لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟

سلمان مصالحة



لماذا حُوّلت القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة؟


كما أسلفت في
المقالة السابقة "من هو النبيّ الأمّي؟"، فقد بذل محمّد وأصحابه جهودًا كبيرة في استعطاف واستجداء أهل الكتاب الذين يقطنون جزيرة العرب بعامّة، واليهود منهم بصورة خاصّة، لكي يعترفوا به بوصفه "النبيّ الأمّي" - أي المسيح المنتظر - الذي تتحدّث عنه كتبهم المقدّسة، كالتوراة والإنجيل. لقد حاول في البداية استمالة قلوب أهل الكتاب بصورة سلميّة، غير أنّ هؤلاء لم يرغبوا في ترك معتقداتهم وكتبهم والإنضمام إلى الرسالة الجديدة التي تدّعي أنها جاءت تكملة لتلك الرسالات القديمة، رسالات أنبياء بني إسرائيل في التوراة ورسالة عيسى في الإنجيل. فما عدا قلّة من بين أهل الكتاب الذين قبلوا برسالة محمّد وبايعوا رسالته، فقد باءت محاولات محمّد وأصحابه بالفشل لدى الغالبيّة العظمى. ولم تشفع له حقيقة كونه يتّجه بالصّلاة نحو الصخرة وبيت المقدس التي هي "قبلة اليهود"، كما يقول هو نفسه عنها، مثلما أشرت في مقالة سابقة أيضًا.
فها هم رؤساء مكّة يذهبون لاستشارة اليهود
في أمر دعوى محمّد أنّه النبيّ الأمّي ودعوى كونه مُبَشّرًا به في كتبهم، بينما اليهود ينكرون أمام رؤساء مكّة هذه الدّعاوى جملة وتفصيلاً، كما يروي ابن عبّاس: "أنّ رؤساء مكة أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا محمّد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنّهم لا يعرفونك." (تفسير البغوي: ج 2، 312)، أو برواية أخرى: "فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 443، وانظر أيضًا: أسباب النزول للواحدي: ج 1، 66؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 257).
وها هم اليهود يقولون ذلك صراحة لمحمّد ذاته: "ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم: إني والله أعلمُ إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك." (تفسير الطبري: ج 9، 409؛ تفسير ابن كثير: ج 2، 476؛ تفسير البغوي: ج 2، 312؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 750). غير أنّ محمّدًا لا يكتفي بذلك، بل يذهب بنفسه في أحد أيّام الأعياد اليهوديّة إلى كنيس اليهود باحثًا عن دعم وإقرار بدعواه دون جدوى: "عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلعم وأنا معه، حتّى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلعم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً يشهدون إنه لا إله إلا هو، وأنّ محمّدًا رسول الله، يحبطُ اللهُ عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه. قال، فأسكتوا فما أجابَه منهم أحدٌ، ثم ثلث فلم يجبه أحد، فانصرف وأنا معه." (تفسير الطبري: ج 22، 107؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، 9)، وفي رواية أخرى، قبل أن ينصرف عنهم قال: "أبَيْتُم، فوالله لأنا الحاشرُ وأنا العاقبُ وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم! ثم انصرف و أنا معه..." (المعجم الكبير للطبراني: ج 12، 409؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، 469؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 23، 424؛ صحيح السيرة للألباني: ج 1، 80-81).
وهكذا، وعلى ما يبدو،
فقد كان محمّد يحاول البحث عن أيّ بصيص أمل لاعتراف يهودي به، أو عن أيّ شكل من أشكال التّصديق لرسالته الجديدة. ولقد بلغ به الأمر أنّه كان يتوجّه لأيّ شخص يمرّ به ويسأله طالبًا منه هذا الاعتراف التوراتي بنبوّته، ومثال على ذلك ما تذكره الرّواية التّالية: "عن الفلتان بن عاصم قال: كنت جالسًا عند النبي صلعم، إذ شَخَصَ بَصرُه إلى رجل، فإذا هو يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي صلعم يكلّمه وهو يقول: يا رسول الله، فقال النبي صلعم: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا. قال رسول الله صلعم: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم. قال: أتقرأ الإنجيل؟ قال: نعم. قال: والقرآن ولو تشاء قرأته. فقال رسول الله صلعم: فيما تقرأ التوراة والإنجيل، أتجدني نبيا؟ قال: إنّا نجدُ نعتَك ومخرجَك، فلمّا خرجتَ رجَوْنا أنْ تكونَ فينا، فلمّا رأيناكَ، عرفنا أنّكَ لَسْتَ به." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، 323؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، 415).
ليس هذا فحسب، بل إنّ محمّدًا وأصحابه يستنجدون ببعض اليهود، الذين كانوا قد بايعوه من قبل، بغية إقناع بني قومهم الآخرين، وذلك من خلال تقديم الوعود لليهود ببناء الهيكل اليهودي في بيت المقدس، كما نستنتج من الراوية التالية: "عن محمد بن كعب القرظي قال: أوحى الله إلى يعقوب أنّي أبعث من ذرّيتك مُلوكًا وأنبياء حتّى أبعثَ النبي الحرمي الذي تبني أمّته هيكلَ بيت المقدس وهو خاتم الأنبياء واسمه أحمد. (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 163؛ سبل الهدى والرشاد للصاالحي الشامي: ج 1، 99).
والحقيقة أنّ اليهود ما كانوا ليؤمنوا بمحمّد
بوصفه النبيّ الأمّي - أي المسيح - الذي ينتظرون قدومه في آخر الزّمان، إذ أنّ هذا المسيح المنتظر، وبحسب ما تذكره التّوراة وكما أشرنا من قبل، يجب أن يكون يهوديًّا ومن نسل داود، فما بالُكُم الآن بمحمّد العربيّ النّسب. بل وأكثر من ذلك، فربّما حريّ بنا أن نذكر إنّه حتّى قبل قرون ستّة من ظهور محمّد على السّاحة في جزيرة العرب، كان قد ظهر شخص آخر، وهو شخص ينتسب إلى اليهود على وجه التّحديد، ومن نسل داود أبًا عن جد واسمه يسوع، حيث ادّعى هذا النبوّة أيضًا وأنّه المسيح الذي بشّرت به التّوراة، غير أنّ اليهود لم يؤمنوا به كما هو معلوم.
فإذا كانت هذه هي الحال مع يسوع، اليهودي المولد والنّسب، فما بالكم الآن بشخص عربيّ ليس يهوديًّا وليس من نسل داود، يجيء الآن ويقول أمورًا مشابهة، فهل سيؤمن به اليهود خلافًا لمعتقداتهم؟ ولهذا السّبب قال اليهود فيما يتعلّق بنبوّة محمّد: "إنّما كانت الرُّسُل من بني إسرائيل، فما بالُ هذا من بني إسماعيل؟" (تفسير الطبري: ج 2، 342؛ أسباب النزول للواحدي: ج 1، 8؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 284)، أي أنّ الرّسول الّذي ينتظره اليهود ليس من العرب بأيّ حال. وهذا التصوُّر هو ما تؤكّده رواية ابن عبّاس على لسان أحد بني النّضير: "فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفُه، وما هو بالّذي كُنّا نَذْكُر لكم." (السيرة لابن هشام: ج 1، 547؛ تفسير الطبري: ج 2، 333؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 326؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 3، 490؛ أسباب النزول للسيوطي: ج 1، 11)، إذ أنّ الّذي كان يذكره اليهود للعرب في السّابق، على ما يبدو، إنّما هو المسيح اليهودي الّذي من نسل داود.
وهكذا، لم يقتنع اليهود بالرسالة
الجديدة، حتّى بعد أن قال لهم محمّد إنّه يؤمن بما أُنزل عليهم وعلى آبائهم: "أؤمن باللّه وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى... فلمّا ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به"، (تفسير الطّبري: ج 4 ص 631؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 5، 121؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 382؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 108؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 335)، بل وأكثر من ذلك، فقد أضافوا قائلين: "والله ما نعلمُ أهلَ دين أقلّ حظًّا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًّا من دينكم." (تفسير الرّازي: ج 6، 97؛ تفسير النيسابوري: ج 3، 183؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 386).
ولهذا السّبب بالذّات أيضًا، فقد وبّخ اليهودُ عبدَ الله بن سلام اليهودي بعد أن أسلم: "وقال حيي بن أخطب وكعب بن أسد وأبو رافع وأشيع وشمويل بن زيد، لعبد الله بن سلام حين أسلم: ما تكونُ النبوّةُ في العرب، ولكنّ صاحبَكَ مَلِكٌ..." (سيرة ابن هشام: ج 1، 568؛ الروض الأنف: ج 2، 430؛ التاريخ الكبير للبخاري: ج 1، 193، 225؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 288).
تحويل القبلة:
وهكذا، وبعد أنْ لم ينفع محمّدًا أنّه يتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، "قبلة اليهود"، بهدف استمالة قلوبهم لرسالته، كما أسلفت من قبل، وبعد أن رفض اليهود دعوته لأنّها لا تتمشّى مع ما يؤمنون هم به، إذ أنّ التوجّه فقط بالصّلاة إلى قبلة اليهود لا يكفي: "قالت اليهود: يُخالفنا محمّد ويتبع قبلتنا ... والله ما دَرَى محمّد وأصحابُه أينَ قِبْلتُهم حتّى هَدَيْناهم. فكرهَ ذلك النبي صلعم ورفع وجهه إلى السماء..."، كما رُوي عن مجاهد (تفسير الطبري: ج 2، 22). وبعد أن يئس من إمكانية قبول اليهود وعامّة أهل الكتاب دعوته إلى قبوله بوصفه "المسيح المنتظر" الجديد، فقد بدأ يفكّر في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكّة، كما تكشفه لنا الرواية التّالية: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجّه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدْعَى لهم، فلما تبينَ عنادُهم وأَيِسَ منهم، أحبّ أن يُحَوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). ولذلك أيضًا فقد رُوي عنه في الحديث النبوي أنّه بدأ يرغب في صرف القبلة عن "قبلة اليهود"، فقال: "وددتُ أنّ ربّي صَرَفَني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: ج 1، 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126).
على ما يبدو فقد رغب محمّد في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بسبب ردود فعل اليهود، كما يظهر في الرواية الإسلامية: "كرهَ قبلةَ بيت المقدس من أجل أنّ اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فى ديننا! ... والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلعم." (تفسير الطبري: ج 2 ص 22؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18)، أو برواية الرازي يصف هذه الحال التي وجد الرسول نفسه فيها بالمحنة، بسبب ما يقوله اليهود: "إنه يخالفنا ثم إنّه يتبع قبلتنا، ولولا نحن لم يدر أين يستقبل، فعند ذلك كرهَ أن يتوجّه إلى قبلتهم." (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا بدأ الرسول يجد نفسه في حيرة من أمره: "وكان رسول الله صلعم يقعُ في رَوْعِه ويتوقعُ من ربّه أن يُحوّله إلى الكعبة." (تفسير البيضاوي: ج 1 ص 42؛ تفسير أبي السعود: ج 1 ص 174)، فأخذ يبحث عن قبلة أخرى مختلفة عن قبلة اليهود: "واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة علي بيت المقدس على قولين: أحدهما أنها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني لمخالفة اليهود." (زاد المسير لابن الجوزي: ج 1، 156؛تفسير البيضاوي: ج 1، 42؛ كشف المشكل لابن الجوزي: ج 1، 462)، أو لأنّها "أقدم القبلتين وأدْعَى للعرب إلى الإيمان." (تفسير البيضاوي: ج 1، 42)، أو لأنّها "مفخرتهم ومزارهم ومطافهم" (تفسير النيسابوري: ج 1، 358؛ تفسير أبي السعود: ج 1، 174).
ومثلما كان الهدف من استقبال بيت المقدس في البداية هو استمالة اليهود في الأساس، فها هو يحوّلها الآن إلى الكعبة لأغراض الاستمالة أيضًا. لقد رغب محمّد في تحويل القبلة إلى الكعبة، كما يصرّح الرّازي، لأنّه "كان يُقدّر أن يصيرَ ذلك سببًا لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام." (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا، وبعد مضيّ ما يقارب سنة ونصف على هجرة الرسول إلى المدينة، تمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما يجمع المفسّرون فإنّ هذا التّحويل يُعتبر أوّل نسخ في القرآن: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 205؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370)، أو أنّ هذا التّحويل، كما يذكر ابن كثير، هو "أوّل نَسْخٍ وقعَ في الإسلام"، على الإطلاق (سيرة ابن كثير: ج 2، 372).
بلبلة المصلّين في تحويل القبلة:
لقد أثار صرف القبلة عن بيت المقدس وتحويلها إلى الكعبة بلبلة في صفوف المصلّين، كما تشير الروايات: "عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلعم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام}، فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلّوا ركعة، فنادى ألا إنّ القبلة قد حُوّلتْ، فمالوا كما هم نحو القبلة" (صحيح مسلم: رقم 527؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 3، 284؛ تفسير الطبري: ج 3، 135؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 2، 476؛ مستخرج أبي عوانة الإسفراييني: ج 2، 159). أو كما أخبرت نويلة بنت مسلم عن لحظة التّحوُّل إلى الكعبة، قالت: "صلّينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاسْتَقْبَلْنا مسجدَ إيلياء فصلّينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلعم قد استقبلَ البيت الحرام، فتحوّل النّساءُ مكانَ الرّجال، والرّجالُ مكانَ النّساء. فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيتَ الحرام" (تفسير ابن كثير: ج 1، 263؛ وانظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 65؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 1، 126؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 18، 220؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 54).
ليس هذا فحسب، بل كان هنالك بين المسلمين من أثار تساؤلات وجيهة بشأن أولئك الذين صلّوا من قبل نحو بيت المقدس وقد قضوا نحبهم قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فماذا يكون بشأن هؤلاء: "وقال المسلمون: ليتَ شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يُصلّون قبلَ بيت المقدس! هل تَقبّلَ اللهُ منّا ومنهم، أو لا؟ " (تفسير الطبري: ج 3، 157).
وعندما صُرفت القبلة من بيت المقدس
إلى الكعبة، كان اليهود يقولون له: "يا محمّد، ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثَبتَّ على قبلتنا لكُنّا نرجو أن تكونَ صاحبَنا الذي ننتظره؟" (تفسير البغوي: ج 1، 163؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 422؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 261؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 364؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 101)، أو أنّهم عيّروا المسلمين بالقول: "ليستْ لهم قبلة معلومة، فتارة يستقبلون هكذا، وتارة هكذا." (تفسير البغوي: 1، 139؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 194).
حتّى إنّ مجموعة من رجالهم جاءت إلى محمّد تطلب منه أن يرجع إلى قبلة بيت المقدس وتعده بأنهم سيتبعونه إنْ فعل ذلك: "قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة... أتى رسولَ الله صلعم رفاعةُ بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمّد ما ولاّكَ عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك..." (سيرة ابن هشام: ج 1، 549؛ تفسير الطبري: ج 3، 132؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، 477؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 344).
لقد استاء بعض اليهود جدًّا من تحويل القبلة إلى الكعبة بدل بيت المقدس والتوجّه بالصّلاة نحو قبلة أخرى غير قبلتهم: "لما صُرفت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم." (تفسير النيسابوري: ج 2، 285؛ أسباب نزول القرآن للواحدي: ج 1، 73)، إذ أنّ محمّدًا قد أوشكَ أن يدخلَ في دين اليهود، كما قال المشركون من أهل مكّة لليهود بعد تحويل القبلة: "تُحُيّرَ على محمّد دينُه، فتوجّهَ بقبلته إليكم، وعلمَ أنّكم كُنتم أهْدَى منه، ويوشكُ أنْ يدخلَ في دينكم!" (تفسير الطبري: ج 3، 158؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 402؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 359).
لهذا السّبب، وبعد تحويل القبلة
من بيت المقدس فقد أقدم بعض اليهود، الذين كانوا أسلموا من قبل، على ترك الإسلام وعادوا إلى اليهوديّة، كما تُخبرنا الرواية التالية: "إن القبلة لمّا حُوّلت ارتدّ قومٌ من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمّد إلى دين آبائه" (تفسير البغوي: ج 1، 160؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 221).
خلاصة القول، قد يكون رفضُ أهل الكتاب بصورة عامّة واليهود على وجه التّحديد قبول رسالة محمّد بوصفه المسيح التوراتي المنتظر في ظهوره الجديد، وبالمصطلح الإسلامي بوصفه "النبيّ الأمّي"، هو نقطة التحوّل في التاريخ الإسلامي من مرحلة التقرُّب والتّألُّف لليهود بواسطة التوجّه بالصلاة نحو قبلتهم، إلى مرحلة العداء الشامل، وذلك على غرار ما حصل قبل ستّة قرون بين النصرانية واليهوديّة من عدم اعتراف اليهود برسالة يسوع. وقد أفضى هذا العداء، في نهاية المطاف، إلى قتل وتهجير أهل الكتاب بعامّة واليهود بخاصّة من جزيرة العرب. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق.

