الأحد، 24 مايو 2015

علينا أن نتصارح لكي نتصالح



سلمان مصالحة ||

 
علينا أن نتصارح لكي نتصالح -

المتابع من أبناء جلدتنا لما يجري في هذا العالم الواسع يجد نفسه أمام ظاهرة فريدة. فلو نظرنا إلى ما يحصل من أحداث نرى أنّ القاسم المشترك بينها هو أنّ غالبيّتها هو مواقع وقوعها الجغرافية. إذ نرى أنّها تحدث في الأصقاع التي توصف بانتمائها إلى العالمين العربي والإسلامي.


يمكن تقسيم هذه القلاقل إلى صنفين. فالصنف الأوّل منها هو داخلي وله علاقة بطبيعة وتركيبة هذه المجتمعات الإثنية والقبلية، والصنف الآخر هو قلاقل تحصل مع اتّصال هذه المجتمعات بمحيطها الأبعد، أي بنقاط تماسّها مع العالم الخارجي، العالم الآخر الذي ينماز عنها اجتماعيًّا، حضاريًّا وسياسيًّا.

هنالك، بالطبع، من يفضّل اختيار أسلك وأسهل الطرق لدى الحديث عن هذه القلاقل فينحو إلى عزو أسبابها إلى عوامل تقع خارج منظومته الاجتماعية والحضارية. فمرّة يعزو كلّ هذه المآسي إلى مؤامرات الاستعمار وإلى أحابيل القوى العظمى التي تستهدف هذه الأصقاع العربية والإسلامية ومواردها، إلى آخر ما تستنبطه قريحته البلاغية من أوصاف لهذه الأحابيل التي تُحاك في خفاء الأروقة الغربية.

في سياق العالم العربي، يمكن القول إنّ هذا الصنف من التحليلات تتفتّق عنه قرائح تيارين اثنين هيمنا على الحياة العربية منذ عقود طويلة، أي منذ خروج هذه الكيانات السياسية من الهيمنة الاستعمارية. فالتيار الأوّل أدمن على التشدّق بالقومية العربية، بالوحدة والاشتراكية وسائر الكلام المعسول الذي طغى على فضاءاتنا السمعية، والتيّار الآخر هو الإسلامي الذي يهزأ أصلاً من كلّ هذه الكيانات الوطنية وينظر بمنظار إسلاموي أممي عابر لهذه القوميات والوطنيات. أي، بكلمات معسولة من نوع آخر صدرت من مرشد الإخوان المصري واختُصرت بمقولته الشهيرة: ”طزّ في مصر“.

غير أنّ الخطابات الأيديولوجية المعسولة الموجّهة إلى الرأي العام شيء وحقيقة ما جرى وما يجري في الواقع هو شيء آخر مختلف تمامًا. بل ربّما يمكننا القول إنّ الخطاب الأيديولوجي العربي العابر للوطنيات الضيّقة الذي شنّف آذاننا طوال عقود كان كاذبًا أصلاً، ولم ينبع من إيمان عميق بهذه المقولات الرنّانة المدغدغة للعواطف. ما من شكّ في أنّ وراء أكمة هذه الشعارات العاطفية كانت ثمّة أمور خفيّة تعود جذورها إلى المواضي الغابرة التي لم تفلح في أن تتحرّر منها مجتمعات هذه الكيانات حتّى يومنا هذا.

كمثال على نرمي إليه، بوسعنا أن نطرح سؤالاً واحدًا. كيف يمكن أن نفسّر، على سبيل المثال، أنّ الأيديولوجية البعثية القوموية ذاتها التي اغتصبت السلطة في كلّ من سورية والعراق لم تنفّذ على أرض الواقع أيًّا من الشعارات الرنّانة التي شنّفت بها آذاننا طوال عقود؟ كيف ذا لم تسلك هذه الأيديولوجية ذاتها طريق الوحدة بين ”الأشقّاء“ وإنشاء كيان عربيّ يمحو حدود الخرائط الاستعمارية بينهما؟ لا مناص الحقيقة على الملأ، والحقيقة هي أنّه وبخلاف كلّ تلك الشعارات القوموية لدى شطري هذا البعث فإنّ العداء بينهما كان أكثر حدّة من الخلافات القائمة مع كيانات عربية أخرى. بل وأبعد من ذلك، فقد ظهرت حقيقة هذا الشرخ المتجذّر بين الكيانين في أبرز صورها حينما انضمّ نظام الأسد الأب إلى التحالف الأميركي الغربي الذي شنّ الحرب على نظام البعث الصدّامي التكريتي بعد غزو هذا الأخير للكويت. هكذا، ذهبت كلّ الشعارات القوموية الطنّانة التي تغنّى بها شطر البعث القرداحي أدراج الرياح.

كذا هي الحال أيضًا مع التيّار الأيديولوجي الآخر، ونعني به تيّار الإخوان المسلمين، ومع كلّ تفريخاته المحلية في هذا الصقع العربي أو ذاك. فعلى الرغم من الأيديولوجية العابرة للوطنيات التي يتأسّس عليها، فقد لاحظنا أنّه لم يفعل شيئًا لدى وصوله إلى السلطة في غير مكان من أماكن سيطرته. فهذا التيّار يؤمن بـ“طزّ في مصر“، والذي اعتلى سدّة الحكم بعد ربيع ميدان التحرير المصري لم يقم بإلغاء الحدود بينه وبين النظام الإخواني في السودان. بل وأبعد من ذلك، فقد واصل تنفيذ سياسة الحصار المفروضة على قطاع غزّة، حيث تسيطر حماس على مقاليد الحكم. وللتذكير فقط، فحماس هذه هي فرخ من تفريخات حركة الإخوان المسلمين إيّاها.

نقول كلّ ذلك، دون أن نتحدّث عن الشرخ العقائدي الديني الأكبر في الإسلام ذاته بين السنّة والشيعة. وهو شرخ تظهر مضاعفاته على الملأ في العقود الأخيرة بأبشع صورها، متمثّلة بتفجير المساجد والحسينيات على المصلّين من هذه الفئة أو تلك على طول وعرض العالم الإسلامي، دونما اعتبار لأيّ قيم أخلاقية.

هذا ما يراه المتابع للأحداث في هذا العالم العربي والإسلامي. وإذا كان هنالك من يعزو كلّ ذلك إلى مؤامرات الغرب وما شابه ذلك، فهنيئًا له بهذه الطمأنينة الذهنيّة. بالطبع، لا ينكر أحد وجود مصالح للدول في هذه المنطقة من العالم، مثلما أنّ لهذه المنطقة مصالح في سائر العالم. هذه طبيعة العلاقات بين المجتمعات البشرية، غير أنّ الركون إلى طمأنينة المؤامرات الخارجية هو جزء من مشكلة أهل هذه المنطقة. إنّها محاولات متواصلة وبائسة للهرب من محاسبة الذّات، وللهرب من إجراء حساب نفس جذري مرتبط بكلّ المنظومات الاجتماعية والثقافية والدينية والطائفية التي أضحت كواتم عقول على أهل هذه الديار.

وخلاصة القول، فقط بابتداء الخطو في طريق النّظر إلى أنفسنا بالمرآة، وفقط بالبدء بمحاسبة الذّات يمكننا أن نسلك سواء السبيل للشفاء من أمراضنا المزمنة. وبجملة واحدة: يجب علينا أن نتصارح لكي نتصالح، ليس مع أنفسنا فقط بل مع العالم من حولنا.
*

نشر: الحياة، 23/5/2015



مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

خريف أميركي - بوسطن (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع