؟"
هكذا، وبلا مقدّمات معهودة تُخفّف من وقع الكلام، أطلق الوالدُ على مسامع ابنته ذلك السّؤال الّذي لا يحتمل تأويلات على أكثر من وجه. لا شكّ أنّ وجه ماريانا البشوش هو ما دفع الوالد إلى طرح هذا السؤال، الطّلب، على ابنته حاثًّا ايّاها على أن تتحدّث في الموضوع مع صديقتها الجديدة.

أحمد بيضون || ”دكتور أخمد أنا أيضًا شيوعي“

 مختارات -


أحمد بيضون

توجّهنا إلى بيتِ أختي زينب في البلدةِ لأنّ بيت أهلي كان مهدومًا جزئيًا من جرّاءِ القصفِ في 1977- 1978 ثمً من جرّاءِ النسفِ الذي أودى بمبنَيينِ كبيرينِ مجاورَينِ لهُ في أيّامِ الاحتلالِ الأولى. وكانَ ما تبقَى من الطابقِ السُفْلِيِّ فيه محتاجًا إلى إصلاحٍ ليعودَ صالحًا للسّكَن.

بيار عقل || مظفّر النوّاب والجوازات العربيّة

مختارات
 
 

 
لأن مظفّر كان صديقي، فقد وجدت أن من الضروري تصحيح رواية “فرار مظفّر من السجن” التي يتم تداولها الآن على صفحات التواصل الإجتماعي.

منصور عباس يقف على أكتاف عمالقة

 

 "علينا ألا نتنازل وألا نراوغ وأن نطالب بمساواة مدنية تامّة. وأن نكون، كعرب، جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطية الإسرائيلية..."

شاهد عيان على هجوم الطليان

بيروت، ربيع 1912-


قصف عون الله 1912

سلمان مصالحة ||

شاهد عيان على هجوم الطليان


قبل نصف عام هزّ انفجار ضخم ميناء بيروت فاهتزّت منه المدينة بأَسْرِها وبكُلّ أُسَرِها، إذ لقي الآلاف مصيرًا من الموت والجراح، كما ضرب الهدم العمارات على امتداد مساحات واسعة. 

ولمّا كنت اعتدت منذ زمن على ترك أخبار هذا الأوان لدى سماعي خبرًا ما يهزّني في هذا العالم الواسع، وعلى وجه التحديد في هذا العالم العربي القابع في دهاليز لا يستطيع فيها رؤية بصيص من أمل، فقد ذهبت باحثًا عن أحداث من الماضي تعيدني إلى تلك الأماكن في أزمان غابرة. 

وبينما أنا غارق في أوهام وآلام الحاضر، رحت أحث النّفس على ركوب دفاتر الماضي بلغات الآخرين الذين كتبوا عن أحوال هذا الشرق. وهكذا سرعان ما وجدت نفسي قبل أكثر من قرن من الزمان، وفي فبراير من ربيع العام 1912 شاهدًا على انفجارات أخرى في ميناء بيروت، حين قصفت السفن الطليانية ميناءها وشاطئها. 

وهذه المرّة، أقرأ تفاصيل أخبار ذلك الزمان بصحيفة عبرية صادرة في تلك الأيام. ولكي تعمّ المنفعة على قرّاء لغة الضاد، فها أنذا أرويها عليكم مجدّدًا لما تحويه من أجواء تلك الأيام، وما تحويه من معلومات قد تكون مفيدة لمن ينوي الغوص في ملابسات تلك المرحلة.

لقد وردت هذه الأخبار في صحيفة ”هحيروت“ العبرية الصادرة في الأول من مارس سنة 1912. 
 

***
الخبر التي نشرناه في عددنا السابق بشأن الأحداث الأخيرة في بيروت أثار مشاعر المقدسيين لأنّ لدى الكثيرين منهم عائلات، أبناء وإخوان، أصدقاء ومعارف في بيروت، ولهذا كان القلق كبيرًا. كما نُشرت إشاعات مبالغ بها بخصوص محاولات هجوم جديدة من طرف العدوّ على سكان المدينة، وكذلك بخصوص محاولات قصف عكّا وحيفا وصيدا، وذكرت الإشاعات أنّ الجنود الطليان نزلوا إلى بيروت ، كما وصلت خمس سفن فرنسية من مرسيليا إلى بيروت، ووصلت إلى ميناء سعيد [بور سعيد] عشر سفن مدرّعة إنكليزية وهي تنتظر الأوامر من القيادة العليا... بالطبع لا نستطيع تصديق كلّ هذه الإشاعات قبل الحصول على تفاصيل رسمية من كلّ هذه الأماكن.

في هذه الأثناء، وصلتنا بالبريد الأخير أخبار لافتة من مراسلنا الخاصّ في بيروت، السيد يروشلمي [المقدسي]...


الرسالة الأولى من مراسلنا البيروتي:

(1)
”منذ يومين وصلت إلى لبنان، اليوم بعد الظهر خرجت للتنزّه مع بعض أصدقائي في السفوح الثلجية لجبال لبنان الجميلة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تكسو جبل لبنان.
فجأة، شاهدنا مجموعات من الناس تسرع في الطريق الصاعدة من بيروت إلى الجبل. ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ لم نعرف شيئًا وفقط سمعنا الصراخ هنا وهناك والضجيج يملأ الأجواء. غذذنا الخطو وأسرعنا نحو الناس المذهولين.
”شو هادا“؟ سألت أحد العرب الذي وقف بجانب بيت-قهوة نصراني.
”حرب!، الطليان في بيروت“، أجاب.
ذُهلت، واضطرب جسدي وتصبّبت قطرات عرق باردة على جبيني. لم أصدّق ما سمعته أذناي، وفي خضمّ هذا الانفعال الذي يصعب وصفه أسرعت إلى الفندق بدل الوقوف بانتظار الهاربين من بيروت، أخذت مسدّسي وخرجت. حثثت أصدقائى للذهاب إلى الشرطة اللبنانية لمعرفة حقائق الأخبار. جئنا إلى الشرطة، وكان الشرطيّون هناك مذهولين ويتهامسون بنبرات غاضبة. تقدّمت إلى أحدهم وسألته بلطف، ماذا جرى في بيروت. نظر إليّ مُحدّقًا وقال: ”لا تخف! أسرع واجلس في بيتك لئلّا يهجم عليك الهاربون في ساعة غضبهم وانفعالهم...“. اضطررت لسماع نصيحة الشرطي وذهبت إلى الفندق بفرائص مرتعدة.  مرّت ساعتان بدتا بنظري طويلتين كما الأبد. كانت روحي مستعرة وفؤادي مضطربًا. كانت لدي رغبة بالتواجد في بيروت لأرى ما يحدث هناك بأمّ عيني... فجأة سمعت طلقات نارية... شحب وجهي وارتعد جسدي. هممت بالخروج غير أنّ أصدقائي منعوني من ذلك. وقفنا في الشرفة وشاهدنا مركبات وعربات كثيرة مليئة بالرجال والنساء والأطفال والعفش والأواني البيتية. لقد كانت وجوههم كوجوه الموتى، لقد انتحبت النساء، وشاهدتُ امرأة نصرانية يُغمى عليها في أحضان ابنتيها... أحد المسلمين، بيروتي، مرّ وكان جريحًا... بين هؤلاء اللاجئين كان يهود كثيرون، أغلبهم بيروتيون وحلبيّون. أحدهم، من معارفي، شاهدني من بعيد فصاح...
”اصعد، اصعد إلى غرفتي!“ قلت له، وأسرعت هابطًا لاستقباله. لقد كان وجهه شاحبًا كالكلس وارتعدت فرائصه خوفًا. صافحته فكانت يداه باردتين، صعدنا وبصوت مرتعد أخبرنا ما جرى في بيروت هذا الصباح.
وهذا ما رواه على مسامعنا الصديق الذي كان شاهد عيان على فظاعة الحدث في بيروت:
”... يوم السبت صباحًا كان كلّ شيء هادئًا في بيروت. في الشاطئ كانت هناك سفن تجارية وبعض السفن الأخرى التي أخبرت عن قدوم سفينتين حربيّتين من بعيد. أسرع كثير من الناس إلى الرصيف وفجأة سُمع صوت رعد هائل وانفجار أذهل المارّة االذين كانو في طريقهم لفتح أبواب حوانيتهم. لقد تعاظم الانفعال إثر الإشاعة بأنّ الطليان أطلقوا القذائف على بيروت، غير أنّ الطلقة الأولى كانت على التورپيد التركي «أنقرة» وعلى السفينة العثمانية «عون الله»، لقد دُمّر التورپيد وغرق فورًا، بينما السفينة كادت تتحطّم. في الساعة السابعة صباحًا كان الميناء فارغًا. كلّ السفن التجارية التي كانت راسية هناك هربت من العدوّ وأبحرت بطرق