***

في المقالة القادمة سنتطرق إلى ما آل إليه مصير اليهود في جزيرة العرب.

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***
_______________________________________
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟ "
 
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب" 
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير" 
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1" 
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
 المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟" 
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
__________________________________

من هو "النّبيّ الأمّي"؟


فإذا كانت هذه هي الحال بشأن هذا النّبي الموعود، بحسب ما تذكره الرّواية الإسلاميّة، فمن هو هذا "النّبيّ الأمّي" الّذي بشّرت به أسفار التّوراة وبشّر به الإنجيل؟

لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟



سلمان مصالحة ||


لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟

بعد أن أسلفنا فيما مضى،
في مقالة "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"، من كون القدس - بيت المقدس - على التعميم، أو الصخرة بالتحديد، هي "قبلة اليهود" كما نستخلص من الروايات الإسلامية بشأن القبلة، سننظر فيما يلي في مسألة لا تقلّ عواصةً، ألا وهي: لماذا يتوجّه الرسول والمسلمون الأوائل إلى قبلة اليهود بالذّات بدل التوجّه إلى الكعبة، وهي محجّة العرب الجاهليّة منذ القدم ومن ثمّ المحجّة الإسلاميّة لاحقًا؟

وللإجابة على هذه الأسئلة لا مناص من النّظر في بعض الخلفيّات الّتي على ضوئها يمكننا أن نتحسّس طريقنا للوصول إلى صورة واضحة تجلو ما التبس من أمور في هذه القضيّة.
وبشأن هذه الخلفيّة، نبدأ فنقول: إنّ من أهمّ القضايا المتعلّقة بنبوّة محمّد يمكن الإشارة إلى مسألة الصفة التي أُضفيت عليه في القرآن في سورة الأعراف من المرحلة المكّيّة، حيث نعثر في هذه السّورة على التّعبير الضّبابيّ "النبيّ الأميّ" (الأعراف: 157-158)، وما يثيره هذا التّعبير من تساؤلات. إنّ هذه الصفة، كغيرها من الأمور المبهمة التي عادة ما تشتمل عليها النّصوص المقدّسة، ولا يشذّ القرآن عن هذه القاعدة، قد فتحت أيضًا الأبواب الواسعة لتفسيرات واجتهادات مختلفة.

فما هو المراد بـ"الأمّي" في هذه الآية؟
لقد ذهب أهل التّفسير إلى أنّ تعبير "الأمّي" في هذه السّورة هو إشارة إلى أمّة محمّد مستندين إلى ما تقدّم من سياق ذُكر في الآية التي سبقتها من قوله تعالى: "ورحمتي وسعتْ كلّ شيء"،(الأعراف: 156). وعلى ما يبدو فقد أثارت هذه الآية جدلاً كبيرًا بوسعنا أن نسمع أصداءه فيما يرويه لنا المفسّرون. إذ، مع نزول هذه الآية، تنطّح إبليس مستندًا إلى منطق الكلام الّذي يُفهم من نصّ الآية، بمعنى: إذا كان الأمر كذلك بشأن الرّحمة الّتي تسع كلّ شيء، فلكونه لا يخرج هو لآخر عن كونه جزءًا من الشيء، فقد "قال إبليس: أنا من كُلّ شيء، فنزعها اللّه من أبليس"، وذلك بواسطة إضافة قول جديد إلى القول السّابق، والقول الآخر الجديد هو: "فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزّكاة". فلمّا أضاف تعالى ذلك، قال اليهود مستندين هم أيضًا إلى منطق الكلام في النصّ المنسوب إليه تعالى: "نحنُ نتّقي ونؤتي الزّكاة ونؤمن بآيات ربّنا"، فلذلك لم يجد تعالى بدًّا من إضافة جملة أخرى لكي ينزع هذه الرّحمة من اليهود أيضًا بقوله: "الّذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأمّي"، وهكذا تستمرّ الرّواية فتقول: "فنزعها الله من إبليس ومن اليهود وجعلها لهذه الأمّة، أو وجعلها لأمّة محمّد." (تفسير الطبري: ج 6، 78؛ أنظر أيضًا: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ تفسير الثعالبي: ج 2، 57؛ تفسير القرطبي:ج 7، 261؛ تفسير البغوي: ج 1، 287).

وأمّة محمّد هذه
الّتي يذكرها المفسّرون إنّما المراد بها أمّة العرب، كما يُفهم من إشارات المفسّرين إلى معنى تعبير "الأميّين" الّذي ورد في سورة الجمعة: "هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم" (سورة الجمعة: 2)، وكذا قال مجاهد وسفيان وقتادة وابن عباس وغيرهم من أهل التّفسير، (تفسير الطبري: ج 12، 88؛ تفسير القرطبي: ج 18، 81؛ تفسير البغوي: ج 1 ، 113؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 337؛ الوجيز للواحدي: ج 1، 1095).
أي أنّ محمّدًا، الرّسول المبعوث، ينتسب إلى هؤلاء "الأميّين" العرب على اختلاف قبائلهم وأفخاذهم. ولكي لا يُفهم الكلام تعميمًا على العرب بالإطلاق فقد تمّ استثناء النّصارى منهم، إذ: "ما من حيّ من العرب إلاّ ولرسول الله صلعم فيهم قرابة وقد ولدوه، قال ابن إسحاق: إلا حيّ تغلب فإن اللّه تعالى طَهّرَ نَبيَّه صلعم منهُ لنصرانيّتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة." (تفسير القرطبي:ج 18، 81؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 15، 270؛ المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: ج 2، 40).

غير أنّ البلبلة لدى المفسّرين
تظهر جليّة عندما ينتقلون للحديث عن صفة "الأمّي" الّتي وردت في الآية {الّذين يتبعون الرّسول النبيّ الأمّي}، فقد اختلف أهل التّفسير في المعنى المراد به من صفة الأُمّيّة الّتي أضيفت إلى الرّسول. فقد قال البعض إنّ الأميّ هنا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة، وقالوا إنّ الأمّي نسبة إلى أمّ القرى - مكّة -، وقالوا إنّ الأمّي هي نسبة إلى الأمّ. وقد أجمل هذه التّفسيرات البهاء العاملي فقال: "الأمّي من لا يكتب، منسوب إلى أمّة العرب، المشهورين بعدم الخطّ والكتابة، ووصف نبينا صلعم بالأمّي لذلك، أو لنسبته إلى أمّ القرى، لأن أهلها كانوا أشهر بذلك. ويجوز ان يكون الأمّي نسبة إلى الأم. أي، هو كما ولدته أمه، أي باقٍ على حاله، لم يتعلّم الكتابة. فهذه ثلاثة أوجه في قولنا: النبي الأمّي." (الكشكول للبهاء العاملي:ج 1، 340؛ العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 2، 35-36).

غير أنّ الغالبيّة تذهب إلى ترجيح دلالة عدم معرفة القراءة والكتابة، مستندين في ذلك إلى حديث نبويّ: "عن النبي صلعم قال: إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب..." (صحيح مسلم: ج 2، 759؛ تفسير الطبري: ج 2، 257؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 723؛ تفسير البغوي: ج 3، 288؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 4450؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 152). وها هو النّووي يضيف شرحًا للحديث مُجملاً أقوال العلماء حول معنى أمّة أميّة في الحديث السابق قائلاً: "قال العلماء: (أمّية) باقون على ما ولدتنا عليه الأمهات لا نكتب ولا نحسب، ومنه النبي الأمّي، وقيل: هو نسبة إلى الأم وصفتها؛ لأن هذه صفة النساء غالبًا." (شرح النووي على مسلم: ج 4، 50). من هنا فإنّ معنى النبيّ الأمّي، كما ورد في الآية يدلّ على "الأمّي الذي لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ بيمينه..." (سنن البيهقي الكبرى: ج 7، 42)، أو المنسوب إلى: "الأمّة الأمّية التي هي على أصل ولادتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها... وقال ابن عباس: كان نبيّكم صلعم أميًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب." (تفسير القرطبي: ج 7، 262؛ للاستزادة في هذه المسألة يمكن العودة إلى: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 574؛ تفسير القشيري: ج 2، 449؛ معاني القرآن للنحاس: ج 3، 89؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335).

إنّ ما يزيد المسألة تعقيدًا
هو ما يذكره ابن كثير في معرض حديثه تفسيرًا لـ "النبيّ الأمي" فيذكر: "وهذه صفة محمد صلعم في كتب الأنبياء بَشّروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم." (تفسير ابن كثير: ج 3، 483)، ولذلك وردت أيضًا الآية: فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمّي... أي: الذي وُعدتم به وبُشرتم به في الكتب المتقدمة. فإنّه منعوت بذلك في كتبهم..." (تفسير ابن كثير: ج 3، 491). وهذا ما يُروى عن قتادة بشأن الآية: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، قال: "تشهدون أن نعت نبي الله محمد صلعم في كتابكم ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمّي." (الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 240؛ تفسير الطبري: ج 6، 503؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 531؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 13، 226).

ومعنى هذا الكلام
أنّ مصطلح "النبيّ الأميّ"، وبحسب الرّوايات الإسلاميّة ذاتها، هو مصطلح مأخوذ أصلاً من أسفار أهل الكتاب، أي بني إسرائيل، ومن معتقداتهم. جدير بالذكر هنا أنّ مصطلح بني إسرائيل في هذا السياق هو مصطلح يجمع عادة اليهود والنصارى، إذ أنّ "بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل." (تفسير ابن كثير: ج 3، 497)، وهذا ما يُفهم من كلام ابن كثير عن عيسى: "فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين،" (تفسير ابن كثير: ج 8، 109). أي أنّ أهل الكتاب، بحسب الرؤيا الإسلاميّة، هم أمّة واحدة، هي أمّة بني إسرائيل التي اختلفت فيما بينها: "إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه" (تفسير البغوي: ج 1، 175).

من هنا نخلص إلى النّتيجة
الّتي مفادها أنّ النّبيّ الأمّي، في نهاية المطاف، هو ما بشّر به الأنبياء السّابقون في التوراة والإنجيل. لقد شاعت هذه الرؤيا في أوساط المسلمين الأوائل، كما تشير إليه الرواية التّالية: "وقال الثعلبي قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة ومن طريق مجاهد يوم بدر أنّ يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله المشركين يوم بدر هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته..." (العجاب في بيان الأسباب - إبن حجر العسقلاني: ج 2، 665-666)، أو الرواية التّالية: "وقال مقاتل: إن اليهود أقرّوا ببعض صفه محمد صلعم وكتموا بعضًا." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 122)، أو التّالية: "وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة." (تفسير القرطبي: ج 4، 297).

