سلمان مصالحة
ما نحنُ؟
إنّه سؤال يراود الكثيرين منّا في مشارق العرب ومغاربها. الإجابة عليه ليست
بالأمر السّهل، كما قد يظنّ البعض. لقد نشرت هذه المجموعة من المقالات في
السّنوات الأخيرة في الصّحافة العربيّة في الوطن والمهاجر. لقد اخترت هذه
المقالات من بين عشرات المقالات لوضعها هنا في هذه الصّفحة لأنّها ورغم كونها
مقالات سيّارة، غير أنّ التّساؤلات الّتي تثيرها لا زالت راهنيّة.
إنّها تطرح تساؤلات ولا تدّعي طموح الوصول إلى إجابة واضحة، صافية ووافية.
إنّها علامات على الطّريق بوسع القارئ أن يتوقّف عندها، ينظر في ما تحمله من
إشارات لمواصلة طريقه على هذه البقعة من الأرض الّتي ننتمي إليها جميعنا.
الشكّ هو منبت السؤال، والسؤال هو أوّل الطّريق إلى اليقين، واليقين لا يتأتّى
إلاّ بالعقل. وفي نهاية المطاف،
العقل وليّ التّوفيق.
***
البحث عن طريق ثالثة
في البلاد الّتي تتّبع النّظام الدّيمقراطي، حيث يتمّ فيها تداول السّلطة عبر
صناديق الإقتراع، يمكن من النّاحية المبدئيّة وضع الأنظمة والشّعوب في هذه
البلاد في سلّة واحدة. إذ أنّ الشّعوب تنتخب ممثّليها وحكوماتها بشكلّ حرّ
تقريبًا، والقضيّة هي قضيّة نسبيّة في النّهاية إذ يمكن استبدال الحكومات
دوريًّا كلّ بضع سنوات إذا شاء النّاخب ذلك طبعًا. ورغم ما قد يُنسَب إلى
النّظام الدّيمقراطي من جوانب سلبيّة أحيانًا، إلاّ أنّ المجتمع البشري على
العموم لم يصل بعد إلى صيغة مدنيّة أفضل من هذه الصّيغة. والواضح أيضًا هو أنّ
البلاد الّتي تتّخذ هذا النّهج هي البلاد الّتي تتطوّر على جميع الأصعدة. وإذا
نظرنا إلى العالم من حولنا نرى أنّ الصّيغ الأخرى قد أثبتت فشلها في جميع
المجالات وفي جميع البلدان. ولـمّا أنّا مهمومون بالأقربين، وهم أولى بالمعروف
كما ورد في الكلام المأثور، فيعرف الجميع أنّّه لم يتمّ تبنّى النّهج
الدّيمقراطي في أيّ من بلاد العرب.
هنالك أسباب كثيرة لهذا الوضع المأساوي، غير أنّنا يمكن أن نُجمل هذه الأسباب
في نهجين اثنين كلاهما يوصل إلى طريق مسدودة. النّهج الأول هو النّهج القبلي
العربي وهو سابق للإسلام ومناقض له في جوانب كثيرة. فقد حاول الإسلام منذ
البداية القضاء على هذا النّهج فأفلح مدّة وجيزة فقط، ولكن سرعان ما ثارت
النّعرات القبليّة المتجذّرة في المجتمعات العربيّة التي قبلت الإسلام. نستطيع
أن نسمع أصداء هذا التّوتّر القائم بين النّهجين وهي تتردّد منذ فجر الإسلام
على لسان الرّسول العربيّ: »من كان في قلبه حبّة من خردل عصبيّة بعثه اللّه يوم
القيامة مع أعراب الجاهليّة«. من هذه الأقوال ومن غيرها لاحقًا نفهم أنّه سرعان
ما وجدت هذه النّعرات القبليّة طريقها إلى الفقه السّياسي فجيّرته لصالحها،
وصار الصّراع على الخلافة صراعًا قبليًّا بحتًا مدعومًا بروايات صحيحة ومدسوسة
من قبل علماء القبائل، فتجذّرت بذلك العقيدة القبليّة وصارت جزءًا لا يتجزّأ من
العقيدة الدّينيّة في المجتمعات الإسلاميّة. وعلماء القبائل هؤلاء في الماضي لا
يختلفون في عصرنا هذا عن علماء دور الإفتاء السّلطويّة في الممالك والجمهوريات
الوراثية العربيّة.
القرون الماضية لم تشهد ثورة حقيقيّة في الفكر العربي الإسلامي، بل على العكس
من ذلك فقد استمرّ النّهجان في توتير المجتمعات العربيّة، بحيث يُحيّدُ كلّ نهج
منهما الآخر وتبقى الشعوب العربيّة في خانة الجمود والرّكود لا تستطيع الفكاك
منها. في حال كهذه، آن الأوان للبحث عن طريق ثالثة، ولكي يُكتب لهذه الطّريق
النّجاح عليها أن تكون نابعة من صميم المجتمعات العربيّة والحضارة الإسلاميّة.