شتّى. في الساعة الثامنة أُغلقت كلّ الحوانيت وأسرع كثيرون إلى الرصيف، لمشاهدة السفن الحربية الطليانية التي حضرت مرّة أخرى ورست مقابل المدينة. لقد قام الوالي ورئيس المأمورين بإصدار الأوامر لإدارة الميناء لإيجاد حلول مع الأميرال الطلياني، فطلب هذا الأخير أن تُسلّم له الأسلحة. لقد رفض الوالي بالطبع هذا الطلب، إذ إنّه يتناقض مع القوانين. مع استلام الأميرال هذه الإجابة أمر بالقصف. فأطلق النيران على السفينة التركية وأُغرقت على من فيها من قوّادها وملّاحيها، كما أُطلقت النيران على مبنى الميناء الجديد، على البنك السالونيكي وعلى البنك العثماني. لقد قُتل وجرح الكثيرون. لقد عمّت الفوضى وتراكض الآلاف من الناس في الشوارع لا يعرفون إلى أين يهربون، وهم يسمعون أزيز الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم ويصمّ الآذان. الصراخ والعويل ملأ الأجواء وكلّ يبحث عن إنقاذ نفسه وأبناء عائلته. لقد كانت المخازن مغلفة الأسواق مهجورة، وفقط في بعض الأماكن كان هناك بعض العرب البسطاء وبعض الشبّان الذين حملوا البنادق، المارتينات والسيوف؛ إذ إنّ الحكومة استجابت لطلب الشعب ووزّعت البنادق. بالإضافة إلى الحكومة فإنّ اثنين من العرب، هما عبودي وبيضون، والمعروفين في المدينة كلصّين كبيرين قد فرّقا البنادق على رجالهما، كما قاما بتحطيم أبواب الحوانيت التي تبيع البنادق وأخذوا منها البنادق. لقد أرسلت الحكومة فرقًا من الجنود إلى الشاطئ ليكونوا على أهبة الاستعداد عندما ينزل الطليان. كلّ بيت يمكث فيه أناس من الرعايا الأجانب علّق على البيت علمه القومي لكي لا يُصاب بيته بأذى. لقد هرب المئات راجلين وعلى عربات إلى جبال الدروز، وإلى سائر لبنان في عرض البحر، إذ إنّ العربات الكهربائية توقّفت عن المسير، كما إنّ العربات قلّت وكان من الصعب العثور عليها. الكثير من اليهود هربوا وجاووا إلى هنا، بينهم أحد معارفي الذي روى لي تفاصيل هذه الأحداث.
إنّه لمن الصعب وصف المخاوف التي دبّت في قلوبنا لسماعنا التفاصيل على فظاعتها. لقد اقترحت على أصدقائي أن نسافر إلى بيروت ... ”ماذا؟ هل جُننت؟“ أجابوني، ”لن نسمح لك أبدًا بالسفر إلى بيروت!...“. أمّا أنا فقد أصررت على الذهاب إلى هناك لرؤية ما جرى بأمّ عيني، ولمعرفة ما جرى لأصدقائي، غير أنّ أصدقائي حثّوني على البقاء حتّى الصباح، وهكذا بقيت حتّى اليوم التالي.
لقد قضينا الليلة والخوف يخيّم علينا، وأنا استغللت فرصة بقائى في المدينة لكتابة هذه التفاصيل لقراء ”هاحيروت“.
***
(2)
... ها أنا في بيروت. دقّات قلبي تتسارع. فرائصي ترتعد وعيناي تسرحان لمشاهد المدينة المهجورة. في البداية خفت من الذهاب، غير أنّ قوّة مجهولة دفعتني للتجوال في الشوارع. توجّهت إلى محطة الشرطة الأولى التي صدفتها في الشارع، عند المستشفى البلدي. لقد فرحت بوجود شرطي هناك، من زملائي، فسألته فورًا عن الشهداء الذين سقطوا إبّان الهجوم. لقد سلمّني قائمة الأسماء لكلّ القتلى والجرحى. لقد كانت غالبيتهم من المسلمين. المسيحيون واليهود كانوا قلّة. وها هي بعض أسماء القتلى: عمر شمالي، عبد الرحيم شعبان، الحاج سعيد مصطفى باشا، محمد أبو سليم الحملي، سليم يوسف صباغ، رؤبين بن سلومون (يهودي)، محمد شاني (شرطي)، جميل دريان (كوميسار)، يوسف واكد، إلياس أبو الماع، وغيرهم كثيرون. ستّة عشر من القتلى المجهولين أُحضروا إلى المستشفى العسكري. في البحر قُتل عشرون ملّاحًا وموظّفًا، عشرون آخرون اختفوا وعلى ما يبدو فقد غرفوا في البحر. ثمانية موظّفين قُتلوا وأربعة عشر ملّاحًا جُرحوا. من سكّان المدينة جُرح كثيرون وها هي بعض أسمائهم: خالد بن غفور آغا، نجيب متري بربور، يشعيا بن يوسف (يهودي)، رفيق بك وابنه (صيدليان)، جواد بك (طالب في كلية الطبّ)، إبراهيم أفندي (ملازم)، الحاج يوسف الحلبي، فهمي أفندي (كاتب محكمة الاستئناف)، وغيرهم كثيرون.