وكانت هذه الرؤيا من بين الحجج التي ساقها المسلمون في دعوتهم سائر الأمم المحيطة وخاصّة أهل الكتاب الذين كانوا يحيطون بالمسلمين إلى اعتناق الإسلام. وهكذا، عندما دخل دحية الكلبي موفدًا إلى قيصر يدعوه للإسلام، قال دحية لقيصر: "فإنّي أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له،... وأدعوك إلى هذا النبي الأمّي الذي بشّر به موسى وبشّر به عيسى ابن مريم بعدَه..." (الروض الأنف: ج 1، 424). وها هو شرحبيل بن حسنة يردّ على روماس بطريق الرّوم في بصرى، عندما خرج هذا الأخير إليه وسأله من أنتم، قال شرحبيل: "من أصحاب محمد صلعم النبي الأُمّي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل." (فتوح الشام للواقدي: ج 1، 17).

من هذا المنطلق نخلص إلى أنّ مصطلح "الأمّي" لا علاقة له بما اصطلح عليه العلماء المسلمون منذ القدم وحتّى الآن من كونه يدلّ على عدم معرفة القراءة والكتابة أو التّفسيرات الأخرى، وإنّما هو ذو أبعاد ومدلولات أخرى سنشرحها في المقالة القادمة.

والعقل وليّ التّوفيق!
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
 المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟



سلمان مصالحة

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟


أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة  
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟" وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.

 قبلة اليهود:
 فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ "صخرة بيت المقدس" هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم "قبلة اليهود"، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: "وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: 1ج، ص 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي "قبلة اليهود"، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي "قبلة أهل الكتاب..." تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: "وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود" (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: "بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصَلاّهم." (في ظلال القرآن: ج 1، 72).

فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح "بيت المقدس" الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ"الصخرة" التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي "قبلة اليهود"، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟


من المعلوم أنّ الكعبة 
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي هو ولم يهاجر بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: "وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها." (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).

ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: "إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض..." (تفسير الرّازي - مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان "لفائدة"، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
 

فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: "أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم..." (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).

ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس..."، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: "ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس..." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
 

إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك "ليُؤمنوا به ويتبعوه."، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم." (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى "قبلة اليهود" كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو "قبلة اليهود" بالذّات؟
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


سلمان مصالحة

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


في سلسلة المقالات التالية
سأعرض على القارئ الكريم ما أتوصّل إليه بشأن فلسطين كما تتبدّى في التّراث العربي والإسلامي. وقبل أن أبدأ أودّ أن أمهّد لذلك فأقول إنّي لن أتعرّض في هذه المقالات لكتابات استشراقيّة حول هذه المسائل حتّى لا أُتّهم بأنّني أشيع آراء غربيّة وغريبة وما إلى ذلك من مقولات واتّهامات جاهزة لدى بعض النّفر من العرب، من صنف أولئك الّذين لا يقرؤون ولا يفقهون ولا يعون ما يشتمل عليه هذا التّراث العربيّ والإسلاميّ. وهي، على كلّ حال، مقولات واتّهامات تُفسد على القارئ النّبيه إمكانية النّظر ببصيرة حادّة وجادّة في قضايا تهمّ القارئ العربيّ بعامّة والفلسطيني منه على وجه التّحديد. فكم بالحريّ إذا كان الحديث عن تراثنا، ونحن عرب ننتمي إلى هذه الأمّة. فنحنُ قيّمون على حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، نعرف قراءة تراثنا المكتوب بلغتنا العربيّة، والّتي نعرفها جيّدًا مثلما نعرف هذا التّراث، تراثنا نحن. كما نعرف التّعامل معه بلساننا، ولسنا بأيّ حال من الأحوال بحاجة إلى أناس غرباء آخرين لقراءته ومساءلته.

في البداية،
لا بدّ من التّنويه إلى ما يلي: لمّا كانت فلسطين والقدس لم يرد ذكرهما في القرآن بتاتًا، وإنّما ورد ذكر بيت المقدس فقط، ليس نصًّا صريحًا في القرآن، بل ورد ذكرها في كتب التّفسير والتّاريخ وغيرها في سياق الحديث عن التوجّه بالصّلاة، أي القبلة، وفقط في سياق قصّة إسراء ومعراج الرّسول. ولذلك وجدت أنّه من المناسب أن أبدأ هذه السلسلة بمقالة حول القبلة.

فهل حقًّا القدس هي أولى القبلتين؟
تشيع في الكتابات العربيّة والإسلاميّة في هذا العصر مقولة إنّ القدس هي "أولى القبلتين"، أي أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل، أي في المرحلة الأولى لظهور الإسلام، كانوا يستقبلون القدس، أي يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس. فهل كان ذلك حقًّا؟من أجل الإجابة على هذه التّساؤلات، دعونا ننظر فيما نقله لنا السّلف عن هذه القضيّة. فلقد ورد في صحيح مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه "كان يصلي نحو بيت المقدس..." (صحيح مسلم: ج 1، 375؛ سنن أبي داود: ج 1، 340؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، 325)، أو برواية الطبري: "كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله صلعم بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله صلعم، نحوَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا..." (تفسير الطبري: ج 1، 548؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18؛ أنظر أيضًا الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ سبل الهدى والرّشاد للصالحي الشامي: 370). أي أنّ بيت المقدس، وبحسب هذه الرّوايات، كانت هي القبلة الأولى للرّسول والمسلمين.

غير أنّنا لو واصلنا البحث
في هذه المسألة فسنرى أنّه لا يوجد إجماع حول هذه النّقطة، بل هناك رأيان بشأن القبلة الأولى. فهناك كثيرون يقولون إنّ القبلة الأولى هي الكعبة، ويذكرون أنّ رسول الله: "كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وها هو القرطبي يلخّص لنا هذا الخلاف: "واختلفوا أيضًا حين فُرضت عليه الصلاة أوّلاً بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أوّل ما افتُرضت الصلاة عليه إلى الكعبة. ولم يزل يُصلّي إليها طول مقامه بمكة... فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس... ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). وبكلمات أخرى، هنالك من يذهب إلى ترجيح هذا الرأي والقول إنّ الكعبة هي القبلة الأولى، وليس بيت المقدس. وكذا نستنتج أيضًا من رواية ابن عبّاس الّذي يذكر أنّ بداية الأمر كانت إلى البيت العتيق، ثمّ تحوّل إلى بيت المقدس وعاد بعدئذ إلى البيت العتيق: "استقبل رسول الله صلعم فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخَها..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أي أنّ البيت العتيق كان هو السّابق، وقد تركه الرّسول، ثمّ عاد إليه. بل هنالك من يصف الكعبة وبكلام صريح على أنّها هي بالذّات "أقدمُ القبلتين." (تفسير البيضاوي: ج 1، 420؛ تفسير ابن عجيبة: ج 1، 115).إذن، يتّضح ممّا أوردنا من آراء السّلف أنّه لا يوجد إجماع بشأن أوّلية القبلة لبيت المقدس، رغم شيوع هذه المقولة على الألسن وفي الكتابات في هذا الأوان.

وإذا لم يكن ثمّ إجماع بشأن القبلة الأولى،
فليس ثمّ إجماع أيضًا على السؤال، إنْ كان التّوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس قد جاء بأمر من الله أم بتخيير من لدنه. فهنالك من يقول بالتّخيير، كما يذكر الطبري: "قال الربيع قال أبو العالية: إن نبي الله صلعم خُيّر أن يوجّه وجهه حيث شاء فاختار بيت المقدس..." (تفسير الطبري: ج 2، 3). لكن، وفي الوقت ذاته، ثمّ روايات أخرى تقول بأنّ الاتّجاه نحو بيت المقدس كان بأمر إلهي، كما يظهر من الرواية التالية: "أنّ رسول الله صلعم لما هاجر إلى المدينة... أَمَرَه اللهُ أن يستقبلَ بيت المقدس..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 458 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ لباب النّقول في أسباب النّزول للسيوطي: ج 1، 16). وقد أثارت هذه المسألة نقاشات واسعة لأنّ لها علاقة بأمور عقائديّة، ليس هنا المجال للدّخول فيها.

ليس هذا فحسب،
بل لو أمعنا النّظر مليًّا في الرّوايات الإسلاميّة سنرى أنّ الاتّجاه بالصلاة ليس هو نحو جهة بيت المقدس بصورة عامّة، وإنّما هو، في حقيقة الأمر، نحو نقطة بعينها، وهي نقطة محدّدة بدقّة في بيت المقدس. وهذه النّقطة المحدّدة هي الصخرة، كما نقرأ لدى الطّبري: "أن النبي صلعم كان يستقبل صخرة بيت المقدس... " (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ انظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 259). ومثلما نقرأ أيضًا: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمرَ بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). بكلمات أخرى، فإنّ الاتّجاه بالصّلاة هو نحو نقطة بعينها في بيت المقدس، وهي الصّخرة.

مهما يكن من أمر،
فلا شكّ أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الإسلامي على أنّ القبلة قد تحوّلت إلى الكعبة بعد ستّة عشر أو سبعة عشر شهرًا من هجرة الرّسول إلى المدينة. وكان هذا التّحويل، على ما تذكر الرّوايات الإسلاميّة، هو بداية إبطال مفعول أوامر سابقة نصّ عليها الإسلام في بداية عهده، أو هو: "أوّل نسخ وقع في الإسلام" (سيرة ابن كثير: ج 2، 372؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أو أنّ: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).ممّا ذكرنا أعلاه، واستنادًا إلى الروايات التي حفظها لنا التّراث العربي والإسلامي، نرى كلّ هذا التّخبّط الواضح في مسألة جوهريّة، خاصّة وأنّها تتعلّق بمسألة أساسيّة، مسألة الصّلاة ووجهتها. وما من شكّ في أنّ هذا التّخبّط يدلّ على تناقُض واختلاف في الرّوايات، وهو أمر يشير في نهاية المطاف إلى تَطوّر في مجريات الأحداث والعبادات في المرحلة الإسلاميّة الأولى. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التّوفيق!*
في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا بيت المقدس ولماذا الصّخرة بالذّات؟ فانتظرون!

***
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"

_________________________________________
مقالات هذه السلسلة: 

المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***
***

صُوَر




سلمان مصالحة


صُوَر


الشَّارِعُ الـمَرْصُوفُ بِالأَوْهَامِ
كَالـْحُلُمِ الـمُبَاحْ،
النَّائمُونَ عَلَى فِرَاشِ هَوَانِهِمْ،
وَالسَّاهِرُونَ عَلَى رَصِيفٍ
مُسْتَبَاحْ. النَّادِبُونَ
لِـحَظِّهِمْ، وَالبَاحِثُونَ عَنِ
الفَلاحْ. الـْكَاتِمـُونَ
صَلاتَهُمْ بِصُدُورِهِمْ،
وَالعَابِرُونَ مَعَ الرِّيَاحْ.
الزَّوْرَقُ الـمَـنْسِيُّ عِنْدَ النَّهْرِ
فِـي وَضَحِ الصَّبَاحْ -
صُوَرٌ مِنَ الـمَنْفَى، رَمَاهَا
اللَّيْلُ فِـي دَرْبِـي وَرَاحْ.

يَا أَيـُّهَا اللَّيْلُ الَّذِي
نَسِيَ النَّدَى فِـي خَافِقِي،
خُذْنِـي إلَى بَلَدٍ
تَوَشَّحَ بِالرَّدَى.
جَسَدِي
نُواحْ.

*


من مجموعة: لغة أم، منشورات زمان، القدس 2006


***

لترجمة إنكليزية، اضغط هنا.

لترجمة فرنسية،
اضغط هنا.




حرباوات عرب 48

سلمان مصالحة

حرباوات عرب 48

الشّيوعيّون العرب، وعلى وجه الخصوص
من صنف هؤلاء وأتباعهم المنضوين تحت راية ما يسمّى الجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة، والّذين أقسمت قيادتهم ونوّابهم يمين الولاء لدولة إسرائيل، هم من أسوأ المدمنين الشّيوعيّين على رفع الشّعارات الكاذبة. إنّ هؤلاء، ولإدمانهم على تدخين الشّعارات الّتي نفخها فيهم سدنة الكرملين من الضّالّين غير المغفور لهم، أضحوا في حال يرثى لها. إذ أنّهم لم يجدوا، بعد أن تهاوت صروح أولئك الّذين زوّدهم بوجبات الشّعارات التّخديريّة، من سبيل لإشباع أنفسهم غير سبيل البحث عن القراعيم. والقراعيم، جمع قرعومة بلغتنا المحكيّة، هي أعقاب السّجائر المرميّة، بعد استنفاد المدخّن جرعات النّيكوتين منها.

لقد شاءت الأقدار
أن انفرط عقد "منظومتهم الاشتراكيّة" مثلما أدمنوا على إشاعة تسمية تلك الدّول الّتي سارت في ركاب "بيت-عزّهم" السّوڤييتي الّذي اندثر فلم يبق له أثر. وكعادة المدمنين الّذين لم يجدوا مصحّات للفطام من شعاراتهم، تراهم ملقيّين على قارعات الطّرق أو تجدهم يبحثون، في بعض ما تبقّى من براميل القمامة الشّيوعيّة المتناثرة على أطراف العالم، عن أعقاب سچائر يشفون بها ظمأ إدمانهم. وهكذا على سبيل المثال تراهم يشيدون في صحفهم الصّفراء ومواقعهم الحمراء البلهاء بنظام كوريا الشّماليّة، لا لشيء سوى أنّه يُخيَّل لجهلائهم أنّ مثل هذه الأنظمة يعادي أميركا والرأسماليّة ويؤمن بالاشتراكيّة. في حين يعلم كلّ من يمتلك ذرّة من عقل في هذا العالم أنّ هذا النّظام الكوري الشّمالي هو أسوأ نظام بقي على وجه الأرض، من ناحية تأليه الزّعيم وتوريث الرئاسة واستعباد النّاس وإفقارهم إلى أبعد الحدود. لقد حقّ في هؤلاء المدمنين القول أنْ تبدّلَ العالمُ وما بُدّلوا تبديلا.
نودّ التأكيد أوّلاً
على أنّه لا بأس في الاعتراض بشدّة أو رفض وإدانة السّياسات الأميركيّة، بل ربّما كان من واجب ذوي العقول المتنوّرة والحرّة الّتي تنشد الخير الاعتراض على تلك السّياسات الغبيّة وخاصّة تلك الّتي تأتي من قرائح محافظي بوش الجدد وأمثالهم المتعولمين. غير أنّ هذه الفئة من الشّيوعيّين وأتباعهم الجبهويّين من فلسطينيّي إسرائيل (عرب 48، عرب الدّاخل، عرب إسرائيل، وما شئتم من تسميات...)، ولشدّة إدمانهم الشّعارات المتوارثة كابرًا عن كابر فإنّهم لا يفرّقون بين الخير والشرّ في هذا العالم. فالشّعار الّذي ترعرعوا عليه شبّوا عليه وها هم يشيبون عليه. لقد أدمنوا على جرعات الغباء الّتي رضعوها من "منظومتهم" من المهد، ويبدو أنّهم سيحملونها في جعبتهم إلى اللّحد.

