سلمان مصالحة
النّظام العربي الجديد
هل يمكن الوصول إلى صيغة سياسيّة واجتماعيّة تنظّم الحياة العربيّة للخروج من المآزق المتواصلة التي تجد النظم والشعوب العربيّة نفسها فيه طوال عقود، إن لم نقل قرونًا طويلة؟ ثمّ، هل هنالك نيّة حقيقيّة بالوصول إلى صيغة من هذا النّوع؟ وهل العراق الجديد، بعد أن يخرج من قبضة الاحتلال، يمكن أن يشكّل نموذجًا يُقتدى به؟
من جهة واحدة، من الواضح أنّ التّراث السياسي العربي لا يمنحنا مثالاً نستطيع أن نضع إصبعنا عليه بحيث يكون قدوة يسير على هديها النّظام السياسي العربي. ولكن، من الجهة الأخرى فإنّ الذين يدعون إلى الأخذ بما أفرزته الحضارة الغربيّة طوال قرون يتجاهلون حقيقة وطبيعة بناء المجتمعات العربيّة وتاريخها السّياسي.
فلو أخذنا العراق مثالاً، نستطيع أن ندسّ رؤوسنا في الرّمال وأن نطلق الشّعارات على عواهنها في محاولة لإرضاء نفوسنا من خلال عدم التقرُّب إلى المرآة، رغبة منّا في عدم رؤية التّجاعيد التي تملأ وجهنا العربيّ الأبيّ. وهكذا، ومن خلال هربنا هذا، نركن إلى طمأنينة أوهامنا بجمالنا الخالد على مرّ الزّمن. نستطيع رفع شعارات مثل الشّعب العراقيّ الواحد دون النّظر بجدّيّة إلى التّركيبة السكّانيّة التي يتألّف منها هذا الشّعب الواحد، وما ينطبق على العراق، ينطبق على جلّ البلدان العربيّة.
الّذين يرون أنّ العراقيّ عراقيٌّ مثلما أنّ الفرنسيّ فرنسيٌّ، يتناسون طبيعة المجتمع العراقيّ التّعدّديّة إثنيًّا وطائفيًّا ودينيًّا. فالكرديّ العراقيّ مثلاً، هو كرديّ قبل أن يكون عراقيًّا، وهكذا الشيعيّ والسّنيّ والتركمانيّ والأشوريّ إلى آخره، بينما الفرنسيّ يرى نفسه فرنسيًّا قبل أن يكون أيّ شيء آخر. وإذا أخذ البعض بالعروبة فما بالهم بمن ليسوا عربًا في المشرق »العربيّ« ومغربه؟
إذن، والحال على هذه التّعقيدات، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، ما هي أسلك الطّرق للوصول إلي صيغة مُرضية للحياة المشتركة وللبناء المشترك؟
الحدود التي ارتسمت في البلاد العربيّة هي حدود سياسيّة لم يرسمها العرب أنفسهم وكثير من الكيانات السّياسيّة العربيّة لا تستند إلى قاعدة وطنيّة ثابتة. غير أنّ العالم اليوم يتعامل مع كيانات سياسيّة ولا يتعامل مع طوائف وإثنيّات عابرة للحدود. من هنا، فإنّ العراق الجديد، إذا رغب أهله في أن يشكّلوا نموذجًا يُحتذى حذوه في هذه المنطقة من العالم يجب أن ينبني على الحدّ المدنيّ ليس إلاّ. إذ أنّ هذا الحدّ هو الوحيد الّذي يمكن أن يلتفّ حوله بنو البشر المختلفون إثنيًّا ودينيًّا.
فالعربيّ العراقيّ الّذي يدعو إلى وحدة التّراب العراقيّ يجب عليه أن يستوعب فكرة أن يكون كرديّ رئيسًا للعراق، وإلاّ ستبقى دعوته فارغة من أيّ مضمون. وهكذا فيما يخصّ السنّيّ والشّيعي إلى آخره. ولكن، لا يمكن لهذه التّصوّرات أن تبقى في عداد النّوايا الحسنة فحسب، بل يجب أن تتأسّس على دستور مدنيّ واضح يقبل به الجميع.
من هنا، فإنّ فصل الدّين عن الدّولة هو المبدأ المؤسّس لعراق يمكن أن يكون جديدًا وقدوة بكلّ معنى الكلمة. ولأنّنا نعرف أيضًا الطّبيعة القبليّة الدّينيّة في هذه المنطقة من العالم، لا يمكن أيضًا أن تبقى الأمور غامضة. فمن أجل أن تتضائل أو تختفي مخاوف المجموعات السكّانيّة المختلفة يجب أن ينصّ الدّستور الجديد على تداول الرّئاسة بين الشّيعة والسنّة والأكراد، بحيث لا يبقى أيّ رئيس لأكثر من فترتين رئاسيّتين. هكذا يعرف الكرديّ العراقيّ أنّه جزء من العراق الجديد يأتي دوره بالرئاسة منتخبًا من قبل كلّ العراقيّين، وكذا الشيعيّ والسنّيّ. قد لا يكون هذا التّصوّر مثاليًّا، ولكن متى كان الوضع العربيّ مثاليًّا؟ الأوان الآن هو أوان التأسيس لحياة مدنيّة من نوع آخر بها يطمئنّ العراق لوحدة أراضيه وكلّ فئات شعوبه وطوائفه، ويعيش غنيًّا بأرضه وثقافاته ليشكّل نموذجًا يقتدى به في هذا المشرق. يمكن أن يُعاد النّظر في دستور من هذا النّوع بعد مرور قرن من الزّمان، وبعد أن تتجذّر الهويّة المدنيّة الواحدة بعيدًا عن الفوارق الدّينيّة والقوميّة. ولمن يبحث عن طريقة حكم أخرى، فهنالك أيضًا ملكيّة محدودة دستوريّة على غرار الملكيّات الدّستوريّة الأوروپيّة وهي على كلّ حال، وكما يعلم الجميع، فيما يخصّ المواطنين في تلك البلدان ليست سيئة بالمرّة.
_____
نشرت في: الحياة اللّندنيّة، 12 مايو 2003
ترجمة الحياة الإنكليزيّة اضغط هنا
إقرأ أيضًا:
أفكار معروضة للسرقة - مانيفست لنظام عربي جديد
___________________
0 تعليقات:
إرسال تعليق