لقد روى لي الشرطي أيضًا أنّ الحكومة قد اتّخذت جميع الاحتياطات بغية الحفاظ على أمن الشعب، وقد قام الوالي بإرسال برقية إلى وزير الداخلية ووزير الحربية للوزارة العليّة والباب العالي وينتظر الجواب.
لقد عمّت الفوضى في المدينة أمس. عندما ذهبت السفن الطليانية بدأ المئات من أفراد االشرطة بالسير في الشوارع والأسواق للحفاظ على النظام. لقد دبّ الخوف في قلوب المواطنين من الشبّان الغوغائيين الذين حملوا المسدّسات واستخدمونها لمآربهم الدنيئة عندما شاعت الفوضى. الضحية الأولى التي سقطت كان يهوديًّا، الأدون شتاينهارد، كان واقفًا في الصباح عند باب المتجر الكبير «أوروزدي باك» حين مرّ أحد الأتراك مشهرًا مسدّسه ودون أن يشعر به السيد شتاينهارد أطلق الحقير النار عليه فسقط اليهودي المسكين مضرّجًا بالدماء. إنّه يرقد الآن في المستشفى والأطبّاء فقدوا الأمل من إنقاذه. لم يكتف الحقيرون بذلك، وحين لقوا صهر السيد شتاينهارد أطلقوا النار عليه أيضًا، لكن لحسن حظّه أُصيب بيده بجرح بسيط. أيضًا على أحد اليهود السفراديم أطلقوا النار بالخطأ، إذ كانوا يصوّبون نحو أحد العرب والذي قُتل بعد أن سقط اليهودي أرضًا. لقد أثارت هذه الأحداث مشاعر اليهود.
لدى هبوطي الآن إلى الشاطئ اقتربت من السفينة المحطّمة الغارقة في البحر. جزء من البناية الجميلة للبنك العثماني القريب من مكان رسو السفينة المحطّمة قد انهار، وتحطّم الزجاج والأبواب. مبنى بيت الجمرك الجديد الذي بني منذ سنة تحطّم كلّه تقريبًا. كما تضرّر جدًّا مبنى «بنك دي سالونيك» الذي يقع مقابل الشاطئ. فقد اخترقت قذيفة أحد الحيطان ولو أنّها اخترقت الحائط الثاني لتهدّم البيت كليًّا.
الخوف يخيّم على المدينة. ثمّة خوف من حصول تمرّد في المدينة أو حدوث مناوشات بين المسلمين والنصارى، إذ إنّ الكراهية بين الطرفين شديدة. النصارى يخشون من المسلمين لأنّ هؤلاء غاضبين جدًّا ويرغبون في ضرب كلّ من يضع قبّعة على رأسه. وهكذا جرى مع أخينا السيد بارزل إذ تقدّم نحوه هؤلاء الشبّان الغوغائيين ظانّين أنّه طلياني، وبعد أن وعدهم بالمضيّ معهم حيثما يريدون تركوه وأطلقوا سراحه. وهكذا، فإنّ غالبية الذين كانوا يعتمرون القبّعات يلبسون الآن الطرابيش. في الحيّ الرئيسي الذي يسكنه نصارى كثيرون يخافون جدًّا من المسلمين، ممّا حدا بمدير الجامعة الأميريكية بالسماح للنصارى  بالدخول وبالاختباء في الجامعة حتّى تمرّ هذه الغمامة.
لقد أثرت الأحداث بالطبع على الحركة التجارية فكانت غالبية المخازن مغلقة في اليومين الأخيرين.
***
(3)
أخينا المسكين، السيد شتاينهارد، الذي هاجمه الغوغائيون، توفي صباح اليوم في المستشفى.
من دمشق وصل جنود وفرسان. أمس وطوال الليل مرّ الـ«طرامواي» في كلّ المدينة مليئًا بالعساكر ورجال الشرطة، وهكذا حافظوا على النظام فلم يحدث شيء. كلّ المؤسسات الأجنبية كانت محاطة برجال العسكر لحراستها.