وعلى سبيل المثال،
يعلمُ كلّ إنسان بسيط يتّسم بالبديهة الخَيّرة من أهلنا في هذا الوطن أنّ القضاء على نظام صدّام التّكريتي الظّالم هو عملٌ خَيّرٌ، بينما التنفيذ وما جرى ويجري في ساحة العراق الآن هو شرّ. هذه هي المعادلة، غير أنّ المدمنين على شعارات المفروطة "الاشتراكيّة"، غير المأسوف عليها، لا يعترفون بحقيقة هذه المعادلة. بل إنّك تقرأ في صحافتهم مديحًا وإشادات بما يسمّونه زورًا وبهتانًا "مقاومة". الإرهاب الّذي يفجّر الكنائس والمساجد والأسواق على من يؤمّها من النّاس البسطاء الأبرياء، من جميع أطياف أبناء العراق على جميع مللهم ونحلهم، في المدن العراقيّة ليس "مقاومة" وليس "شريفة" بأيّ حال ولا يمكن أن يكون كذلك، أيّها الدجّالون الكذبة. إنّما هو جرائم تقشعرّ لها الأبدان مهما حاول الكذبة تلميعها.
وشيء آخر يجب قوله لهؤلاء الدّجالين
من رافعي شعار الأمميّة في حين أنّ الأمميّة منهم براء: كيف ينظر هؤلاء إلى أنفسهم في المرآة وهم يتشدّقون بفلسطينيّتهم ويرفعون صوتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي من أجل رفع الضّيم والظّلم عن الشّعب الفلسطيني (والظّلم الإسرائيلي للفلسطينيّين هو أمر واقع ويجب محاربته كما يجب كنس الاحتلال من المناطق الفلسطينيّة المحتلّة، وهذا واجب على على كلّ إنسان حرّ وصاحب ضمير)، ولكنّهم في الوقت ذاته يدافعون عن نظام على شاكلة النّظام السّوداني وعصابات عُرْبانه الّتي شرّدت أكثر من مليونين وقتلت أكثر من مائتي ألف إنسان من أهل دارفور في السّنوات الأخيرة؟ أليس أهل دارفور جزءًا من هذه الأمميّة الّتي يدّعيها هؤلاء الدّجّالون؟ أم أنّهم، في ما يتعلّق بأهل دارفور ذوي البشرة الأشدّ سمارًا، عنصريّون عروبيّون قد ترعرعوا على بذاءات شاعرهم ورمز عروبتهم البليدة الّذي شحنهم بمقولة: "إنّ العبيد لأنجاس مناكيدُ"؟


إنّ هؤلاء بتوجّهاتهم هذه
إنّما يكشفون عن حقيقة لا يمكن كنسها وإخفاؤها تحت بساطهم المُهترئ. إنّهم في قرارة أنفسهم، وبما تنضح به صحفهم ومواقعهم، يشهدون على أنّهم أصوليّون وسلفيّون، بل وعنصريّون عروبيّون. وهم بذلك ليسوا بأقلّ سوءًا من المتأسلمين القدماء والجدد الّذين يعيثون فسادًا في المجتمعات العربيّة وفي ما سواها. ولأنّهم أصوليّون وسلفيّون فإنّك تراهم أو تقرأ في صحافتهم كلّ ذلك التّغامز والتوادد مع الأصوليّين الإسلاميّين، أو مع القبليّين العربان في كلّ مكان: "هنالك قوى أصولية دينية تناضل ضد العدوان والاحتلال، وهي أشرف من كل اليسار المدّعي والمزيف"، مثلما يصرّح أحد زعمائهم في صحافتهم. أليست مقولته هذه تكشف بالضّبط أنّه هو الّذي يمكن تسميته بـ "اليساري المزيّف"، المتزلّف للأصوليّة؟
لقد نسي هؤلاء الشّيوعيّون والجبهويّون،
أو تناسوا، شعاراتهم الأخرى الّتي طالما رفعوها في الماضي، مثل شعار "الدّين أفيون الشّعوب". لقد نسي هؤلاء أو تناسوا، أنّ من بين أهمّ الأسباب الّتي "فَسْقَلَتْ" وذرّرت أبناء المجتمع العربي في إسرائيل هو ظهور الحركة الإسلاميّة الّتي بدأت مدعومةً من الحكومات الإسرائيليّة بغرض ضرب التّوجّهات الوطنيّة الوحدويّة الديمقراطيّة والمنفتحة على العالم، الّتي كانت لدى شرائح صادقة من أبناء الجمهور العربي ولدى بعض القيادات السّابقة، رغم الكثير من التّحفّظات الّتي لدينا على تلك القيادات أيضًا. لكن يبدو أنّ خلفاء هؤلاء ولشدّة إدمانهم الشّعارات، ولاختفاء بعض الوجوه المسؤولة من السّاحة، فقد أضحت الشّعارات في ذهنيّاتهم مخدّرًا يفقدهم صوابهم، فتراهم في كلّ واد يهيمون، يقولون ما لا يفهمون. لذلك أيضًا تراهم يسارعون إلى الزّجّ بأنفسهم في منافسات عقيمة مع المتقومجين الجدد، فرسان فضائيّات الزّعيق، أو أنّهم يتودّدون إلى إسلاميّين جدد، من عربان أيديولوجيّات الحريق.

كيف نصف، إذن، حال هؤلاء؟
لا شكّ أنّهم الأكثر شبهًا بالحرباء. والحرباء هي هذا المخلوق الّذي طالما شدّ انتباهنا في سني طفولتنا لتلوّنه بلون الجسم الّذي يقف عليه، أو في بيئته، اتقّاء الافتراس. وفي بعض الأحايين تتشكّل الحرباء بلونين مختلفين من جانبيها. هذه هي حال هؤلاء أيضًا، فإنّهم في كثير من الأحيان يصرّحون بالعربيّة شيئًا واحدًا، ثمّ يقولون خلافه عندما يأتي التّصريح بالعبريّة. إنّهم، على ما يبدو، قد ذوّتوا جوهر مقولة "لكلّ مقام مقال"، أو أنّهم قد انطبعوا منذ نعومة أظفارهم بطبيعة الحرباوات المتلوّنة.
أليس كذلك؟

*
في المقالة القادمة سنشرح لكم معنى الآية:
"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ غَباءً الّذِينَ تَشَيَّعُوا فَقالُوا إنّا شُيوعيّون جبهويّون فلسطينيّون إسرائيليّون".


***
نشرت في إيلاف، مارس 2007

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاس غَباءً


في المقالة السّابقة
تطرّقت إلى مسألة الشّعارات الّتي أدمنت عليها بعض القيادات والمتنفّذين في الجبهة الديمقراطيّة والحزب الشّيوعي الإسرائيلي، وهي الشّعارات البعيدة كلّ البعد عن الأمميّة والعلمانيّة اللّتين يدّعيانهما. وقد يسأل سائل: ألم تكتب بأنّك ستمنح صوتك في الانتخابات الإسرائيليّة السّابقة للجبهة الدّيمقراطيّة؟ والجواب على ذلك: بلى، ولا أنكر ذلك. بل وقد نشرت هذا الكلام هنا في "إيلاف"، وقد تمّ نقل المقالة بعد ذلك وتوزيعها في النّاصرة والجليل وبلدات أخرى عشيّة الانتخابات بعد استئذاني بعمل ذلك. ولكنّى أكّدت في المقالة، ويمكن العثور عليها في أرشيف "إيلاف"، على أنّي سأمنح صوتي للجبهة لأنّها "الأقلّ سوءًا" من بين سائر الأحزاب الموجودة على السّاحة، وذلك لكون الجبهة: "بما تمثّله من توجّهات على الصّعيد الإسرائيلي العام، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، هي الخيار الأقلّ سوءًا" (أنظر المقالة).

لقد كتبت ذلك لأنّ الحقيقة هي أنّ كلّ الأحزاب القائمة على السّاحة سيئّة، ولذلك فأنا أنتخب "الأقلّ سوءًا" لكي لا يذهب صوتي، إن أنا امتنعت عن التّصويت، للأحزاب الكبيرة الحاكمة، كما هي الحال في قواعد الانتخابات النّسبيّة الإسرائيليّة. والتّأكيد هو على "الأقلّ سوءًا"، غير أنّ منحي صوتي لـ"الأقلّ سوءًا" لا يجعل الجبهة وقيادتها وصحفها فوق النّقد، بل يعني أنّ ثمّ أمورًا سيئّة فيها أيضًا، وفيها الكثير من ذلك. وهي أمور لا يمكن كنسها تحت بساط الشّعارات الّتي أضحت كاتمات عقول لدى البعض، ظنًّا من هؤلاء أنّهم وبمجرّد التّزنُّر بالشّعارات يسقطون عن أنفسهم إمكانية التعرّض للنّقد، بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا.
وسنكشف للقرّاء الآن بعضًا
من غباء بعض تلك القيادات والمتنفّذين في هذه الجبهة وصحافتها. ولأنّ هؤلاء البعض يدّعون مواكبة العصر فقد أفردوا لحزبهم وجبهتهم وصحافتهم موقعًا في هذه الشّبكة. إنّهم يدّعون بكونهم منبرًا حرًّا وتعدّديًّا، وأنّّهم يؤمنون بحريّة التّعبير وما إلى ذلك من شعارات، غير أنّ هذه الادّعاءات سرعان ما تسقط في مواجهة الواقع. فها هم يصرّحون في الخفاء بأنّ هنالك: "قواعد معيّنة نتّبعها في التّعامل مع الموادّ المنشورة في موقع الجبهة، تستند إلى رؤى سياسيّة تقرّها قيادة الجبهة". وعندما تسأل هؤلاء عن هذه القواعد والرّؤى فإنّهم لا يحيرون جوابًا، وكأنّ القواعد والرؤى السّياسيّة للأحزاب تنتمي إلى عالم الغيب؟

لقد نسي هؤلاء أنّ للإنترنت فضائل لا يعرفونها. إذ إنّ المتصفّح ذا البصر والبصيرة سيكتشف أنّ الأمّيّة أقرب إلى هؤلاء من الأمميّة. إذ لو أنّهم كانوا يقرؤون ما نقرأ من هذه "المواقف والرّؤى الّتي تقرّها قيادة الجبهة"، كما يدّعون، ويمكن الوصول إليها عبر موقعهم، لكانت هذه القيادة وإدارات صحافتها ومحرّريها قد اختفت عن الأنظار، ومن زمان.
فعلى سبيل المثال، تراهم يتشدّقون صباح مساء بقيادتهم، صاحبة الصّون والعفاف، ولهذا الغرض يتزيّون بكلّ ما هو شعاراتي كعادة المدمنين عليها، فيفردون للقارئ إحالات إلى كُتّاب مقالات يعتزّون بهم لمجرّد كونهم فلسطينيّين لا غير. غير أنّ من يقرأ عميقًا في موقع "أصحاب المواقف والرّؤى السّياسيّة" سيكتشف في الحال أنّه أمام أناس أقلّ ما يمكن أن يقال عنهم هو أنّهم على درجة من الغباء والأميّة يصعب الوصول إليهما.
ولماذا أقول هذا الكلام؟
لقد أفردوا في صدارة موقعهم صورًا لقياداتهم الّتي فارقت الحياة وإحالات إلى سيرهم إجلالاً منهم لهذه القيادات. ولا بأس في ذلك، فقد عرفت بعضها إذ ربطتني بها علاقات شخصيّة، كما أكنّ للبعض منها احترامًا حقيقيًّا، رغم أنّي كنت قد أسمعتها شخصيًّا، وفي أكثر من مناسبة ولقاء، تحفّظي من بعض مواقفها وسلوكيّاتها، وليس هنا المجال لتفصيل تلك اللّقاءات والمشاهد والتّحفّظات. إنّهم يرفعون هذه الشّخصيّات بمثابة شعار فحسب، إذ أنّ القارئ النّبيه سيصل في موقعهم ذاته وخلف تلك الشّعارات إلى أمور من نوع آخر.
لنقرأ، على سبيل المثال فحسب،عن بعض ملابسات ما جرى أيّام النّكبة والمواقف المتلوّنة والمتبدّلة للشّيوعيّين بين ليلة وضحاها، ممّا يصل إليه القارئ عبر موقعهم. يذكر أحد الكتّاب المميّزين: "حينما أعلنت الهيئة العربية العليا معارضتها لقرار التقسيم، أصدرت عصبة التحرر الوطني،وهي الجناح العربي في الحزب الشيوعي، أصدرت بياناً تمتدح فيه المفتي،وتسمي قراره بمحاربة التقسيم بأنه انتفاضة قومية رائعة. وصفق الناس يومها للشيوعيين.ولكن الشيوعيين العرب كانوا غافلين. ففجأة تغير موقف الاتحاد السوڤيتي وأعلن موافقته على التقسيم. وإذا الشيوعيون العرب الذين كانوا ينادون بوحدة فلسطين واستقلالها ينادون بتقسيمها. وإذا الحزب الشيوعي ينشقّ على نفسه. وإذا إميل توما وبولس فرح يعارضان التقسيم، بينما فؤاد نصار وطوبي وحبيبي يؤيدونه. ويركض فؤاد نصار قائد الشيوعيين إلى أبراهام بن صور المبامي الصهيوني ويحاول إقناعه بأن التقسيم أفضل من الدولة الثنائية الموحدة التي كان ينادي بها المبام. هكذا مسح العباقرة العرب الشيوعيون ما قالوه بالأمس، فسبحان مبدل الأحوال!".

