ماذا نرى من حولنا؟ لا شكّ أنّ كلّ عربيّ يملك ذرة من بصر أو بصيرة يجد نفسه مُضطرًّا إلى مواجهة التساؤلات إيّاها. فأين هي ”دول العصابات؟“ وأين هي ”الكيانات المزعومة“؟
هل ”دودنا من عودنا“؟
احتفلت إسرائيل هذا الأسبوع بيوم استقلالها السابع والستين. ليس من السهل التطرّق إلى هذا الحدث في صحيفة عربية. لأنّ مجرّد ذكر اسم إسرائيل في الفضاء العربي يثير الكثير من الأحاسيس. فخلال كلّ هذه العقود الماضية قد ارتبط اسم إسرائيل في مخيّلة الأجيال العربية باسم فلسطين ونكبتها. كم من الحبر سُكب، وكم من ساعات البثّ كُرّست للكلام عمّا أطلق عليه ”قضيّة العرب الأولى“؟
لم يكن التلفّظ باسم إسرائيل سهلاً على ألسنة العرب، بدءًا بالزعامات، مرورًا بأبواق تلك الزعامات وانتهاءً بمن يُطلق عليهم مصطلح ”مثقّفين“. أحيانًا كان يُكتب اسم ”إسرائيل“ بين هلالين تعبيرًا عن محاولة لنفض اليدين من واقع يراه الكاتب على الأرض. ثمّ تحوّل التعامل مع هذا الواقع إلى شكل من المنافسات البلاغية في الخطاب العربي، فذهب البعض إلى مرحلة أبعد من مجرّد وضع الهلالين، فصار مجرّد ذكر اسم إسرائيل محرّمًا في شرع الكتابة العربية واستُبدل بمصطلح ”دولة العصابات“، ثمّ ازدادت حمية التّنافس في الخطاب البلاغي العربي فانضاف إلى هذه السلسلة مصطلح جديد هو ”الكيان المزعوم“. كلّ هذه الـ”مكابرات“ في الخطاب العربي لم تنته، فحتّى يومنا هذا لا زالت قائمة، وقد انضافت إليها تسميات أخرى، مثل: ”دولة شاذّة“، أو ”دولة مصطنعة“.
جدير بالذكر في هذا السياق أنّه عندما قامت إسرائيل، لم يكن عدد الدول العربية يتجاوز أصابع اليدين، أمّا في هذا الأوان فقد فقست المنطقة عددًا لا بأس به من صيصان الدول العربية ”المصطنعة“ هي الأخرى، لقد بلغ العدد أصابع اليدين والرجلين معًا، بل وأزيد من ذلك. أليست كلّ دول المنطقة هذه، بل وكلّ دول العالم المعاصر مصطنعة أيضًا؟
وهكذا، وبينما كانت رؤوس مروّجي الخطاب العربي مدسوسة في الرمال، واصلت إسرائيل ترسيخ جذورها في المنطقة، وفي الجانب الآخر استمرّ خطاب الجنوح إلى دغدغة العواطف وتجييشها في تثبيت كواتم العقول على رؤوس النّاس. في الحقيقة، لم يكن التلفّظ باسم فلسطين وقضيّتها، أو ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة“ وما شابه ذلك، سوى وسيلة لدى الزعامات العربية للهرب من حقائق هذه الكيانات العربية ”المزعومة“ هي الأخرى بالطبع. لاحظوا هذه المفارقة، حيث إنّ مصطلح ”الزعامة“ مشتقّ من ذات الأصل اللغوي العربي.
وهكذا، مرّت الأعوام وراء الأعوام. وها نحن الآن بعد حوالي سبعة عقود من الزمان. لقد ولدنا، شببنا وترعرعنا في هذه البقعة من الأرض. فماذا نرى من حولنا؟ لا شكّ أنّ كلّ عربيّ يملك ذرة من بصر أو بصيرة يجد نفسه مُضطرًّا إلى مواجهة التساؤلات إيّاها. فأين هي ”دول العصابات؟“ وأين هي ”الكيانات المزعومة“؟
فقط لمجرّد جرد حساب بسيط: ”اليمن السعيد“ يبدو اليوم أكثر تعاسة ممّا كان قبل ”استقلاله“. ليبيا، وهي ”كيان مزعوم“ أيضًا عادت إلى أصلها وفصلها القبلي السابق للدولة. ”الكيان العراقي المزعوم“ تفتّت إلى مكوّناته الطائفية والإثنية، ”الكيان السوري المزعوم“ هو الآخر تفتّت واندثر فيه الحجر والشجر والبشر في بحر من الدماء ومن جرائم ”الممانعة“، ولن تقوم له قائمة في المستقبل المنظور.
أمّا عن لبنان، فحدّث ولا حرج. فلبنان هذا، على صغره مساحة وعديد سكّان، لا يستطيع انتخاب رئيس له. إذ كيف يستطيع هذا ”الكيان المزعوم“ أن ينتخب رئيسًا؟ ففي لبنان كلّهم زعماء: الرئيس ”فلان“ والرئيس ”علاّن“ وكلّهم ”رئيس“ في لبنان. لقد ولد هذا الكيان طائفيًّا، يعيش طائفيًّا وسيقضي نحبه طائفيًّا. فلكلّ طائفة زعيم وكلّ طائفة تنتخب زعماءها إلى يوم يندثرون.
أمّا عن فلسطين، وهي أيضًا ”كيان مزعوم“، على غرار إسرائيل وسائر دول المنطقة، من فحدّث ولا حرج. فمنذ سنوات أيضًا بدأ يترسّخ كيانان على الأرض، واحد في غزّة وآخر في طور التشكّل في الضفّة الغربية. وهكذا، وبعد عقود طويلة يكتشف الفلسطينيّون في هذا الأوان أن قضيّتهم ليست ”قضيّة العرب الأولى“، كما إنّ نكبتهم ليست أكبر من ”نكبات“ العرب الأخرى. فها هي ”سورية الكبرى“ أضحت اسمًا لنكبة أكبر من نكبتهم، بل وتضعها في الظلال.
وهكذا وصلنا إلى وضع تلحّ فيه لكلّ عربيّ قضيّته، وكلّ يغنّي على ليلاه، والأصحّ: كلّ يغنّي على ويلاه.
إذا جنحنا إلى التأمّل فيما يجري من حولنا في هذه المنطقة، نرى أنّ الكيانات الأكثر تماسكًا هي كيانات ليست عربية، وهي كيانات قويّة ومتطوّرة، بدءًا من إيران، مرورًا في تركيا وانتهاءًا بهذا ”الكيان المزعوم“ بنظر العرب، والمسمّى إسرائيل بنظر العالم.
فماذا نقول في توصيف أحوالنا: هل ”دودنا من عودنا“، كما تقول العامّة؟
*
نشر: ”الحياة“، 23.4.2015
For English, press here
0 تعليقات:
إرسال تعليق