أمس وصلت برقية من وزير الحربية في القسطنطينية بإعلان حالة الحرب في بيروت. لقد فرح السكّان بهذا الأمر الذي يُهدّئ القلوب ويعزّز الحراسة جدًّا، فلن يستطيع الزعران مواصلة أفعالهم الدنيئة في الشوارع. في جميع الأسواق يتواجد الآن أفراد الشرطة بالعشرات، ووحدات من الجندرمة والپوليس تجوب الشوارع إضافة إلى الشرطيين الثابتين في مواقعهم.
لقد بعث الوالي إلى الصحافة المحلية بيانًا رسميًّا بخصوص إعلان حالة الحرب في المدينة. وفقًا لهذا البيان يُحظر حمل السلاح دون إذن من الحكومة، يُحظر الخروج في الليل بعد الساعة الثامنة مساءً، يُحظر حمل بنادق الصيد بدون إذن خاصّ، كلّ من بحوزته سلاح عليه تسليمه للحكومة؛ كلّ من يخالف هذه الأوامر سيلقى أشدّ العقاب.
حتّى هذه اللحظة نحن متأكّدون بعض الشيء من أنّ السفن الطليانية لن تعود ثانية، إذ ساعة قصف الطليان ظهيرة يوم السبت للسفينة التركية، وصلت سفينة خديويّة، وأعلمتها السفينة الطليانية أنّها تاركة المدينة وأنّ بإمكان السفينة الخديويّة أن تدخل دون خطر إلى الشاطئ. بعض الأشخاص الذين كانوا ينظرون إلى البحر بالنواظير يقولون إنّهم شاهدوا سفنًا حربية أخرى كثيرة. لقد رافقت السفينتين الحربيّتين اللتين قصفتا المدينة سفينة أخرى حملت الطعام للجنود. غير أنّ هذه لم تقترب ووقفت بعيدًا من المدينة.
هذا، إذن، مافعله الطليان بمدينتنا. باستثناء الملّاحين الذين كانوا في السفينة وأشخاص آخرين قتلوا بينما كانوا على الشاطئ لم يُقتل سوى مائة وخمسين. من اليهود قتل اثنان فقط وهما اللذين ذكرتهما في رسالتي. وبالطبع على المقدسيّين ألْا يقلقوا على أقربائهم. الطلّاب اليهود الذين يدرسون هنا كانوا واثقين من أنّ مدير الجامعة الأميركية سيتيح لهم المبيت في الجامعة.
***
(4)
أمس كان كلّ شيء هادئًا. غير أنّ حوانيت كثيرة كانت مغلقة، وتلك التي كانت مفتوحة أُغلقت في الساعة الرابعة بعد الظهر. لم تصدر الصحف يوم أمس لأنّ العمّال لم يحضروا للعمل لأنّ غالبيّتهم ذهبوا إلى جبل لبنان.  اليوم بعد الظهر صدر الصحيفة العربية المحلية ”لسان الحال“.
أمس حضر الوالي والقنصل الروسي إلى متجر ”أوروزدي بك“ وحقّقوا في مقتل اليهودي الأدون شتاينهارد الذي كان يحمل جنسية روسية.
يُقال إنّ القنصل الروسي أبرق إلى بطرسبورغ كي ترسل الحكومة الروسية سفنًا حربية بسبب مقتل المواطن الروسي وبسبب الإشاعة التي انتشرت في المدينة بأنّ الأتراك يريدون قتل نائب القنصل الروسي.
الآن، الساعة الثانية بعد الظهر، وصلت سفينة حربية فرنسية واسمها مارسيليير Marseilleuse.  
حتّى يوم أمس قاموا في الأسواق بإعلام الناس بألّا يخافوا من سماع إطلاق الرصاص لأنّ سفنًا حربيّة أجنبية من المتوقّع أن تصل إلى مدينتنا.
الوضع الآن هادئ، غير أنّ القلوب لا زالت مضطربة. غالبية أصحاب الحوانيت يغلقون حوانيتهم مبكّرًا والنساء والصبايا لا يخرجن من بيوتهن من الخوف.  الحراسة في المدينة ممتازة.
إذا حدث شيء جديد، سأسارع إلى إخبار قراء ”هحيروت“.