كما أنّ إميل توما ذاته لا يسلم من سياط الكاتب الّذي يتزيّن به الموقع. فلنقرأ معًا، إذن، كلمات الكاتب: "ولنرجع إلى التاريخ مرة أخرى: السنة 1948، الشهر آذار، المكان حيفا، الشيوعي إميل توما عضو في اللجنة القومية في حيفا. إميل يجتمع سراً مع قادة صهيونيين!. وقد يدعي إميل أنه كان يريد إحلال هدنة في حيفا. ولكن الناس سامحهم الله، يسيئون الظن دائماً، وهم يقولون إن إميل كان يسلم أسرار العرب للصهيونيين الذين يجتمع بهم...". بهذه اللّغة يهاجمه الكاتب الّذي يتشرّف به أصحاب "المواقف والرؤى الّتي تقرّها قيادة الجبهة". وهذا الكلام مميّز لديهم، ليس لأنّهم يؤمنون بحريّة التّعبير، فهم لم يكونوا في يوم من الأيّام كذلك. إنّما هو موجود لديهم لأنّهم، من جهة، قد أدمنوا على الشّعارات فحسب، ولأنّهم لا يقرؤون ،من الجهة الأخرى. سأكتفي بهذا القدر من الاقتباسات الآن، وهنالك أمور كثيرة أخرى ووكلام وكتابات تتعرّض إلى مواقف وسلوكيّات شخصيّات مركزيّة، مثل إميل حبيبي، صليبا خميس، عصام العبّاسي وغيرهم.
لم أرغب في ذكر
اسم كاتب المقال المذكور أعلاه، وذلك لسببين: أوّلاً، لكي لا يسارع المحرّرون إلى شطب هذه الموادّ من موقعهم، ونحن نريد من القرّاء أن يطّلعوا عليها قبل أن تُشطَب، لكي يتعرّف القارئ على منسوب غبائهم. وثانيًا، لأني أرغب في إرغامهم على القراءة، بل وإرغامهم على تخصيص طاقم يكدّ بحثًا في أرشيفهم عن هذه "الرّؤى الّتي تقرّها قيادة جبهتهم ومحرّري صحافتهم ومواقعهم.
فماذا يمكن أن يُقال، إذن، عن هؤلاء؟ لو قُيّض لجحا أن ينشئ صحيفة أو موقعًا لكان أكثر ذكاءً منهم.
ورغم كلّ ذلك،
ولكي لا يُفهم كلامي على التّعميم، أقول إنّه ما زال هناك بعض المنتمين للجبهة والحزب، من صنف أولئك الّذين يعملون بجديّة وبصدق لمصلحة النّاس، بعيدًا عن الشّعارات المتقومجة الّتي تذهب أدراج الرّياح، أو أدراج الأثير الفضائي العروبي القادم من أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة في الشّرق الأوسط، بوق واضعي نظريّات "الفوضى البنّائة". فإذا كان الرّفاق والشباب المنفتحون الصّادقون، والأوفياء إلى مبادئ الأمميّة والعلمانيّة ممّن ينتمون إلى هذا الجسم يشعرون بالحرج من هذا الهرج، فما عليهم سوى الاحتجاج على ما تقوم به بعض قياداتهم وبعض المتنفّذين في صحافة الجعجعة البلهاء الّتي يحرّرونها. وإذا كانوا يريدون خيرًا للنّاس في هذا الوطن، فما عليهم سوى العمل على إحالة جميع هؤلاء المجعجعين وأمثالهم إلى التّقاعد. لأنّهم إنْ لم يفعلوا ذلك يصبحون مسؤولين عن كلّ ما يجري خلف ظهورهم وباسمهم.
وأمر أخير نودّ التأكيد عليه،وعلى مسمع من جميع هؤلاء ومن لفّ لفّهم من مدمني الشّعارات الكاذبة: لا يمكن للأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، والّتي تناضل وبحقّ من أجل الحفاظ على حقوقها في وطنها ضدّ السّياسات العنصريّة الإسرائيليّة، إلاّ أن تكون نصيرة لكلّ الأقليّات الّتي تناضل من أجل حقوقها في أوطانها، كالأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وكألأقباط في مصر، وكأهل دارفور في السّودان، وكالأمازيغ وغيرهم في دول المغرب وسائر الأقليّات في البلاد العربيّة، أو كأيّ أقليّة أخرى مضطهدة على وجه الأرض. كما لا يمكن للأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل أن تكون في جانب نظام قمعي كالنّظام البعثي العروبي العنصري، مثال الّذي رحل إلى غير رجعة من بلاد الرّافدين، أو كنظام البعث الّذي يلاحق ويسجن خيرة المثقّفين السّوريّين، والّذي سيرحلُ هو الآخر عاجلاً أم آجلاً من بلاد الشّام، مثلما رحل عن لبنان.
نحن نؤمن بالحريّة لنا ولغيرنا، كما أنّنا ننشد الخير لنا ولغيرنا إذ أنّ المبادئ الإنسانيّة في نهاية المطاف لا يمكن أن تتجزّأ. بل على العكس من ذلك تمامًا، هذا هو المعنى الحقيقي للأمميّة. هذا إذا كنّا نؤمن بها حقًّا ولا نرفعها كمجرّد شعار يتلاشى مع هبوب كلّ نسمة قومويّة أو إسلامويّة، بغية منافسة شعاراتيّة مع تيّارات ظلاميّة أخرى ظهرت على السّاحة.


وَالعَقْلُ وَلِيُّ التّوفيق.

***
نشرت في إيلاف، مارس 2007



الشيخ سلمان بن صليبي آل مصالحة يردّ على الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم


سلمان مصالحة ||

رسالة القمّة إلى القاع


الشّيخ سلمان بن صليبي آل مصالحة، حاكم إمارة "من جهة أخرى" الافتراضيّة، يردّ على الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم إمارة "دبيّ" الحقيقيّة.

غيث الرّوح



سلمان مصالحة

غيث الرّوح


(إلى نادر في عرض بحر الشّبكة)


كَفكِفْ دُموعَكَ غَيْثُ الرُّوحِ يَنْهَمِلُ
فَلَيْسَ هُناكَ غَمَامٌ أيُّها الرّجُلُ

إنَّ الّذِينَ سَأَلْتَ اللّهَ يَحْفَظَهُمْ
قَدْ غادَرُوا وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ زُحَلُ

لَوْ كانَ مِنْ حَجَرٍ ذاكَ الّذي رُفِعَتْ
مِنْ أَجْلِهِ دَعَواتُ الطِّفْلِ تَبْتَهِلُ

لَانْزَاحَ عَنْ عَرْشِهِ المَهْزُوزِ مِنْ خَجَلٍ
لكِنَّهُ حَجَرٌ يُرْجَى فَلَا يَصِلُ

لَا النّاسُ تَعْرِفُ أَنَّ الوَهْمَ سَيِّدُهَا
مُذْ أَوْجَدَتْهُ عَلَى أَفْعَالِهَا تَكِلُ

وَلَا تَعُودُ إلَى الرُّشْدِ الَّذِي تَرَكَتْ
فِي غَابِرٍ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ يَمْتَثِلُ

لَا زالَ فِي جُعْبَتِي سَهّمٌ سَأُطْلِقُهُ
يَوْمًا يُثِيرُ خَلايَا العَقْلِ يَنْتَضِلُ

يَوْمًا يَكُونُ إذَا مَا عِشْتُ أَجْعَلُهُ
لِلنّاسِ عِيدًا وَحِيدًا نَبْضُهُ أَمَلُ



يناير 2009
***










عدوان في حفرة واحدة

سلمان مصالحة

عَدُوّان في حفرة واحدة

إنّ إحدى أعوص القضايا
الّتي تواجه المجتمعات العربية التي يشكل الإسلام عمودها الفقري هي انعدام ثقافة حساب النّفس. تجدر الإشارة إلى أنّه، وبخلاف مجتمعات أخرى التي تشكّل آليات حساب النّفس ركيزة هامّة في حضارتها ما يمكّن من إجراء تصحيح ذاتي، لا نعثر في المجتمعات العربية على آليات من هذا النّوع. فلا الدّين يزوّد هذه الآليّات، ولا الأنظمة الفاسدة معنيّة بآليّات كهذه، ولا رجال الفكر العرب، ما عدا قلّة قليلة منهم، يزوّدون المجتمع بهذه البضاعة. لقد قضى الشاعر الفلسطيني محمود درويش نحبه منذ مدّة، ولن يستطيع التّطرُّق إلى حرب غزّة الآن. غير أنّه، وقبل أن يفارق الحياة، كان قد نشر، في تموز 2008، قصيدة بعنوان "سيناريو جاهز"، يرسم فيها خطوطًا لسيناريو مفترض عن عدوّين يجدان نفسيهما داخل حفرة. الأوّل هو الشّاعر ذاته الذي يرمز إلى الفلسطيني، والثّاني هو "العدو"، بـ أل التّعريف، دون أن يذكر هويّة هذا العدو. إذ أنّ القارئ سيعرف لوحده من هو العدو المقصود.

وها هي حفرة غزّة
تفغر فاها على مصراعيه ويسقط فيها العدوّان. وها هو الفلسطيني يجد نفسه عاجزًا أمام حالة الكذب على الذّات. ففي مقالة نُشرت في صحيفة "الأيّام" الفلسطينيّة يستهجن الكاتب الفلسطيني هاني المصري شحوب ردّ الفعل الفلسطيني في الضفّة الغربيّة إزاء أهوال القتل والهدم في غزّة: "التحركات الشعبية التي شهدتها الضفّة حتّى الآن، ونحن في اليوم الرابع عشر للعدوان، لم ترتق الى مستوى التلاحم بين الشعب الواحد ولا الى مستوى شلال الدم النازف والمجازر اليومية، وكانت أشبه بالتضامن الذي يجري في أي بلد من بلدان العالم، بل ان الكثير من بلدان العالم تضامنت مع غزة بشكل أقوى من خلال المظاهرات المستمرة المليونية وباشكال متنوعة أوسع كثيرًا مما حدث في الضفّة"، كما يكتب هاني المصري (الأيّام، 10 يناير 2009).

مرّة تلو أخرى تتعالى أصوات
المراثي الفلسطينية على المصير الّذي آل إليه الفلسطيني دون أيّ محاولة لإجراء حساب نفس حقيقي. "نحن عاجزون.. نحن منهزمون.... فاعذرونا يا أطفالنا الموتى"، يكتب عبد الله عواد، في صحيفة "الأيّام" ويُطلق سهام النّقد باتّجاه القيادات الفلسطينيّة: "لماذا لا يذهب مشعل وعباس لغزة؟... هذا ليس سؤالاً خاصاً، وانما سؤال الشعب، سؤال الناس. وهو يقوم على فرضية ان القائد يكون بين شعبه.. دائماً وابداً. ليست شاشة التلفاز مكاناً للقادة ولن تكون، وإنما مكانهم بين شعبهم.. وناسهم.. ومقاتليهم. وحتى اللحظة لم يظهر اي قائد بين المقاتلين او بين الناس"، يصرخ عواد (الأيّام، 8 يناير 2009). أمّا الكاتب الفلسطيني علي الخليلي فيتأسّى على أنّ العرب والفلسطينيّين قد تركوا دور الضحيّة، وأنّهم تركوا هذا الدّور للقاتل الذي يمتلك كلّ هذه القوّة. "والأنكى من ذلك"، يكتب الخليلي هو: "أن يرى العالم، إلا القليل والمهمش منه، هذه الرؤية الإسرائيلية ذاتها، فينقلب الجلاد الواضح بكل جبروته المزلزل، والمتحفز لمزيد من القتل والإبادة، على مدار الساعة، إلى ضحية لا حول لها ولا قوة، إلى الحدّ الذي تستدر فيه العطف والرثاء." (الأيّام، 8 يناير 2009). ثمّ يعود الخليلي ويؤكّد على إنّه يريد استغلال "محرقة" غزّة من أجل إعادة دور الضحيّة إلى الفلسطيني، لأنّ هذا هو الدّور المخصّص بنظره للفلسطيني مقابل القتلة الإسرائيليّين: "الآن، في محرقة قطاع غزة، هل نشهد صحوة لهذا الهدف، فنرفع الضحية التي هي نحن، إلى منصة القضاة، في مواجهة القتلة والجلادين؟".

المثقّف الفلسطيني الوحيد
الّذي كتب نقدًا حادًّا ضدّ حماس هو الكاتب حسن حضر. للهجوم العدواني العنيف على غزّة، كتب حسن خضر، أهداف تتخطّى إحراز إنجازات عسكرية هنا وهناك يمكن لإسرائيل أن تصل إليها. إنّ الهدف من ذلك هو إجراء تجارب على الجيل الرّابع من الأسلحة وإجراء تجارب على تكتيكات حربيّة جديدة. كلّ هذه الظّروف للهجمة الإسرائيليّة قد وفّرتها حماس لإسرائيل. يعلم الإسرائيليّون أنّ اللّه حباهم بأعداء مثاليّين، يكثرون من الصخب والبلاغة، كتب حسن خضر، وأضاف: "لـم يكتمل نصاب الظروف الـمواتية نتيجة عطب أصاب الضمير في الإقليم والعالـم، أو حتى نتيجة شطارة الإسرائيليين،... بل اكتمل لأن ميليشيا حماس، لـم تُبق على حلفاء ولا أصدقاء للفلسطينيين شعباً وقضية، وفعلت كلّ ما من شأنه إقناع منْ لـم يقتنع بعد بأن الفلسطينيين هم، في الواقع، غولياث. وبالتالي فهم يحتاجون إلى تدبير أمرهم بالقوّة." (الأيّام، 6 يناير 2009).