لا يمكن استيراد هذه الطّريق من مكان آخر، بل يجب على النّخب العربيّة بلورتها
من داخل المجتمع العربي والإسلامي.
من أجل الوصول إلى هذه الطّريق واجب على النّخب الفكريّة العربيّة العلمانيّة
واللّيبراليّة أن تدعو إلى تعميق دراسة التّراث العربي والإسلامي، وأن لا تبقيه
حكرًا على المشيخات. هنالك حاجة قصوى لدى العلمانيين واللّيبرالبيين أن يغرسوا
في الأجيال العربيّة الجديدة معرفة عميقة عن الإسلام الحضاري، أي إلى تعميق
المعرفة بكلّ الأطياف العقائديّة والفلسفيّة دون حذف وشطب، أو إعمال رقابة على
هذه الأطياف الكثيرة والمتنوّعة. في الحضارة الإسلاميّة الكثير الكثير ممّا
يدفع العقل إلى التّحرّر من كلّ ما هو متخلّف فكريًّا، وفيها الكثير من الفلسفة
والمنطق والكلام، وفيها الكثير من التّناقضات أيضًا، وكلّ هذه هي الحضارة
العربيّة، ولا فضل لواحدة على الأخرى، أي لا فضل للنّقل على العقل.
الملاحَظ في العقود الأخيرة أنّ الأجيال العربيّة الجديدة لا تقرأ الإسلام
إنّما تسمعه عبر أشرطة وتسجيلات وما إلى ذلك من إسلام شعبي وفولكلوري. يجب
التأكيد على القراءة المتعمّقة لجميع الأطياف في الحضارة العربيّة الإسلاميّة،
إذ أنّ بداية هذه الدّعوة المتجدّدة يجب أن تكون: اقرأ. إذ أنّ القراءة هي
تفعيل للعقل بينما الإستماع للتّسجيلات ومشاهدة الشّاشات هي تخبيل لهذا العقل
تصل درجة التّهبيل.
ومع هذه الدّعوة إلى تعميق المعرفة بالحضارة العربيّة الإسلاميّة يجب أن يُضاف
إليها دعوة أخرى هي الدّعوة إلى فصل الدّين عن الدّولة في البلاد العربيّة.
هنالك نقطة في غاية الأهميّة تخصّ العالم العربيّ، ودون التّطرّق إليها بوضوح
وجهرًا لا يمكن الوصول إلى إجابات وافية. الحكّام العرب أجمعين ليسوا بأيّ حال
من الأحوال علمانيّين، كما قد يزعم البعض، بل على العكس من ذلك. إنّهم في
قرارات أنفسهم يمتازون بعقدة نقص أمام كلّ ما هو دينيّ أو يمتّ إلى الدّين
بصلة. خلال عقود من الزّمن، لم تأت هذه الأنظمة القوميّة العربيّة بأيّ نتائج
ملموسة يشعر بها الفرد العربي. لا الديمقراطيّة جاءت مع هذه الأنظمة ولا
الإزدهار الإقتصادي. خلال عقود من الزّمن القومي تمّ القضاء على كلّ ما هو
منفتح في حضارة العرب. لقد تركت هذه الأنظمة متنفسًا واحدًا لكلّ أولئك الّذين
يبحثون عن مخارج من هذا الوضع. هذا المتنفس الوحيد هو الدّين والمساجد. ولكون
الحكّام مرضى بعقدة النّقص هذه أمام الدّين ورجاله، فقد وجد كلّ معارض للسّلطات
أنّ في المساجد متاريس تقيه من عسف السّلطة. وهكذا انحرفت كلّ المعارضات
العربيّة تقريبًا إلى المساجد، أو إلى الهجرة القسريّة إلى البلدان الغربيّة
بينما الحكّام المستبدّون، الّذين لا يُستبدلون، يسيطرون على وسائل الإعلام
وكنوز الشّعوب ومصائرها المشؤومة.
بالإمكان الخروج من هذا المأزق، لكن من أجل ذلك يجب على النّخب العربيّة أن
تتحمّل مسؤوليّتها الأخلاقيّة تجاه شعوبها، تجاه الإنسان العربيّ المغلوب على
أمره. يكفي أن نذكّر كلّ هؤلاء بأقوال علي بن أبي طالب: »إنّ اللّه يعذّب طوائف
ستًّا بأمور ستّة: أهل البوادي بالعصبيّة وأهل القرى بالكبر والأمراء بالظّلم
والفقهاء بالحسد والتّجّار بالخيانة وأهل الرّساتيق بالجهل«. وما أقوال عليّ بن
أبي طالب هذه سوى تعبير حيّ عن حال العالم العربي الميّت في هذا العصر.
نشرت في إيلاف
***
ميكروكوسموس
في بحر هذا العام تطرّقت في أكثر من مناسبة إلى إشكاليّات الهويّة الّتي هي من
نصيبنا نحن العرب في هذا المشرق. وقد ذكرت في مقالة سابقة حدّيْن اثنين هما من
مميّزات الشّعب الواحد. الحدّ الأوّل هو حدّ الحياة، والحدّ الثّاني هو حدّ
الممات. أي أنّه حينما لا يقبل أبناء ما يُسمّى لدينا بالشّعب الواحد لا
الشّعبين بحدّ الحياة المشتركة بين أفراده من رجال ونساء، وإنّما تبقى هذه
القضيّة منحصرة في أبناء الطّائفة الواحدة فلا يمكننا إلاّ أن نبدأ بالتّشكيك
في هذه المقولات. حيث أنّ حدّ الحياة المشتركة يقتصر على أبناء الطائفة الواحدة
على أساس دينيّ مذهبيّ. وإذا كُنّا نشهد في بعض الأحيان خروجًا على هذه القواعد
فإنّ هذا الخروج ما زال هو الشّاذّ الّذي يؤكّد على القاعدة. أمّا الحدّ
الثاني، حدّ الممات، فهو أيضًا لا يختلفُ عن الحدّ الأوّل، بل ربّما هو مغلق
بصورة أكثر إحكامًا وليس عنه خروج بأيّ حال من الأحوال. فهل يمكننا أن نتحدّث
عن شعب واحد إذا كُنّا نفصل بين أفراد »الشّعب الواحد« بعد أن يقضوا نحبهم. هل
هنالك مقبرة واحدة تجمع أبناء الشّعب الواحد دون النّظر إلى الخلفيّة الدينيّة
الّتي ينتمي إليها الفقيد. الجواب معروف لديكم. كُنتُ قد أثرت هذه القضيّة في
الماضي، ولكنّها لم تلاق أيّ ردود فعل، لأنّي أعتقد أنّ القائمين على اتّخاذ
خطوات عمليّة لذلك يخشون حتّى من إدراج هذه المسألة على بساط البحث.
ولكنّ القضيّة أعمق حتّى من ذلك بكثير. وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة
العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة،
حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية. وفي الكثير من الإحيان يتّضح أنّ
التّعريفات المعهودة لا تنطبق على الشّعوب العربيّة، وهنالك حاجة إلى إعادة
النّظر في كلّ هذه الطّروحات الّتي لم تفِ بما غاءت إليه. بل في الكثير من
الأحيان نقرأ ونسمع عن أمور تقلب جميع هذه المفاهيم رأسًا على عقب. فهل نواجه
هذه الحقائق بكلّ ما نملك من صراحة أم سنستمرّ في دسّ رؤوسنا في الرّمال؟
والمثال الّذي سأورده هنا هو الاستطلاع الّذي جرى في كفر برا قد جاء ليؤكّد كلّ
ما أرمي إليه من طروحات.
فماذا جرى في كفر برا؟
نشرت صحيفة كلّ العرب في الأسبوع الفائت خبرًا مفاده أنّ المجلس المحلّي في
كفر برا قد أجرى مؤخّرًا استفتاء لاستطلاع الرأي حول السّماح للسيّد عصام أبو
حجلة، وهو من سكّان جلجوليّة ومتزوّج من امرأة من سكّان كفر برا، بالسّكن في
قرية كفر برا على قطعة أرض كانت السيّدة المذكورة قد ورثتها من أهلها. لقد
اشتمل الاستفتاء على الأسئلة التّالية الّتي سأعيد ذكرها هنا لأهميّة ما تنطوي
عليه: فالسؤال الأوّل: هل توافق على دخول الغرباء لقرية كفر برا؟ والسؤال
الثاني: هل توافق على عودة نساء كفر برا المتزوّجات خارج القرية مع أزواجهنّ؟
والسّؤال الثالث: هل يشمل هذا عصام أبو حجلة؟
أمّا النتائج فكانت كالتّالي: 188 صوتًا ضدّ السّماح له بالسكن في كفر برا،
بينما صوّت تسعة أشخاص فقط لصالحه، وامتنع ثلاثة عن الادلاء برأيهم.
هل يمكننا أن نمرّ على كلّ هذا مرّ الكرام؟ أم أنّ واجبنا رفض جميع هذه
الظّواهر واقتلاعها من جذورها. بنظرة أولى، يبدو أنّ المجلس المحلّي في كفر برا
قد خرق القانون في تصرّفه هذا وما على السيّد عصام أبو حجله إلاّ أن يقدّم شكوى
ويقاضي مجلس كفر برا أمام القانون.