جريدة ”هحيروت“ 1.3.1912

***


حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني

كذا كان قبل قرن من الزمان - 


الكولونيل كيش في الوسط وشيوخ العرب

سلمان مصالحة ||

حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني


بين فينة وأخرى أحبّ العودة إلى الصحف والمجلات العربية القديمة، إذ إنّي كثيرًا ما أعثر فيها على روايات وأخبار تُضيء أمورًا مُظلّلة في هذا الأوان. إنّها بمثابة مصباح فَتّاشٍ من الماضي يكشف لنا ما لم يفلح بصرنا في الوقوف عليه في هذه الأيام.

تطبيع العرب في إسرائيل



لقد آن الأوان لأن يقف العرب في البلاد على رجليهم الاثنتين في بلدهم هنا، لا أن يضعوا رجلًا هنا ورجلًا هناك، كمن هو عالق في أرض حرام بلا أفق.

لبنان، الفرصة الأخيرة

 
إنّ الكارثة الأخيرة التي ضربت لبنان هي فرصة ذهبية تسنح الآن أمام الجيل اللبناني الجديد، لإعادة الأمل ليس فقط إلى سكّان هذه الدولة، وإنّما للفضاء العربي بأسره.

كالمستجير من الجائحة بالنائحة


 علينا الاعتراف أمام أنفسنا أنّ كلّ هذه العصبيّات التي ترضع من الدين، والطائفة والقبيلة، هي الدود الذي أفسد على العرب لذّة الوجود.