السّطور الأخيرة من القصيدة-
السيناريو الّذي نشره درويش قبل رحيله تنتهي هكذا: "ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة / وعلي شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو / إلى آخره". وها هو، وعقب الحرب في غزّة، يأخذ شاعر فلسطيني آخر، سميح القاسم الذي يعتبر نفسه شاعرًا وطنيًّا قوميًّا - وهو مواطن إسرائيلي وفي قائمة المرشّحين الفخريّين لحزب الجبهة الديمقراطية لانتخابات الكنيست - على عاتقه إنهاء السيناريو. ففي قصيدة بعنوان "موعظة لجمعة الخلاص" يكتب: "أنا ملكُ القُدسِ. لا أنتَ، ريتشاردْ!.../ أنا ملكُ القدسِ. من أوَّلِ النقْبِ حتى أعالي الجليلِ.../ فلملِمْ سيوفكَ. واحزِمْ دروعكَ. ريتشارد / وباشِرْ رحيلَكْ. / ستنزلُ أنتَ.. لأصعَدْ... / ... أنا ملكُ القدسِ. دعْ لي الصليبَ / ودعْ لي الهلالَ. ونجمةَ داوودَ. وارحَلْ... / إذا شئتَ. حيًّا. سترحَلْ / وإن شئتَ. مَيْتًا. سترحَلْ". (عن: موقع حزب "الجبهة الديمقراطية" الإسرائيلي، 10 يناير 2009) في مواجهة هذه البلاغة المزيّفة والكاذبة، تنتصب كلمات الكاتب الفلسطيني حسن خضر كالمنارة: "وإذا كان ثمة من كوميديا سوداء، فمن تجلياتها أن غولياث الـمزيّف يهدد غولياث الحقيقي بالويل والثبور وعظائم الأمور، معلنًا أن نهاية إسرائيل أصبحت وشيكة، بينما يسدد الأخير إلى أجساد الفلسطينيين اللكمة تلو الأخرى، والطلعة الجوية تلو الأخرى، ويبكي"، يُجمل حسن خصر كلامه (الأيّام، 6 يناير 2009). في قصيدة كان درويش قد نشرها عقب سيطرة حماس العنيفة على قطاع غزّة، ثمّة تطرُّق إلى الكذب الذّاتي الفلسطيني: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! / أن تُصدّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك"، كتب درويش (الحياة، 17 يونيو 2007).

وفي هذه اللّحظة الّتي أخطّ فيها
هذه الكلمات لا زالت مسرحيّة الدّم مستمرّة. يبدو أنّ الممثّلين والجمهور في هذه البقعة من الأرض لا زالوا يطلبون الكثير من الـ "أكشن" في هذه التّراجيديا الغير المنتهية. لذلك، ومن أجل إنهاء هذا السيناريو السّيّء الّذي يكتبه أناس سيّئون في ربوعنا، فإنّ هذا المكان بحاجة ماسّة، وأكثر من أيّ شيء آخر، إلى مُخرج شجاع وحكيم، ليس من صنف المخرجين السينيكاليّين من فصيلة الزّعامات الإسرائيليّة والفلسطينيّة، وذلك من أجل أن يضع هذا حدًّا لعرس الدّم الإسرائيلي الفلسطيني. ولأنّه لا يوجد مسرحيّون ومخرجون حكماء في ربوعنا، فعلى هذا المخرج أن يأتي من خارج هذا المكان، على شكل ضغط دوليّ شديد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولإقامة دولة فلسطينيّة في جميع المناطق المحتلّة منذ العام 1967، ودفع الجانب الفلسطيني والعربي إلى تذويت حقيقي للاعتراف بدولة إسرائيل، وذلك من أجل وضع حدّ لهذا الصّراع الدّموي. لأنّه بدون ذلك، فأغلب الظنّ أنّ هذه المسرحيّة التّراجيديّة ستخرج في رحلة عروض دمويّة في أطراف العالم الواسع.


القدس 12 يناير 2009
***

للمقالة المنشورة في الصحيفة "نوي زورتشر تسايتونغ" باللغة الألمانية، اضغط هنا.

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"


*

للمقالة باللغة الإنكليزية، اضغط هنا.

للمقالة باللغة العبرية، اضغط هنا.

للمقالة بالألمانية، اضغط هنا.



سألت الرب مغفرة


سلمان مصالحة
|| سألتُ الرّبَّ مغفرةً


(الإهداء: إلى روح أبي نواس، فقيد الشّعر العربي الأكبر)

تَنادَى النَّاسُ فِي عَجَبِ - عَلَى مَا ذَاعَ مِنْ كـَـرَبـِـي
فَكَـيْــفَ أَبـُـوحُ للدُّنـْـيـَـا - بـِبَلـْوَى أُمَّـــةِ الـعَـــرَبِ
أُنَـاسٌ حَيْــثُـمـا حـَـلـُّـوا - أَظَلُّوا الصِّدْقَ بِالكـَذِبِ
وَخَلُّوا الجَهْلَ يَرْكَبُهُمْ - وَشَدُّوا الجَهْلَ فِي الـقَـتَـبِ
يـُبَــاهـُـونَ الأَنَـامَ بِـــهِ - كَـعِلْـمٍ خُـطَّ فِي الكـُـتُـــبِ
إذَا الحَاسـُوبُ جَاءَهُمُـو - غَـدَا فِيهِـمْ كَمُحْـتَسِـبِ
فَلا يَدْرُونَ كـَيْفَ نَمَـتْ - خَلايَا العَقْلِ فِي التَّعَـبِ
وَفِى البَحْثِ الَّذِي ظَنُّوا - طِلابَ الـمـَاءِ وَالْعُشُـبِ
لأنَّ الطــَّبْـعَ يَغْـلِبُـهُـمْ - كَذَا جُبِلـُـوا عَلَى الـجَـرَبِ
فـَلا القَـطْـرَانُ يَنْفَعُـهُـمْ - وَلا الإسـْـرَافُ فِـي الأَدَبِ
فَمَـنْ شَـبَّـتْ نَطَـائِـفُـهُ - عَلـَى الصَّحْـرَاءِ وَالـيـَـبَـبِ
يَظـُنُّ الآلَ مُـنـْـقِـذَهُ - مِنَ الـتَّـهْــوَامِ فِـي الشِّــعـَـبِ
يَظَلُّ الـدَّهـْـرَ مـُرْتـَحِلاً - وَرَاءَ الـوَهـْمِ فِـي الشُّـهـُبِ
يَطـُوفُ القـَفـْرَ مـُبْتَهِلاً - كـَـبُـومٍ صَـاحَ فـِـي الـخَـرَبِ
إذَا مَـا الـعـُودُ جَـادَ لـَهُ - بِـصـَـوْتٍ حَـالِــمٍ وَصِــبِ
وَنَـاحَ النـّايُ مِـنْ أَلـَـمٍ - وَلاحَ الـبَـدْرُ فِي السُّحُــبِ
تَـرَاهُ هَـبَّ مـُنْـذَعِــرًا - يَجُـوبُ الأَرْضَ فِي صَخَــبِ
وَإنْ فَـاضَـتْ قَـرِيحَـتـُـهُ - فَـيَـا لِلـْـقُــرْحِ وَالغَـضَـــبِ
وَمُوسِـيقَـاهُ إنْ وُصِـفَتْ - حَوَتْـهَا رَقْصَــةُ الدِّبــَــبِ
إذَا مَـا الحُـزْنُ حَـلَّ بِـهِ - يُحِيـلُ الحُـزْنَ كَالطـَّـرَبِ
وَإنْ فـَـرِحَ الأَنـَـامُ تَــرَى - لـَـهُ وَجْـهــًا كَمُغــْتـَـرِبِ
إذَا تَـيْـسًـا رَأَى عَـرَضـًا - أَتـَى مَـعْ دَلــْوِ مُحْـتـَلِـبِ
فَمِـنْ أَيِّ الجُدُودِ أَتـَـتْ - سـُلالـَـتُـهُ إلَـى الشُّـعـُـبِ
ســُـؤَالٌ مـَـا يـُفـَـارِقـُـنِـي - مَـعَ الأَيــَّامِ بـَـرَّحَ بــِي
طَرَقْتُ غَيَاهِبًا كَشَفَتْ - لِيَ الـْمَخْفِيَّ فِى حُجُــبِ
وَجُبْـتُ اللـَّيْـلَ أَسْـأَلــُهُ - عَنِ المَكـْنـُونِ فِي العَصَـبِ
طَلَبْتُ الـعَقْـلَ يُسْعِفَنِـي - عَلــَـى مـَا بَـانَ مِنْ أَرَبــِـي
عَيِيــتُ وَهَدَّنـِـي تَـعـَبِـي - وَلَمْ أَعْـثُــرْ عَلـَـى سَـبَــبِ
سِـوَى مَا كَانَ مِنْ قِيَمٍ - نَمَتْ كَالدُّودِ فِى الـخَشَبِ
رَأَيـْتُ الـخَـلْقَ أَبْعَـدُهـُمْ - عَـنِ التَّـنْـوِيـرِ قـَـوْمُ أَبـِـي
فـَعُـدْتُ مُحَمَّـلاً حـُـلـُـمًا - هُوَ التـِّـرْيــَاقُ لِلـنُّـجـُــبِ
سَـأَلـْتُ الـرَّبَّ مَغـْفِــرَةً - شـَـفَانِـي اللّـهُ مِنْ نَسـَـبِـي
*
آب 2005
***
نشرت في إيلاف



ڤيسلاڤا شيمبورسكا: قصائد



ڤيسلاڤا شيمبورسكا

قصائد

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


ولدت ڤيسلاڤا شيمبورسكا (Wislawa Szymborska) في العام 1923 في بلدة بنين الواقعة شرق پولندا. ومنذ العام 1931 تسكن في مدينة كراكوڤ، حيث درست هناك الأدب الپولندي والسّوسيولوجيا. في منتصف سنوات الأربعين نشرت محاولاتها الشّعريّة الأولى. وبعد أن وضعت الحرب العالميّة أوزارها استمرّت في نشر قصائدها في الجرائد والمجلاّت الپولنديّة. بالإضافة إلى ذلك، كتبت أعمدة صحفيّة في النّقد الأدبي، ومراجعات دوريّة للكتب الصّادرة. كما ترجمت قصائد كثيرة إلى اللّغة الپولنديّة وخاصّة من الشّعر الفرنسي. لقد نالت جوائز كثيرة منها جائزة وزارة الثّقافة الپولنديّة في العام 1963، جائزة چوتة في العام 1991، دكتوراة فخريّة من جامعة پوزنان في العام 1995، وجائزة نادي پن الپولندي في العام 1996. نشرت مجموعات شعريّة كثيرة وكتبًا ومقالات في النّقد الأدبي، وظهرت أشعارها في دوريّات وأنثولوجيات عديدة. كما تُرجمت أشعارها إلى كثير من اللّغات الأوروپيّة. لُغتها الشّعريّة غنيّة، ولا تقتصر على أسلوب واحد دون سواه. إنّ تعدّد أساليب الكتابة لديها يجعل مهمّة التّرجمة لأشعارها شائكة ومضنية. ولكن، لا مناص في نهاية المطاف من سلوك هذه الطّريق بغية تقديم بعض النّفحات للقارئ العربيّ الّذي يتشوّق إلى التّعرّف على آداب الأمم الأخرى.

القصيدة لدى شيمبورسكا هي تلك السّلسلة الّتي في يد "قرد برويچل". فحينما تُمتحن في التّاريخ الإنساني ويغلبها النّسيان تأتي تلك الرّنّة الخفيفة من السّلسلة لتذكّر بما كان، وبما هو كائن أو سيكون. فالشّعر لديها ليس مجرّد لعبة للتّسلية. إنّه قاموس تُشكّل مفرداته كراتٍ معدنيّة تضرب النّاقوس الّذي يقضّ مضجعها حينما تميل هي إلى النّسيان، وهذا المعدن هو المعدن الحقيقي والأصيل للشّعر، وفيه فقط ضمان النّجاح في هذا الاختبار. وفي هذا العصر وفي هذه الحقبة كلّ شيء له مغزى سياسي، وشيمبورسكا ذات النّفس الحسّاسة لما يجري، تضع أصابعها على تلك المداولات بين أطراف نزاع في كلّ مكان، الّذين يمضون الوقت للتّداول حول شكل الطّاولة، فكلّ ذلك هو سياسة، ولكن خلال هذه السّياسة، والسّؤال حول أيّ طالة "يجدر التّداول / بشأن الحياة والموت، مستديرة أم مربّعة." في هذه الأثناء يُقتَل النّاس وتنفق الحيوانات وتتهدّم البيوت وتُصبحُ الأرض خرابًا يبابًا، كما حال سابق العصور والدّهور.

أمّا عن الشّعر، فما هو هذا السّحر الّذي طالما تساءل النّاس عن جوهره؟ كثير من النّاس من يسأل عن سرّ هذا الفنّ الكلامي. وكثير من الشّعراء يسألون ويبحثون عن إجابة. لكلّ منهم رؤيا، ولكلّ منهم تصوّر أو إحساس بهذا الجانب أو بغيره من حُجيرات هذا الكنز المكنون. "بعض النّاس يحبّون الشّعر"، لكن ليس الجميع، "لكن يمكن أيضًا حبّ مرقة الدّجاج بالمعكرونة"، تستطرد شيمبورسكا. لكنّها لا تقنع بإجابات من هذا النّوع. فكثير من الإجابات الّتي أعطيت حتّى الآن هي إجابات واهية. ولذلك فهي تستمرّ في البحث عن إجابة أكثر دقّة، حتّى تخلص في النّهاية إلى الإجابة اللاّ-إجابة: "وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا / كما بدرابزين مُنقذ".

