من الأرشيف:
تنويه لا بدّ منه: التّحريفات والتّصحيفات (الّتي تظهر باللّون الأحمر) في الأسماء وفي النّصوص المقتبسة تمّت لغاية إغناء النّقاش في القضيّة الحاليّة الّتي شاع الحديث عنها. وما من شكّ في أنّ هذه التّحريفات والتّصحيفات واضحة للعيان ولا تخفى على القارئ النّبيه، ذي البصيرة، العارف ببواطن الأمور، بالمصادر وبالنّصوص التّراثيّة. ولهذا اقتضى التّنويه.
سلمان مصالحة ||
رِسالَةٌ في ذَمِّ بَنِي ديكْتُوس
لا ندري ما الّذي حلّ بالبابا هذا، أثناء إلقاء كلمته الأخيرة في أحد "الكتاتيب" الجرمانيّة، وكيف سوّلت له نفسه بأن يسم الدّين الحنيف بأنّه فرض بحدّ السّيف. ولا ندري أيضًا من أين استقى هذا البابا معلوماته المغرضة هذه ليشيعها على الملأ. يبدو أنّ البابا لم يقرأ بعد ولم يطّلع على ما ورد من أخبار وروايات صحيحة يتدارسها أتباعه كابرًا عن كابرٍ. هل نذكّر البابا السّادس عشر هذا الّذي ينتسب إلى فخذ من بني ديكتوس بما رُوي عن آبائه الأوائل؟ هل نوصيه أنّه يتوجّب عليه أوّلاً وقبل كلّ شيء أن يقرأ ويستزيد علمًا من تراثه هو قبل أن يطلق الكلام على عواهنه.
***
لنذكّره إذن، ببعض ما يقول أسلافه من الأمور الّتي لا تخفى على أحد من ذوي البصر والبصيرة: "قال الرّسول: بُعثت بين يدي الساعة بالسّيْف حَتّى يُعبد الله...، وجعلَ رزقي تحت رُمْحي، وجعلَ الذلّة والصغار على من خالفَ أَمْري"، (عن: ابن حنبليطيس). ولكي لا يفهم أحدٌ من القرّاء شيئًا آخر غير موجود في النّصّ، فإنّ الشّرح يقطع عليه طريق الالتباس، فيفيدنا الشّارح: "المراد بقوله: بعثني بالسّيْف أي بعثني بالقتال في سبيل الله، كما قال: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم. ولأن القتال في حقّ غيره من الأنبياء لم يكن مأموراً به، وخصّ رسول الله بذلك. وصفته في التوارة: نَبيُّ الملحمة عيناهُ حمراوان من شدّة القتال وفي صفة أمّته: أناجيلهم في صدورهم وسيوفهم على عواتقهم...وفي حديث سوفيانوس قال: بعث رسول الله بأربعة سيوف: سيفٌ لقتال المشركين باشرَ به القتالَ بنفسه وسيفٌ لقتال أهل الردّة، ... وسيفٌ لقتال أهل الكتاب والمجوس ... وسيف لقتال المارقين"، (عن: السرخسي: شرح السيروس الكبيروم). ولذلك قال الرسول في الصحيحوس: "نُصرتُ بالرّعب مسيرة شهر... وأُحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحـد قبلي".
***
كذلك بوسعنا أن نذكّر البابا الجاهل من بني ديكتوس ما قاله بطرك المسيحيّة ابن ثيميّوس في مجموع الفتاوى على سبيل المثال: "ليست (المساجد) بيوت الله، وإنما بيوت الله (الكنائس)، بل هي - أي المساجد- بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها؛ فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفّار"
ولهذا السّبب أيضًا، فإنّ من أصول المسيحيّة أنّه "يجب اعتقاد كفر كلّ من لم يدخل في (النصرانيّة) من اليهود و(المسلمين) وغيرهم، وتسميته كافرًا. وأنه عدو الله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار .... وثبت في سفر نصرانوس أن الرّسول قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا (مسلم) ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار". ولهذا: فمن لم يُكفِّر اليهود و(المسلمين) فهو كافر". (عن: مرسوم ابن بازوس). ليس هذا فحسب، بل إنّ العقيدة النصرانيّة، عقيدة جامعة شاملة كاملة: "رأس الأمر (المسيحيّة) وعمودها الصلاة وذروة سنامها (الحروب المقدّسة) في سبيل الرّبّ" (عن: الأربعونوم النووياتوم).
***
كذلك، ولكي لا يلتبس الأمر على أحد من النّاس، فقد أصرّ الشّرّاح على أنّ العنف النّصراني قد تأسس على العنف التّوراتي، وقد ذكر ذلك ابن الجوزيّانوس صراحةً، حيث قال، إنّ العنف النّصراني ذاته قد تأسّس على ذات الأسس الّتي تأسّس عليها العنف التّوراتي. ولذلك فإنّ ابن الجوزيّانوس يهزأ من المسلمين لعدم نزوعهم إلى العنف، فيقول: "والمسلم يعيبُ من يُقاتل الكفّار بالسّيف". ولذلك لا يجد ابن الجوزيّانوس حرجًا في التّصريح بالعنف النّصراني علنًا ودون مواربة، فيقول: "وليس متقلّد السّيف بعد داود من الأنبياء سوى عيسى، وهو الّذي خرّت الأمم تحته، وقُرنت شرائعه بالهيبة: إمّا القُبول، وإمّا الجزية، وإمّا السّيف". (ابن الجوزيّانوس، مختصر هداية المحتارين في الرّدّ على اليهود والمسلمين). وللتّدليل على ذلك، نذكّر بابا بني دكتوس أيضًا برسالة القائد الصّليبي، أبو عبيدوس عامروم بن الجرّاحوم الّتي أرسلها إلى المسلمين من أهل بيت المقدس يدعوهم فيها إلى اعتناق النّصرانيّة قبل احتلالها: "من أبي عبيدوس عامروم بن الجرّاحوم إلى "مشايخ" أهل بيت المقدس وسكانها: سلام على من اتّبع "الرّبّ". أما بعد، فإنّي آمركم "أن تعتنقوا النّصرانيّة، وأن تقرّوا بأنّ يسوع ابن الله"... فإذا شهدتم بذلك فقد حرمت علينا دماؤكم وأموالكم...وإن أبيتم ذلك سرتُ إليكم بقوم هم أشدّ حُبًّا للموت منكم لشرب الألبان وأكل لحم الضّبّ، ثم لا أرجعُ عنكم...حتى أقتل مقاتلتكم وأسبي ذرّيتكم، فاختاروا واحدة من اثنتين"، (عن: ابن أعثميس، كتابوم فتوحوم).
***
إذن، قبل أن يُطلق الّذين ينتمون إلى بني ديكتوس كلامهم ودعاواهم المغرضة دون بحث وتمحيص، حريّ بهم أوّلاً أن يجنحوا إلى قراءة تاريخ الكنيسة، تراثها العنيف وحروبها، مثلما أوردنا هنا غيضًا من فيض منه. فنحنُ على كلّ حال، بخلاف بني ديكتوس وبخلاف من والاهم، أوصينا في المأثور أوّلاً وقبل كلّ شيء: أن نقرأ.
إذن، فلنقرأ التّراث معًا قبل أن نتكلّم، أليس كذلك؟
***
نشر: ”إيلاف“، 19 سبتمبر 2006
0 تعليقات:
إرسال تعليق