ملاحظات حول صفقة القرن الدنسة


أليست خطّة ترامپ تسير على خطى اتّفاقات أوسلو وما أعقبها من تفاهمات بين الزعامات الفلسطينية الغَبِيّة والزعامات الإسرائيلية الأَبِيّة؟

طبخة القرن الشائطة


ها هي فرصة قد سنحت الآن لتحقيق هذا التهديد. إنّها الورقة الأخيرة التي ستتبقّى في أيدي قيادة فلسطينية حقّة وجديرة

إخراج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور

هل المرأة العربية عورة؟



سلمان مصالحة ||

إخراج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور


لفهم عمق وضع التخلُّف العربي لا حاجة إلى الذهاب بعيدًا إلى أنحاء العالم العربي؛ يكفي أن ننظر هنا في الداخل إلى حارتنا نحن، إذ إنّها ميكروكوسموس، أي هي عالم مصغّر عن ذلك العالم العربي المترامي الأطراف. إنّ أحد العوامل الأساسية للتخلّف المزمن في العالم العربي هو ذلك التهميش المزمن للمرأة  وعزلهاعن فضاء اتّخاذ القرارات، التي تُحدّد مصير المجتمع بكلّ مجالات الحياة. إنّه تهميش صارخ وواضح للعيان.

القيادات العربية كانت دائمًا محصورة بالرجال. إذ لم نشاهد على مرّ العصور أبدًا ملكة عربية، رئيسة دولة عربية، أو رئيسة عربية لحكومة ما، ولا حتّى رئيسة بلدية. إنّ المجتمع المعافى يقف ويخطو قُدمًا برجليه الاثنتين، الرِّجل الأنثوية والرِّجل الذكورية. إنّ الرِّجل الأنثوية للمجتمعات العربية هي رجل مشلولة منذ قديم الزمان، ولذلك فما من عجب في أنّ المجتمعات العربية هو مجتمعات عرجاء، ودائمًا ستكون في عوز إلى عكاكيز خارجية.

هاكم مثالًا على الفشل الاجتماعي العربي. في الأسبوع الماضي نظّم رؤساء عشائر وحمائل في جبل الخليل مهرجانًا طارئًا، وذلك احتجاجًا على مصادقة السلطة الفسطينية على الميثاق العالمي “سيداو” (CEDAW) الذي يدعو إلى القضاء على كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة. لقد دعا المؤتمرون، وكلّهم من الرجال طبعًا، السلطة الفلسطينية إلى التراجع عن مصادقتها على الميثاق. ولقد دعوا في البيان الذي نشروه عقب المهرجان إلى حظر نشاطات كلّ المنظمات النسائية - “المشبوهة” على حدّ تعبيرهم - وإلى منع دخول هذه المنظمات والجمعيات إلى المدارس وإلى حظر إيجار المكاتب لهذه المنظمات. بالإضافة إلى ذلك فقد حذّر هؤلاء في البيان قضاة المحاكم من استصدار أحكام على ضوء هذا الميثاق. لقد استثار الميثاق غضب هؤلاء لتحديد سنّ الزواج بالثامنة عشرة، وذلك بدعوى أنّ هذا يتناقض مع الأعراف والقوانين الإسلامية.

إنّ هذه الأعراف والقوانين الإسلامية قد ضربت في الآونة الأخيرة الأولاد في غزّة. مواطنو غزّة الذين يرزحون من جهة تحت طائلة الحصار الإسرائيلي-المصري، ومن سلطة الإسلامويين من الجهة الأخرى، قد شهدوا حظرًا على تنظيم عرض احتفالي موسيقي لطلبة معهد إدوارد سعيد الموسيقي. لقد جاء الحظر إثر فتوى نشرها أحد مشايخ الإسلامويين ضدّ العرض وذلك لكون العرض الموسيقي مختلطًا يظهر فيه الأولاد والبنات معًا على المنصّة.

لقد وصلت هذه الروح السيّئة في المجتمع الفلسطيني إلى الجامعات، وليس في غزة الواقعة تحت سلطة الإسلامويين فقط، وإنّما في نابلس وفي جامعة النجاح الواقعة تحت السلطة الفلسطينية. فداخل الحرم الجامعي تمّ وقف عرض مسرحي يتطرّق إلى وضع النساء في العالم العربي - على يد بروفسور وعميد كلية الفنون. لقد اعتلى العميد المنصة قائلا إنّ العرض لا يتمشّى مع ثقافة وقيم المجتمع. إنّ الذي أثار غضبه هو أنّ الممثلة عشتار معلم، خلعت خلال العرض بعد الثياب.

هكذا يحدث في غزة، في الخليل وفي نابلس، وهكذا يحدث أيضًا في البلدات العربية داخل إسرائيل. الإسلامويون من مواطني إسرائيل يستشيطون غضبًا بين فينة وأخرى ويحتجّون، بل ويوقفون عروضًا فنية مختلطة ويندّدون بمنظمات نسائية تناضل لأجل حقوق المرأة، ويصفون النساء ومنظّماتهنّ بأقذع الأوصاف ويتّهمون القائمات والقائمين على تلك الفعاليات بالتعاون مع منظمات أجنبية بغية تكريس أجندات غريبة في المجتمعات العربية.

إذا كانت المجتمعات العربية هنا وفي كلّ العالم العربي ترغب حقًّا بالخروج من التخلّف الذي وجدت نفسها فيه طوال قرون طويلة، فيتوجّب على المثقّفين العرب أن يرفعوا بشجاعة شعار ومشعل المساواة الجندرية. إن لم يفعلوا ذلك فإنّهم يخونون الرسالة التي يفترض أنّهم يحملونها. على جميع هؤلاء أن يعلنوها صراحة وعلى مسمع من الإسلامويين والذكوريين العرب على أصنافهم، بأنّ مبدأ المساواة الجندرية ليس أجندة غريبة أو أجنبيّة. بل على العكس من ذلك، إنّ المساواة الجندرية هي المبدأ الوحيد الذي بوسعه أن يخرج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور.

*

نشر أيضًا: شفاف الشرق الأوسط


For English, press here
For Hebrew, press here

القصر السرّي في كفر جوز

أرشيف: بيروت،  ديسمبر 1938 -  

 

نزاعات الفلسطينيين الهاربين من فلسطين في الثلاثينات تحتدم في بيروت.

جادة الفرنسيين، بيروت - ثلاثينات القرن العشرين
خدمة للقارئ العربي نواصل تقديم هذه الشهادات الصحافية العبرية التي تكشف الكثير من أجواء الأحداث التي عصفت بالبلاد في سنوات الثلاثينات من القرن المنصرم.

نداء الحزب الشيوعي في إسرائيل - أكتوبر 1948

أرشيف - 1948

نقدّم للقارئ العربي عامّة، والفلسطيني خاصّة، هذه الوثيقة وهي النداء الذي وجّهه الشيوعيون العرب واليهود للجماهير العربية واليهودية بعد إعلان الوحدة بينهم. ويظهر في النداء افتخار الشيوعيين العرب واليهود بانخراطهم الفعلي في حرب استقلال إسرائيل ضدّ العدو المتمثّل بجامعة الدول العربية.
*

الأسرلة هي الحل

يتّضح بعد كلّ هذه العقود من رفع شعارات الـ«عربنة» أنّ هذه العربنة قد كشفت عن جوهرها الحقيقي المتمثّل بكلّ هذه الـ«عربدة» القبليّة الحمائلية والطائفية التي تشهدها البلدات العربية في إسرائيل.

يسار أو يمين لا فرق

ترجمة عربية لمقالة "هآرتس" -

يبدو أن الكنيست، وعلى الورق فقط، تضم 120 عضوًا.  فعليًا دائمًا يغيّبون من المعادلة الـ 13 عضو كنيست من القائمة المشتركة.

من يغئال عمير وحتى احتجاج الدروز

ترجمة عربية لمقالة "هآرتس":

قانون القومية بصيغته الحالية هو استمرار مباشر لنفس التحريض. هو استهدف أن يسبق علاج الابرتهايد من مدرسة اليمين المتعصب..

حرب إعلامية بين إسرائيل وحزب الله

"نشر الإعلام الحربي التابع لحزب الله صوراً من داخل المستوطنات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان..." (موقع "المدن")

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!