وهنا، وفي هذا الجواب الّذي يترك الباب مفتوحًا على مصاريعه، تبقى شيمبورسكا على طريق الرّحلة الطّويلة الّتي لا نهاية لها، تبقى متلبّسة بعدم المعرفة وهذا هو الدّليل على معرفتها لحقيقة الشّعر. هذه الحقيقة البسيطة الّتي تقتصر على البحث عن الإجابات لكلّ شيء. البحث عن الإجابات العميقة لماهيّة وجوهر الأشياء. ولأنّ إجابات من هذا النّوع مستحيلة الحصول، فإنّ عمليّة البحث ستبقى خالدة، وهي رحلة في طريق ليس منها رجعة. ولأنّ هذه الرّحلة هي رحلة فرديّة فإنّ شيمبورسكا تشعر بالأمان لدى شقيقتها الّتي "لا تكتب الأشعار". أحيانًا، وحينما يكون في العائلة أكثر من شاعر فهذا يؤدّي إلى "دوّامات في العلاقات العائليّة". ولهذا فإنّ الأمان الّذي تشعر به شيمبورسكا هو هذا التّوتّر الشّخصيّ الّذي لا يقربه أحد. هذه الفردانيّة المُرعبة، ولكن المُبدعة في آن معًا.


***


قردان لبرويچل

دائمًا أفكّر في امتحان التّوجيهي:
في النّافذة يجلسُ قردان مربوطَيْن بسلسلة.
عبر النّافذة تحومُ السّماء.
البحرُ يضربُ أمواجَه.

إنّي أُمتَحنُ في التّاريخ الإنساني:
أُتأتِئُ، وترتعدُ فرائصي.
قردٌ واحد، عيناهُ عليّ، يسترقُ السّمعَ ويسخر.
الثّاني يبدو يغلبُه نُعاس.
وحينَ يعمّ الصّمتُ بعدَ سؤال،
يُشيرُ لي ليذكّرني من خلال
رنّة خفيفة بالسّلسلة.

***

رسائل الميت

قرأنا رسائل الميت كما آلهة بلا أمل،
ومع كلّ ذلك آلهة، لأنّنا نعرفُ المواقيت الآتية.
نعرفُ أيّ دُيونٍ لم تُدفَع.
مع أي رجال هرولت النّساء للزّواج.
يا لهم من مساكين هؤلاء الموتى، موتى الرّؤى الضّيّقة،
مضحوك عليهم، غير معصومين، ويحسبون كلّ شيء.
إنّنا نرى الوجوه، حركات الأيادي وراء الظَّهْر.
آذانُنا تلتقطُ صوت تمزيق الوصايا الأخيرة.
يجلسون أمامنا مُضحكين كما لو كانوا على قطع خبزٍ مطليّة بالزّبدة.
أو مُسرعين للإمساك بالقبّعات المتطايرة فوق رؤوسهم.
ذوقهم السّيّء، ناپليون، بُخار وكهرباء،
أدوية فتّاكة لأمراضٍ قابلة للشّفاء.
سُخْف أشراط السّاعة حسب القدّيس يوهانس.
جنّة اللّه الخادِعة على الأرض، حسب جان جاك...
بهدوء نراقبُ بيادقهم على لوح الشّطرنج.
أنّهم فقط الآن تحرّكوا ثلاث خانات للأمام .
كلّ ما رأته عيونهم خرج مختلفًا تمامًا.
أكثرُهم حماسًا نظروا إلينا بثقة.
اكتشفوا أنّهم سيجدون هناكَ الكَمال.

***


أبناء هذا العصر

نحنُ أبناءُ هذا العَصْر،
إنّه عصرٌ سياسيّ.

كلّ ما يحملُ يومُك من أعباء
أو ليلُك، أعباؤك أعباؤنا، أعباؤكم
هي أعباءُ سياسة.

شِئتَ أمْ أبَيْتَ،
جيناتُك ماضيها سياسي،
لونُ الجلدِ سياسي،
للعَيْن وَجْهٌ سياسيّ.

بهذه الصّورة أو تلك،
لكلّ ما تقول أصداءٌ
لكلّ سَكَتاتِك مضمونٌ أو معنى
سياسي.

حتّى إذْ تخطو في الغابة،
تخطو أنتَ خطواتٍ سياسة
على أرضٍ سياسيّة.

حتّى الأشعار الغَيْر السّياسيّة هي أشعارٌ سياسة،
وفي الأعالي يزهو القمر بنوره،
منذُ زمن، لم يعُدْ قمري بَعْدُ.
أن تكون أو ألاّ تكون، هذا هو السّؤال.
أيّ سؤالٍ يا صديقي، أجب ببساطة.
سؤال سياسيّ.

لستَ مُلزمًا أن تكون من بني البشر
لكي تكون ذا مغزى سياسيّ.
يكفي أن تكون نفطًا خامًا،
هشيمًا مُركّزًا، مادّةً خامًا مُكرّرة.

أو حتّى طاولة جلساتٍ، على شكلها
ثار جدالٌ شهورًا طويلة:
حولَ أيّ طاولة يجدرُ التّداوُل
بشأن الحياة والموت، مُستديرة أمْ مُربّعة.

وفي هذه الأثناء، قُتل أناسٌ،
نفقتْ جوعًا حيوانات،
دُورٌ التهمتها ألسنة النّيران،
وحقولٌ أنبتت البُور،
مثلما في غابر العصور
غير السّياسيّة.

***


بعض النّاس يحبّون الشِّعْر

البعض -
أقصد ليس الجميع.
ليس الغالبيّة، ولا حتّى الأقليّة.
دون أخذ المدارس بالحسبان، فهم مُضطرّون هناك،
والشّعراء أنفسهم،
هؤلاء النّاس إثنان بالألف.

يحبّون -
لكن، يمكن أيضًا حبّ مرق الدّجاج بالمعكرونة،
يحبّون الإطراءات وأزرق السّماء،
يحبّون منديلاً قديمًا،
يحبّون الإصرار على إراداتهم،
يحبّون ملاطفةَ كَلْب.

الشِّعْر -
لكنْ، ما هو الشِّعْرُ في الحقيقة.
كَمْ مرّةٍ أُعطيتْ على هذا
إجابة واهية.
وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا
كما بدرابزين مُنقذ.

***


ڤيتنام

يا امرأة، ما اسمُك؟ لا أعرف.
أينَ وُلدتِ؟ لا أعرف.
لماذا تحفرينَ الأرض؟ لا أعرف.
كم من الوقت تختبئين هنا؟ لا أعرف.
لماذا تعضّين يدَ المحبّة؟ لا أعرف.
ألا تعرفين أنّنا لن نمسّك بسوء؟ لا أعرف.
مع أيّ طرفٍ أنتِ؟ لا أعرف.
ثَمّةَ حربٌ فعليكِ أن تختاري. لا أعرف.
هل ما زالت قريتك قائمة؟ لا أعرف.
هل هؤلاء هم أولادك؟ نعم.

***


في مديح ذمّ الذّات

ليسَ للدّأية ما تتّهم به نفسَها.
التّساؤلات غريبة في نظر الفَهْد الأسود.
سمكة الپيرانْها لا تُشكّك بمصداقيّة أعمالِها.
الأفعى يُمدح نفسَه دونما اعتراضات.

لا يوجد ابنُ آوى ذو نَقْدٍ ذاتيّ.
الجراد، التّمساح، الشْعريّة وذبابُ الخيل
كلّها تعيشُ حياتها راضيةً مرضيّة

قَلْبُ حوت الأورْكا يزنُ مائة كيلو
لكن من جهة أخرى، فهو خفيف.

لا يوجد شيء أكثر حيوانيّة
من ضمير نقيّ
على الكوكب الثّالث في المجموعة الشّمسيّة.

***


في الثّناء على شقيقتي

شقيقتي لا تكتُب الأشعار
ولا يبدو أنّها فجأة ستنظم القصائد.
سارت على خطى والدتها الّتي لم تكتب الأشعار.
وعلى خطى والدها الّذي هو الآخر لم يكتب الأشعار.
تحتَ سقف شقيقتي أشعر بالأمان:
لا شيء سيدفعُ زوج شقيقتي لكتابة الأشعار.
ومع أنّ الأمر يُذكّر بقصيدة لآدم مكدونسكي،
لا أحد من أقربائي مشغول بكتابة الأشعار.

على مكتب شقيقتي لا توجد أشعار قديمة.
ولا توجد جديدة في حقيبتها.
وحينما تدعوني شقيقتي للعشاء،
أعرفُ أنّّها ليست عازمة على قراءة الأشعار لي.
إنّها تعمل مرقة رائعة، ودونما أن تُحاول
ولن تندلق قهوتها على المخطوطات.

في كثير من العائلات لا أحد يكتب الأشعار.
ولكن، حين يفعلون عادةً ما يكونون أكثر من واحد.
أحيانًا يفيضُ الشّعر كشلاّلات الماء عبر الأجيال،
صانعةً دوّاماتٍ في العلاقات العائليّة.

شقيقتي تعتني بالنّثْر الدّارج والمُحترم.
كلّ نتاجها الأدبي يقتصر على البطاقات البريديّة.
يكرّرُ الشّيء ذاتَه كلّ عام:
أنّها حينما ستعود،
ستروي لنا كلّ شيء،
كلّ شيء،
كلّ شيء.

***

النّهاية والبداية

في نهاية كلّ حرب
أحدٌ ما يجبُ أن يُنظّف.
النّظام أيًّا ما كان
لن يحدثَ من ذاته تلقائيًّا.

أحدٌ ما يجبُ أن يدحرَ رُكامَ الخراب
إلى جوانب الطّرقات،
حتّى تعبرَ فيها
العرباتُ الملأى بالموتى.

أحدٌ ما يجبُ أن يتلطّخ
بالطّين وبالرّماد،
برفّاصات الأرائك،
شظايا الزّجاج
والخِرَق النّازفة.

أحدٌ ما يجبُ أن يجرّ لوحًا من خشب
ليدعمَ الحائط،
يُثبّت الزّجاج في النّافذة
يُركّبَ البابَ في محوره.

هذا لا يبدو جميلاً في الصّورة
ويحتاج سنين طويلة.
كلُّ الكاميرات قد نزحتْ من زمان
إلى حربٍ أخرى.

ثَمّ حاجة للجسور من جديد
ولمحطّات القطار.
ستتمزّقُ الأكمام
من كثرة التّشمير.

أحدٌ ما، يحملُ مكنسةً في يده،
يتذكّرُ كيف كان.
أحدٌ ما يتنصّتُ
ويهزّ رأسَه الّذي لم يُنْزَع من مكانه.
لكنّ البعضَ هناك
يبدأ هذا الشّأن
يُثيرُ المللَ لديهم.

بين الفينة والأخرى، يحفرُ أحدٌ
ما تحتَ شُجَيْرَة
حُججًا قد صَدِئَتْ
ينقُلُها لأكوام الوَرَثَة.

مَنْ كانَ منهم على عِلْمٍ
بما قد حدثَ هنا ولماذا،
يجبُ أن يُفرعُ مكانًا لِمَنْ
كانَ قليلاً ما يعلم.
وأقلّ من قليل،
وأخيرًا، لا شيء.

على الأعشاب الّتي غطّت
الأسباب والنّتائج،
أحدٌ ما يجبُ أن يستلقي
سُنبلةٌ بين أسنانه
ويتأمّل الغيوم.

***


عن الموت، دون مبالغة

هو لا يفهمُ في النّكات،
لا يفهم في النّجوم، في الجسور،
في النّسيج، في حفر المناجم، في فلاحة الأرض،
في بناء السّفُن، وخَبْز الكعك.

عندَ حديثنا عن برامج الغد
يدسّ كلمتَه الأخيرة الّتي
لا علاقة لها بالموضوع.

هو لا يعرفُ حتّى في الأمور،
المتعلّقة مباشرةً بمهنته:
حَفْر القبور،
نقش التّوابيت،
لا يعرفُ التّنظيف وراء نفسه.

غارقٌ في التّقتيل،
يفعل ذلك بكثير من عدم الدّراية،
دونما أسلوب أو خبرة،
وكأنّه يتمرّن، لأوّل مرّة، على كلّ واحد منّا.

الانتصارات هي انتصارات،
لكنْ كم من الهزائم،
والضّربات الّتي أخطأت الهدف
والمحاولات المتكرّرة.

أحيانًا تنقصه القوّة
لإسقاط ذُبابَة في الهواء.
مع غير قليل من الزّواحف
خسرَ المُباراة في الزّحْف.

جميع هذه البصيلات، الأكواز
السّداسيّات، الزّعانف، قصبات التّنفّس،
ريش المُداعبة، فِراء الشّتاء
تشهد على التّأخير
في عمله الجاري بلا مبالاة.

لا تكفي الغرائز المُبيّتة،
وحتّى المُساعدة الّتي نُقدّمها له في الحروب والثّورات
هي، للآن، ضئيلة جدًا.

قلوبٌ تنبض في البَيْض.
هياكل الأطفال تنمو وتكبر.
البُذور، بكدٍّ واجتهاد، تصلُ إلى وُريقتين أولَيين.
أحيانًا إلى شجرتين سامقتين على خطّ الأفق.

مَنْ يظنّ أنّ الموت قادرٌ على كلّ شيء،
فهو بنفسه برهانٌ حيّ،
على أنّه ليس بقادر.

لا يوجد ثَمّ حياةٌ،
ولو لِرمشة عين واحدة فقط،
ليست خالدةً.

الموتُ
دَوْمًا يتأخّر في الرّمشة عينٍ هذه.

سُدًى يهزّ ألأيادي
للأبواب اللاّ مرئيّة.
كلّ ما قامَ به أحدٌ ما
لن يقدر أن يُعيده للوراء.

***


كتابة سيرة حياة

ما المطلوب؟
المطلوب أن تكتب طلبًا
وأنْ تُرفق طيّه سيرة حياة.

ودون علاقة بطول الحياة
على السّيرة أن تكون قصيرة.

