ما الذي يشغل الأجيال العربية الناشئة؟

سلمان مصالحة ||
ما الذي يشغل الأجيال العربية الناشئة؟

أتابع بين الفينة والأخرى استطلاعات الرأي التي تُجرى في هذا البلد أو ذاك. ولأنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال، فإنّي أميل إلى متابعة هذه الاستطلاعات في البلاد العربية. وبالرغم من مساحات الخطأ في هذا النوع من الأبحاث الميدانية، إلاّ أنّها تبقى إحدى الوسائل الهامّة للوقوف على بعض الأمور التي يتوجّب على المهتمّين، وخاصّة أصحاب القرار، أن يضعوها نصب أعينهم.

لقد لفت انتباهي في الآونة الأخيرة استطلاع شامل جرى في 16 بلدًا عربيًّا، تمتدّ من شمال أفريقيا إلى شرق المتوسط وانتهاء بمنطقة الخليج. لقد نُظّم الاستطلاع بين شريحة عمريّة شابّة بين 18-24 سنة، وتمحور حول عدّة قضايا جوهرية تواجه المجتمعات العربية.

تكشف لنا نتائج هذا الاستطلاع أمورًا مفاجئة تتعلّق باهتمامات وقلق هذه الشريحة من الأجيال العربية الشابّة. إذا أخذنا بالحسبان أنّ نسبة هذه الأجيال من العديد السكاني العربي هي النسبة الأعظم، ما يعني بالأعداد عشرات الملايين في بلد مثل مصر، أو مئات الملايين على مساحة العالم العربي بأكملها، فإنّ النتائج تشكّل ضوءًا أحمر أمام المسؤولين وصنّاع لقرار وأمام الباحثين عن حلول جذرية للقضايا الملحّة لدى هذه المجتمعات العربية. إذ أنّ هذه الشريحة العربية هي في نهاية المطاف عصب الكيان العربي، بدءًا بالوطني المحلّي ومن ثمّ العام على مستوى العالم العربي، في المستقبل المنظور.

مع بداية الهبّات الشعبية التي اجتاحت أقطارًا عربيّة شتّى كان التفاؤل كبيرًا لدى الأجيال العربية الشابّة، حيث عبّرت الأغلبية الساحقة عن ثقتها بإمكانية حصول تغيير وانتقال من حال العيش تحت أنظمة استبدادية إلى حياة في أنظمة ديمقراطية. وها هو الاستطلاع الجديد يكشف لنا عن تهاوي هذه الأحلام العربية من هذه الهبّات التي لم تأت بجديد. وهكذا، ففي العام 2012 رأى حوالي أربعين بالمئة من المستطلعين أنّ غياب الديمقراطية هو العقبة التي تقف حجر عثرة أمام تقدّم المجتمعات العربية فإنّ هذه النسبة قد تقلّصت إلى خمسة عشر بالمئة في العام 2015. وهذا يعني أنّ أبناء هذه الشريحة من الأجيال العربية الشابّة قد فقدت ثقتها بمجتمعاتها وبأنظمتها. ولمّا كانت هذه الشريحة هي أغلبية المجتمعات فإنّ هذا يعني أيضًا أنّها فقدت ثقتها بنفسها وبقدرتها هي على إحداث التغيير المنشود.

وإذا كان هنالك من يعتقد أنّ قضية التهديد النوي الإيراني هي العقبة الكبرى التي تواجه الشرق الأوسط، أو أنّها الشغل الشاغل للأجيال العربية فإنّ نتائج هذا الاستطلاع تُظهر أنّ هذه القضية تقع في ذيل الاهتمامات سويّة مع قضيّة تكافؤ الفرص للمرأة الغربية، حيث بلغت نسبة من يرون ذلك عقبة في الطريق ثماني بالمئة فقط. ليس هذا فحسب، بل حتّى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي قد يظنّ البعض أنّه قضية العرب الأولى، كما يشيع في الخطاب الثقافي العربي، ليس كذلك بالمرّة، إذ يأتي في المرتبة الرابعة بوصفه عقبة تعترض طريق الشرق الأوسط. لقد أظهر الاستطلاع أنّ الأجيال الشابّة ترى في تنظيم ”داعش“ وفي خطر الإرهاب، ثمّ مسألة البطالة كالقضايا الملحّة والعقبة التي تعترض طريق هذه المنطقة.

وهنالك قضيّة لا تقلّ أهميّة عمّا سبق، وهي تتعلّق بمسألة اللغة العربية ونظرة الأجيال العربية نحوها. فعلى الرغم من الشعور بأهمية اللغة بوصفها إحدى الركائز الأساسية للهوية العربية إلاّ أنّ أكثرية المستطلعين يرون أنّ هذه اللغة قد بدأت تفقد أهميّتها في صفوف هذه الأجيال. بل وأكثر من ذلك، فهنالك الكثيرون منهم يستخدمون الإنكليزية بدل العربية في حياتهم اليومية. وكانت نسبة مستخدمي الإنكليزية في دول الخليج هي الأعلى حيث تجاوزت الخمسين بالمئة. كما عبّر حوالي ثلثي المستطلعين عن عدم ثقتهم بقدرة حكوماتهم على صون مكانة اللغة.

وفوق كلّ ما ذكرنا أعلاه، فإنّ غالبية الأجيال العربية تفضّل العيش خارج بلدانها، وفي البلاد الغربية على وجه التحديد. وكما أسلفنا، فإذا أخذنا بالحسبان أنّ هذه الشريحة هي في الواقع ما سيشكّل صلب المجتمعات العربية في العقود القادمة، فإنّ الحال يُرثى لها.

هذه النتائج هي أكثر من مجرّد أضواء حمراء تنتظر هذه المجتمعات. إنّها صفّارات إنذار يجب أن تطرق مسامع الحريصين على مستقبل البشر في هذه البقعة من العالم. إنّ هذه النتائج تعني أنّ هذه البقعة لن تشهد استقرارًا لعقود طويلة في المستقبل.
 

فهل من سميع وهل من مجيب يضع الخطط للخروج من هذه المآزق، ومواجهة هذه التحدّيات؟
___
* استطلاع أصداء بيرسون-مارستيلر. استطلاع لرأي الشباب العربي 2015

نشرت: ”الحياة“، 7 مايو 2015 

أيضًا في: "شفاف الشرق الأوسط مصر العربية
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!