تلخيص الحقائق وفرزها أمر ضروري.
إستبدال المناظر بالعناوين
والذّكريات الواهية بتواريخ ثابتة.
من بين جميع قصص الحبّ يجب تسجيل الزّواج فحسب،
ومن الأولاد فقط الّذين قد وُلدوا.

مَنْ يعرفُكَ ذو شأنٍ أكبر ممّن تعرفُهُ.
والسّفرُ فقط إن كان لخارج البلاد.
الإنتماء لـ"ماذا"، لكن ليس لماذا.
شهادات التّقدير دون التّبريرات.

أُكتبْ كما لو أنّك لم تتحدّث مع نفسك أبدًا
وكأنّك التففتَ على نفسك من بعيد.

تجاهل الكلاب، والقطط والعصافير،
الهدايا القديمة، الأصدقاء والأحلام.

السِّعْر وليس القيمة
العنوان وليس المضمون.
رقم الحذاء وليسَ الغاية الّتي يذهبُ
إليها هذا المفروض أن يكون أنت.

مع ذلك يجب إرفاق صورة مع أذنٍ مكشوفة.
شكلها فقط يُؤخذ بالحسبان، ليس ما يُسمَع
ماذا يُسمَع؟
صرير الماكنات الّتي تطحن الورق.

***



نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 13، 1997


Wislawa Szymborska, "Selected Poems", translated by Salman Masalha, Masharef 13, Haifa 1997

حاييم غوري: "خلخال ينتظر الكاحل"، قصائد



حاييم غوري

"خلخال ينتظر الكاحل"

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة



ولد حاييم غوري (Haim Gouri) في تل أبيب في العام 1923، وبهذا يكون قد نشأ وترعرع في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين فكان شاهدًا على ما جرى فيها من أحداث مصيريّة حتّى حصول النّكبة الفسطينيّة وقيام دولة إسرائيل. في العام 1941 إنضمّ چوري إلى كتائب الـ "پلماح" (وهي تعبير عبري مركّب من كلمتين، پْلُوچُوت ماحَتْس، أي الكتائب السّاحقة، أو الصّاعقة)، الّتي حاربت إبّان الانتداب البريطاني قبل قيام دولة إسرائيل، ولاحقًا انخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي حتّى تمّ تسريحه. درس حاييم غوري الأدب في الجامعة العبريّة في القدس، كما درس الأدب الفرنسي في جامعة السّوربون في پاريس. حاز جوائز أدبيّة مختلفة، منها جائزة "بيالك" للعام 1975، ثمّ جائزة إسرائيل للعام 1988.

النكبة الفلسطينية هي نكبة قيادة


سلمان مصالحة

النكبة الفلسطينية هي نكبة قيادة


لن نعود كثيرًا إلى
الوراء لاقتفاء آثار هذه النكبة المتواصلة على الشعب الفلسطيني. فمنذ بداية هذا الصّراع على هذه الأرض لم يَرْقَ الشعب الفسطيني المتشكّل حديثًا على خلفية هذا الصّراع إلى إفراز قيادات ترقى به إلى قراءة دقيقة للعالم من حوله. وعندما أقول قراءة العالم فإنّي أبدأ بالعالم العربي أوّلاً ومن ثمّ سائر القوى الأخرى الفاعلة في هذه المنطقة. فالعالم العربي، الّذي خرج للتّوّ من الاستعمار الغربي، قد دخل فورًا وعلى خلفيّة لعبة القطبين المتشكّلين إثر الحرب العالمية الثانية وقيام إسرائيل في هذا الجزء من العالم، في "حرب باردة" بين هذين القطبين اللّذين صدّراها وأشعلاها "حربًا حارّة" في هذه المنطقة ليكتوي بلظاها أهل هذه البقعة.

وهكذا، سرعان ما بدأنا
نسمع عن ثورة تنشب هنا وثورة تهبّ هناك في مشرق العرب ومغربهم. غير أنّ هذه الثّورات لم تكن ثورات حقيقيّة بقدر ما هي تمرّدات على أنظمة حاكمة هي من مخلّفات المرحلة السّابقة. لقد أوصلت هذه التّمرّدات بعض الضبّاط إلى سدّة الحكم، ليس إلاّ. أيّ أنّها بدّلت استبدادًا واحدًا تقليديًّا باستبداد جديد من نوع أصحاب البزّات العسكريّة والنّياشين الّتي يوزّعونها على صدورهم وصدور المقرّبين المبايعين لهم. وبقدر ما كانت تتّسع مساحة النّياشين المُثبَتَة على صدور العساكر بقدر ما كانت البلاغة التّليدة والبليدة تتّسع اطّرادًا في وسائل إعلام هؤلاء النّفر من البشر مدغدغةً عواطف الجماهير على وقع دوزنات وموازين موسيقيّة وكلاميّة مُغرقة في جهلها وجاهليّتها.

وعلى خلفية هذه البلاغة
الّتي انتُكبَ بها العرب منذ القِدَم، وخلفية النكبة الفسطينية الأولى، وجد الفلسطينيون أنفسهم لقمة سائغة في أيدي هؤلاء العسكر في ساحة شرق-أوسطية شديدة التّناقض هي إحدى أهمّ مناطق العالم، لما تحويه من موارد طاقة حيوية، تتصارع عليها قوى عظمى ذات مصالح لا يُستهان بها. وهكذا أضحت القضيّة الفلسطينيّة ورقة اللّعب الرّابحة بأيدي أنظمة العساكر القائمة حديثًا في الكيانات العربيّة المتشكّلة إثر جلاء الاستعمار عن هذه الأصقاع. فها هو عبد النّاصر، الضّابط الشّاب الّذي وصل إلى سدّة الحكم في مصر، قد صدّق نفسه وصدّق البلاغة العربيّة الّتي أطلقها في خطبه النّارية، وبدل أن يتحكّم هو في البلاغة تحكّمت هذه البلاغة فيه وفي جماهير العواطف الّتي سارت خلفه. وسرعان ما وجد نفسه في مواجهة ما أطلق عليه "حرب سيناء" إثر تأميم قناة السّويس. ولم تمرّ سنوات كثيرة حتّى أرسل عشرات آلاف الجنود المصريّين إلى اليمن في مرحلة "المدّ الثّوري" البلاغي، الّذي رافقه استخدام أسلحة كيماوية ضدّ العرب في جنوب جزيرة العرب.

المهمّ في نظر عبد النّاصر: شكله وهيبته.
والشّكل والهيبة هما من مخلّفات ذات البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة. إنّ الكلام عن اهتمام عبد النّاصر فقط بشكله وهيبته، ليس منّي بل ممّن هو أدرى منّي بشعاب هذه الزّعامات. هذا ما يصرّح به الفريق عبد المحسن مرتجي، والفريق مرتجي عارف ببواطن الأمور فهو قائد القوّات البريّة المصريّة في حرب 67، وهو قائد القوّات في حرب اليمن الّتي سبقتها. وهذا ما يرويه الفريق مرتجي: "كان من المفترض أن نرسل 200 جندي فقط لليمن، من أجل أن يقال إن مصر شاركت في ثورة اليمن. لكن العدد وصل إلي 95 ألف جندي... سافرنا إلي اليمن دون أن نعرف شيئًا عنها ولا عن طبيعتها أو طبيعة الحرب التي سنخوضها، ولم نكن مستعدين لها تمامًا". ويواصل الفريق مرتجي روايته قائلاً: "عبدالناصر كان يرسل أموالاً وذهبًا من خزانة الدولة إلينا حتى ندفعها للقبائل اليمنية، وعندما طلبنا منه الانسحاب من اليمن لأن الخسائر أصبحت كبيرة، قال: مش ممكن ننسحب، آور پريستيج هيضيع". ويلخّص الفريق مرتجي توصيفه لحال عبد النّاصر بأنّه "لم يكن يهتم سوى بشكله وهيبته فقط أمام الدول العربية، حتى لو كان هذا على حساب الدولة." (نقلاً عن: "المصري اليوم"، 23 أبريل 2008).

وبعد أن ضاع "پريستيج" عبد النّاصر
في اليمن، أخذ يبحث لنفسه عن پريستيج عربي جديد في مكان آخر. هكذا دخلت "قضيّة فلسطين" على الخطّ، وهكذا تمّ إنشاء منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في مؤتمر القمّة العربي الّذي دعا إليه عبد النّاصر في العام 1964. في هذا المؤتمر تمّ تكليف أحمد الشّقيري بالاتّصال بالفلسطينيّين وكتابة تقرير عن ذلك، وفي المؤتمر التّالي من ذات العام قدّم الشّقيري تقريره عن إنشاء المنظّمة، والتأكيد على الجوانب التّعبويّة والعسكرية والتّنظيمية لتحرير فلسطين، ووافق المؤتمر على التّقرير وأقرّ الدّعم المالي للمنظّمة.

وهكذا، ومنذ العام 1964 
بدأت العلاقات تتوتّر مع إسرائيل. وكما يروي الفريق عبد المحسن مرتجي ذاته عن ملابسات حرب 67، فإن عبد النّاصر "لم يكن صاحب فكر سياسي ولا اقتصادي وأنه لم يكن يختلف عن الملك كثيرًا، وكان لا يسمع سوى صوته... كان مقتنعًا بأن إسرائيل تخاف منه، ولن تدخل في حرب لهذا قام بإرسال قوات إلى شرم الشيخ، وأمر بإغلاق القناة، لأنه كان يتصور أن إسرائيل لن تدخل الحرب، وسيصبح هو بطلاً في نظر الدول العربية... عبدالناصر لم يدرس الحرب لا من النواحي السياسية ولا العسكرية ولا الاقتصادية، ولا من حيث العلاقات الدولية أو التأثير المعنوي علي الشعب المصري، كذلك لم يقم بدراسة الجانب الإسرائيلي، وكل القادة لم تتوفر لهم معلومات من أي نوع". (نقلاً عن: المصري اليوم)

وهكذا دخل العرب مجتمعين
في طور النّكسة. أثّرت النّكسة على المنظّمة الفلسطينيّة وظهرت الخلافات في صفوفها ما أدّى إلى تقديم الشّقيري استقالته. وبعد أن كان الحديث يدور عن الـ 48 وحلّ مشكلة اللاّجئين وجد العرب أنفسهم متحدّثين عن الـ 67 وإزالة آثار العدوان و"لاءات الخرطوم"، وما إلى ذلك. كما انبرى كالعادة شعراء العرب واستلّوا ألسنتهم حتّى أصابت أرانب أنوفهم مكيلين الصّاع صاعين بالأشعار متباكين على حال العربان، وكان ما كان.

ومرّت الأيّام
وظهر عرفات في مقدّمة القيادة الفسطينيّة. منذ البداية كان عرفات يؤمن باستقلالية القرار الفلسطيني، وهو أمر لم تكن ترضاه زعامات الجوار العربي. ومنذ البداية كانت علاقات عرفات متوتّرة مع نظام البعث السوري، فقد زجّ هذا النّظام بعرفات ورفاقه في السّجن في العام 1966. إنّ قيادة عرفات النّزقة للنّضال الفلسطيني، إضافة إلى انعدام استراتيجيّة واضحة للنّضال الفلسطيني واستفراده بالقرار الفلسطيني دفعته ودفعت الفلسطينيّين في أماكن تواجدهم في دول الجوار إلى تصادمات، بدءًا بأيلول الأسود في الأردن، مرورًا بلبنان والحرب الأهليّة، وانتهاءً بدعمه لصدّام إبّان غزو الكويت، وهي أمور جلبت الكوارث على الفلسطينيّين الّذين كانوا في غنى عنها. ورغم كلّ هذه الكوارث بقي عرفات في رأس الهرم الفلسطيني إلى أن زجّ بالفلسطينيّين في نفق أوسلو، لإنقاذ قيادته، وإقامة السلطة الفلسطينيّة الّتي اتّسمت أكثر ما اتّسمت به بالشّكليّات، وفوق كلّ ذلك بالفساد الكبير، ما أدّى في نهاية المطاف إلى تذمّر فلسطيني واسع.

هكذا ظهرت حماس
فأعادت الفلسطينيّين إلى المربّع الأوّل. مرّة أخرى تعود القيادات الفلسطينيّة إلى ذات البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة الّتي تستعطف الجماهير العربيّة ناسية تجربة عقود طويلة وفاشلة على هذه التّجربة البلاغية. مرّة أخرى ترهن هذه القيادات مصير الفلسطينيّين وتضعه في أيدي أنظمة هي الأسوأ على جميع الأصعدة، إذ أنّه لا همّ لهذه الأنظمة سوى مصالحها الضّيّقة في البقاء في الحكم. وهي أنظمة على استعداد أن تحارب إسرائيل حتّى آخر فلسطيني، مثلما فعلت وتفعل في لبنان، من أجل هذه المصالح. التّناقضات الّتي تتحكّم في العالم العربي أكثر من أن تُحصى، ولذلك فإن الشّعب الفلسطيني الّذي عانى ما فيه الكفاية لا يستطيع أن يراهن على هذا العالم العربي لأنّه سيواجه الخيبة تلو الخيبة.

آن الأوان
لظهور قيادة فلسطينيّة حكيمة تعرف قراءة العالم من حولها، تتحدّث بصراحة إلى شعبها وتعرف الحديث بلغة العالم كي يتعاطف العالم مع قضيّتها. آن الأوان لطرح البلاغة والأساطير جانبًا، والدّخول في التّاريخ المعاصر. إنّ اللّغة الّتي يفهمها العالم اليوم هي دعوة العالم لدعم الفلسطينييّن لانهاء كامل للاحتلال الإسرائيلي، وقيام دولة فلسطينيّة كاملة السّيادة في الضفّة والقطاع بما فيها القدس الشرقيّة، واعتراف متبادل بين فلسطين وإسرائيل وإنهاء حالة الصّراع بدعم من العالم العربي والعالم أجمع. أمّا ما دون ذلك فسيجرّ الكوارث تلو الكوارث.

والعقل ولي التوفيق!

***
 إيلاف، 1 يناير 2009


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!