ولكنّ القضيّة ليست قضيّة قانونيّة فحسب. وإنّما القضيّة الجوهريّة هي قضيّة
الهويّة القوميّة بشكل عام. ولو كانت القضيّة محليّة لما تطرّقنا إلىها، ولكنّى
أعتقد أنّ هذه المسألة هي مسألة جوهريّة تستقي من جذور عميقة ضاربة في التّاريخ
العربيّ. لذلك، فكفر برا في هذه القضيّة هي ميكروكوسموس يمكننا من خلاله النّظر
بجديّة إلى هذه القضيّة وأبعادها العامّة الّتي تمكّننا من التّعرف على حقائق
مزمنة في المشرق والمغرب العربيين. يتّضح ممّا جرى في كفر برا أنّه حتّى
الخلفيّة الدّينيّة لا تكفي للهويّة، فلا شكّ أنّ السيّد عصام أبو حجلة مسلم
دينًا، كما أنّه على ما أعلم فإنّ كفر برا هي قرية إسلاميّة كذلك، بل وأكثر من
ذلك فإنّ رئيس مجلسها هو من الحركة الإسلاميّة على ما أظنّ. ولكن وعلى الرّغم
من ذلك لم تكفِ هذه الحقيقة لكي يتشكّل جمهور واحد، بل برزت إلى السّطح تلك
النّعرات القبليّة المتحكّمة في الذّهن العربيّ والّتي لم يُفلح بعد منها
فكاكًا. فإذا كانت هذه هي الحقيقة بين أفراد طائفة واحدة، فكم بالحريّ لو أنّ
السيّد عصام أبو حجلة كان مسيحيّا أو درزيًّا. أنتم تعرفون الإجابة.
في الأسئلة الّتي طُرحت على سكّان كفر برا تكمن الإجابة على جميع ما أرمي
إليه. فالهويّة الأكثر تجذّرًا في الذّهن العربيّ هي الهويّة القبليّة الّتي لم
تقو المبادئ الدينيّة حتّى على اقتلاعها. فمصطلح »الغرباء« الّذي اشتمل عليه
الاستطلاع في كفر برا ينسحب على كلّ من ليس مواطنًا من القبائل الّتي تتألّف
منها قرية كفر برا بالولادة، حتى وإن كان من أبناء نفس الشّعب ونفس المعتقد
الديني. والوجه الآخر لهذه العملة المهترئة هو أنّ جمهور النّساء بعد الزّواج
يخرج خارج حدود القبيلة وبذلك يفقد حقّه في الانضواء تحت راية الشّعب الواحد
والبلد الواحد. هكذا تتحوّل المرأة إلى قبيلة أخرى تفقد حقّها حتّى في العيش في
مسقط رأسها مع زوجها وأولادها.
إزاء كلّ هذه الحقائق الآنفة الذّكر، هل يمكننا أن نستمرّ في التّصريح بوحدة
الشّعب. الحقيقة هي كما ترون. وكفر برا لا تختلف عن سائر القرى والمواقع في هذا
المشرق العربيّ. بعد ما جرى في كفر برا فإنّ الحديث عن هويّة واحدة لشعب عربيّ
واحد سيكون مجرّد هراء في هراء. أمّا إن كان لديكم تفسير آخر فهاتوه.
نشرت في: كلّ العرب، النّاصرة: 1994
***
ظواهر الشّرف وبواطن القرف
لمّا كان الإنسان العربيّ لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة
الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي
حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة.
والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في
مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه
النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة
وطائفيّة.
في الكثير الكثير من الأحيان نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن
الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن
يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من
الأقنعة الشفّافة والكاذبة.
والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث،
ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض
العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع
أفرادها منذ سنّ مبكّرة.
وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع
العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل
فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة
المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع
مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف
نابعين من ذاته.
وحينما يكون الرّجل العربيّ بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول
الحفاظ عليهما في الـ»آخر« الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي
يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة
أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو
العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة
ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في
الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك
فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل
العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي
القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف
الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل،
والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه،
ليس من جنسه.
والدّجل السّافر في هذا الموضوع، هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل
شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ»أنا« القبليّة. أي أنّ الرّجل
العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة.
وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات
النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل
شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف
والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها
فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول
الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة
الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ»ليس منه« هو هذه الحلقة القبليّة
الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.
ليس صدفة أن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا
العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل
على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات
العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.
هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على
أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات
يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا
التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي،
في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من
المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا
تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا
تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟
المجتمعات العربيّة بحاجة إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من
أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى
ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت
على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة،
بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة
الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.
قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط
الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا
الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله.
فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى
الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة
الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة
ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه
الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء
كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا
التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من
المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة،
هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة
الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة
بنوع من التفهّم.
وهذا الرّجل العربيّ المكبوت نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة
والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط
التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان
العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك
علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه.
فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.
والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين
ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى
الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا
بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة
عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم
في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.
إنّ تحرير الرّجل العربيّ من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر،
وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن
الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين
بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه
الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى
العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.
نشرت في: كلّ العرب، النّاصرة: يوليو 1994
***
شعب واحد أم تشعّبات؟
قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة
هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على
حقيقته. ربّما كانت جميع هذه الشّعارات تعبّر عن مطمح ما لرافعيها، لكنّ إطلاق
الشّعار شيء وما يجري على أرض الواقع هو شيء آخر مغاير تمامًا إن لم يكن يقف في
نقيض مدلولات هذه الشّعارات.
كما نستطيع، نحن العرب، على سائر مللنا ونحلنا، التّرويج إلى ما لا نهاية لهذه
المقولات الّتي تنفع لوسائل الإعلام مستندين إلى دعامة البلاغة العربيّة
الواضحة. غير أنّ البلاغة وحدها لا تكفي ولم تكن في أيّ آن لتكفي من أجل بلورة
مجموعة سكّانيّة تُطلق على نفسها اسم الشّعب الواحد.
ثمّ، هل بوسعنا، نحن أصحاب الأقلام العرب تطليق النّهج القديم من التّفكير
الّذي كان همّه الوحيد تملّق الرأي العام وتملّق الشّارع بغية الرّكوب على موجة
مؤقّتة ما تلبث أن تتحطّم على شواطئ الواقع الّذي نعيش فيه. هل بوسعنا إثارة
التّساؤلات الحقيقيّة وعرض الأمور كما هي دون محاولة تجميلها بوسائل مصطنعة.
ثمّ هل تكفي تلك المساحيق ومستحضرات التّجميل للتّستّر على وجهنا الدّميم إلى
حدّ الشّناعة. ثُمّ ألم يأت الأوان لكي ننظر كلّ في قرارة نفسه إلى كلّ هذه
الأوبئة الّتي تنخر عظامنا دون أن نجد ما يكفي من الشّجاعة لكشف هذه
الشّناعة.
ومجتمعنا هذا مليء بالأوبئة الاجتماعيّة غير أنّنا لا نزال ندسّ رؤوسنا في
الرّمال ظانّين أن العالم لا يرى ولا يعي ما يجري بين ظهرانينا. فالعنف ضدّ
الأولاد وضدّ النّساء يكاد يملأ كلّ حارة وكلّ بيت، والاعتداءات الجنسيّة داخل
العائلة الواحدة بدأت تتكشّف رويدًا رويدًا. وبدل البحث في الجذور الّتي توصل
إلى هذه الأوضاع، نستمرّ في رفع شعارات الشّهامة الزّائفة. قد يظنّ البعض أنّ
الاحتلال هو السّبب لكلّ هذه الظّواهر، غير أنّ الحقيقة غير ذلك. كلّ من يلقي
مسؤوليّة هذه الأمور على عاتق الاحتلال وعلى عاتق الإمپرياليّة وعلى عاتق
التّلفزيون هو في الحقيقة لا يريد النّظر إلى قرارة نفسه، كما لم يعقد النيّة
على تغيير شيء من مفاهيمه الزّائفة الّتي لا ترتكز على شيء سوى البلاغة، وفي
الحقيقة فإنّ الصّمت المطبق حول كلّ ما يتعلّق بهذه الظّواهر هو في النّهاية
ينصبّ في خانة المسؤوليّة عن هذا الوضع.
لقد حاول الإسلام منذ نشأته القضاء على العقليّة القبليّة المتجذّرة في الذّهن
العربيّ، ولفترة ما قصيرة أفلح في الوصول إلى مجتمع ودولة بلغت من الازدهار
مبلغًا كبيرًا، ولكن ومع مرور عقود قليلة من الزّمن، وفي الحقيقة منذ اللّحظة
الأولى لوفاة الرّسول العربيّ، ثارت من جديد تلك النّوازع القبليّة الأمر الّذي
أدّى في النّهاية إلى انحطاط الدّولة.
لم يتغيّر شيء في الذّهن العربيّ منذ الجاهليّة الجهلاء. فالوحدة السياسيّة
الفاعلة في هذا المجتمع لا تزال إلى يومنا هذا هي وحدة القبيلة، والعشيرة،
والحمولة والعائلة. أيّ أنّ ما يميّز العلاقات بين النّاس هو ذلك الرّباط
القبليّ الّذي لم يستطع المجتمع العربيّ الفكاك منه حتّى الآن. وإذا كانت هذه
هي الحال فكيف بنا إذا نظرنا إلى تلك التّشعّبات المرتكزة على أساس مذهبّي
ديني.
خلال عقود من الزّمن يعيش العرب الفلسطينيّون داخل إسرائيل، ودون النّظر إلى
الوضع الّذي يعيشون فيه، لكن هنالك إشارة لا بدّ منها. وهي أنّ هؤلاء استمرّوا
في العيش ضمن هذه الحدود القبليّة والطّائفيّة، وما تلك النّزاعات الطّائفية
والعائليّة القائمة في القرى والبلدات العربيّة داخل إسرائيل سوى مؤشّر على أنّ
القبليّة هي جزء من هذا الذّهن الّذي شلّ أصحابه.
وإذا ظنّ البعض أنّ الوضع في المناطق المحتلّة أفضل من ذلك فهو على خطأ فادح.
إنّ من يتصفّح الصّحف الفلسطينيّة الصّادرة في المناطق المحتلّة لا شكّ أنّه
يلاحظ تلك الإعلانات العشائريّة الّتي تملأها. والسّؤال الّذي يتبادر إلى
الأذهان لماذا لم تستطع الانتفاضة خلال عقد من الزّمن خلق مجتمع واحد. ثمّ أليس
من حقّنا أن نتساءل كيف آل الوضع لدى هذا الشّعب إلى إفراز عشرات الآلاف من
العملاء، وهي ظاهرة فريدة لم تحصل لدى شعوب أخرى وبهذه النّسبة.
السّبب في ذلك هو أنّنا نفهم معنى الشّعب على أنّه القبيلة ليس إلاّ، ولذلك
فالتّضامن مع القبائل الأخرى هو بمثابة تضامن مع شعوب أخرى. وهذا التّضامن يخضع
فقط للمصالح القبليّة الضيّقة. فكيف بنا إذن، إذا تحدّثنا عن طوائف دينيّة
مختلفة.
خلال عقود طويلة قدّم »الشّعب« الفلسطيني قافلة طويلة من الشّهداء على مذبح
نضاله من أجل حرّيته. وهؤلاء الشّهداء جاؤوا من جميع القبائل والطّوائف الّتي
يتألّف منها الشّعب الفلسطينيّ. وعلى الرّغم من هذه الحقيقة لم يُفلح الشّعب
حتّى في لحظات الموت في خلق هويّة جديدة تعبّر عن هذه الفسيفساء التّعدديّة، بل
وبدل ذلك كان يُدفن كلّ شهيد في مدافن القبيلة والطّائفة.
ولهذا أريد أن أؤكّد هنا أنّه قد آن الأوان إلى إيجاد مقبرة للشّهداء تضمّ
الشّهداء دون فرق وتمييز في المعتقد الدّيني، وفقط من خلال ذلك يمكن الوصول إلى
شعب واحد متجانس. وإن لم يحصل ذلك فسنظلّ في الطّور القبليّ ولن تغيّر
الشّعارات الطنّانة شيئًا من هذا الواقع.
إنّ طبيعة الشّعب الفلسطيني المتكوّن من طوائف وملل مختلفة تفرض طريق
العلمانيّة عليه، وبغير هذه الطّريق لن يصل إلى سواء السّبيل. وفوق كلّ ذلك يجب
وضع الفرد في مقدّمة الأولويات، ذلك الفرد الخارج عن الإطار القبليّ والطّائفي.
هذه فقط هي طريق الشّعوب الّتي سيكتب لها البقاء.
نشرت في: الحياة الجديدة، رام اللّه، 9 يناير 1995
***
حريّة عبادة لا حريّة إبادة
إنّ الدّعوة الّتي أطلقها بسام أبو شريف في الأيّام الأخيرة والّتي تتلخّص
بحظر نشاط الحركات الإسلاميّة في مناطق السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة هي دعوة
جريئة يجدر الوقوف عندها قليلاً والتّفكّر في أبعادها.
هنالك أمور كثيرة نهج رجال الفكر العرب عدم التّطرّق إليها خلال العقود
الماضية من قيام الدّولة/الدّول العربيّة الحديثة، بعد انحسار الاستعمار. لقد
شكّلت الأنظمة العربية المستحدثة إطارًا قمعيًّا بدل أن تكون إطارًا يخلق في
أجوائه الإنسان العربيّ الجديد. فلم تكن طبيعة تلك الأنظمة إلاّ طبيعة قبليّة
تستمدّ قوّتها من تلك الّنزعة الضّيّقة الّتي لا تضع الإنسان الفرد في مقدّمة
أولوياتها، بل ينصبّ كلّ همّها في الحفاظ على امتيازات الحاشية القريبة، من
عسكر قبليّين ومن زمرة الموالي الموالين.
فمن جهة، ولمّا كانت جميع هذه الأنظمة لم تقدّم لأفراد شعوبها لا الإزدهار
الاقتصادي، ولا الحريّات فقد سحبت البساط من تحت أرجلها. ومن جهة أخرى لمّا لم
تقم بفصل الدّين عن الدّولة فقد تركت الباب مفتوحًا أمام كلّ معارض للوصول إلى
المساجد، وهكذا تحوّلت المساجد إلى مخرج وحيد لكلّ من يودّ التّعبير عن
استيائه، وفي نفس الوقت يرغب في البقاء على قيد الحياة بعيدًا عن غياهب غرف
وسجون الأنظمة.
وهكذا، رويدًا رويدًا، وللتّدهور الخطير الّذي صار من نصيب الشّعوب العربيّة
المغلوب على أمرها، بدأت تخرج شرارات العنف من داخل المساجد. وهكذا وكأنّ شيئًا
لم يتغيّر عاد بنا هؤلاء إلى مقولات من عصور عربيّة غابرة. ولهذا تستغلّ
الحركات الإسلاميّة كلّ ذلك لتطلق على الأوضاع العربيّة الرّاهنة مصطلح
»الجاهليّة الجهلاء«. وقد يكون في بعض تلك المقولات بعض الصّدق ولكنّ البدائل
الّتي تتطرحها تلك الحركات هي بدائل غيبيّة لم توصل الأمّة العربيّة ولا في يوم
من الأيّام إلاّ إلى هزائم.
وهكذا، بدأ ينصبّ اهتمام تلك الحركات على العنف الجسديّ، ويكفي ما نرى وما
نسمع عما يجري الجزائر ومصر وغيرها من الأصقاع العربيّة لكي نتوقّف قليلاً
ونفكّر في أوضاعنا. لقد انتقلت العبادة من المسجد إلى الشّارع لتلبس عباءة
الإبادة الجسديّة والرّوحيّة. هذا ما يجري في الجزائر من تصفيات لأدباء
ومفكّرين وصحفيّين، وهذا ما حاوله أولئك في مصر بدءًا بفودة وانتهاءً بمحاولة
اغتيال نجيب محفوظ.
حينما تتحوّل المساجد، وللأسباب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحضاريّة، إلى
لجان مركزيّة لأحزاب سياسيّة فإنّها بذلك تنفي أيّ انتماء آخر لأيّ فرد آخر
مسلمًا كان أو غير مُسلم، ومن هنا تصبح الطّريق إلى التّصفية الجسديّة
قصيرة.
وما الّذي فعله المفكّرون العرب، باستثناء قلّة قليلة، إزاء كلّ ذلك؟ لا شيء.
فبدل أن يشكّلوا بوصلة أخلاقيّة لشعوبهم، تحوّلوا بفضل الأموال الّتي تُغدق
عليهم، وفتات الاحترامات الّذي يُنثر على هاماتهم المُطأطئة، إلى قطعان تردّد
مكارم أخلاق الحكّام التّعسّفيّين في جوقة لا تحول ولا تزول. وخلال كلّ ذلك
كانت السّجون تمتلئ بكلّ من حاول التّصريح بالحقائق الدّامغة، والشّعوب ترزح في
مجاعات ولم يبقَ لديها سبيل سوى التّفريخ الّذي يضاعف تلك المجاعات.
ومن هنا، فإنّ الدّعوة الّتي أطلقها بسام أبو شريف هي دعوة مهمّة، ويجب أن
يرافقها تصوّر جديد للأوضاع الفلسطينيّة. فالحركات الإسلاميّة لا تعير أيّ
اهتمام لقيام دولة وطنيّة، بل على العكس من ذلك فإنّها ترى في الدّولة عدوًّا
لدعوتها، ومن هنا ولمّا كان الشّعب الفلسطينيّ يبحث عن حرّيته وعن استقلاله
تأتي تلك الحركات لتعيق طريقه، وهذا ما هو حاصل على أرض الواقع على الرّغم من
كلّ التّعقيدات الّتي تواكب الوضع الفلسطينيّ.
لقد كنت في الماضي نوّهت بالطّبيعة التّعدّدية الطّائفيّة للشّعب الفلسطينيّ،
ولمّا كانت هذه هي طبيعة الشّعب فليس ثَمّ من طريق غير طريق العلمانيّة أمام
هذا الشّعب إذا ودّ الحياة. ولهذا فإنّ السّبيل إلى الوصول إلى مجتمع فلسطينيّ
متجانس تمرّ عبر طريق فصل الدّين عن الدّولة. إنّ حريّة العبادة هي حقّ لكلّ
إنسان لا يمكن أن ينفيها عنه أيّ شخص. لكنّ حريّة العبادة يجب ألاّ تتحوّل بأيّ
حال من الأحوال إلى حريّة إبادة. ولهذا فإنّ الحظر الّذي يجب أن يصدر فيترتّب
عليه أن يكون حظر استخدام الدّين للأغراض السياسيّة، وبكلمات أخرى حظر الأحزاب
السياسيّة الّتي تستخدم الدّين برنامجًا سياسيًّا لها. لأنّ الدّين في النّهاية
هو للّه بينما الوطن للجميع.
ألا هل بلّغت.
نشرت في: الحياة الجديدة، رام اللّه، 30 يناير 1995
***
عن الوحدة العربيّة
قد يظنّ البعض أنّ مفهوم الوحدة العربيّة هو التّكاتف الّذي يجمع أبناءها.
لكنّ الحقيقة أنّ مفهوم الوحدة هو شيء آخر، وهو في الواقع نقيض لهذا المفهوم
السّائد. إنّ أهمّ ما يميّز الشّعوب المتطوّرة هو جعل الفرد في مقدّمة
الأولويات. لكنّ الوضع العربي العام والفلسطيني على وجه الخصوص هو بخلاف ذلك
تمامًا. ولكي يفهم القارئ العربيّ إشكالات هذا الوضع فهو ليس ملزمًا بالبحث
والتّمحيص كثيرًا، بل بدل ذلك، ما عليه إلاّ أن يلتقط مثالاً صغيرًا من بيئته
القريبة، فكلّ مثال يضع إصبعه عليه بوسعه من خلاله أن يخرج بنظريّة تلائم الوضع
العربيّ من المحيط الفاتر إلى الخليج الخاسر.
في القديم تحدّث الفلاسفة عن الإنسان بصفته عالمًا صغيرًا، أي ميكروكوسموس
للعالم أي الكون -الكوسموس- الكبير. ومن هنا، فإنّ كلّ قرية عربيّة أو مدينة في
هذا الوطن إنّما هي ميكروكوسموس أو عالم صغير يمكننا إذا أمعنّا النّظر فيها أن
نشاهد العالم العربيّ بأكمله.
يحاول بعض النّاس أحيانًا - ولا أستثني نفسي من ذلك - أن يتشبّث بحبال الرّيح
معدّدًا الكرّات الكثيرة من الجماهير العربيّة، معلّلاً النّفس بإمكانيّة قيام
وحدة عربيّة لها ميراث عريق ومستقبل زاهر، وهي طفرة يحاول من خلالها أن يسبح في
فنطازيا من عالم آخر. لكنّ الحقيقة أنّ هذه الآلاف المؤلّفة والملايين
المُليّنة من الأعراب ما هي إلاّ أمر خيالي لا يستند إلى أيّ أساس على أرض
الواقع، لأنّ إجراء حساب بسيط يثبت بطلان هذه النّظرة.
فكيف، إذن، نجري هذا الحساب؟
أوّلاً، لنفترض أنّ ثَمّ عددًا معيّنًا، ولنقل مائتي مليون من العرب في هذا
العالم. فهل هذا العدد هو عدد حقيقيّ أم أنّه مجرّد وهم؟
الإجابة على ذلك بسيطة. إنّه وهم كبير طالما ربينا عليه، وآن الأوان إلى فضحه.
فكيفَ نفضحه إذن؟
إذا افترضنا أنّ ثَمّ عددًا متساويًا من الرّجال والنّساء فالحساب البسيط يكون
مائة مليون رجل، ومثال ذلك من النّساء. ولمّا كانت المرأة في الوطن العربيّ
معطّلة عمليًّا، أو هي كالعضو المشلول في الجسد، فلا يمكن حسابها بأيّ حال،
إلاّ فيما ندر. ولذلك فإنّ ما يتبقّى هو مائة مليون من العرب. ولكن هل المائة
المليون هؤلاء هم حقيقة أم خيال؟ إنّهم وهمٌ أيضًا. فإذا افترضنا أنّ الأمّيّة
في الوطن العربي تبلغ ما يقارب التّسعين بالمائة، وهذه حقيقة أيضًا، فمعنى ذلك
أنّ تسعين مليونًا من هؤلاء الرّجال يبذلون جلّ وقتهم في البحث عن طعام للفراخ،
زغب الحواصل، الّذين لا يذهبون للمدارس بل يكبرون فقط لمجرّد التّفريخ هم أيضًا
بغية استنساخ أنفسهم دونما جدوى.
إذن، ما تبقّى لدينا يشكّلون عشرة ملايين من الرّجال. وهؤلاء أيضًا هم وَهْمٌ
كبير. هو وهمٌ لأنّ تسعًا وتسعين بالمائة من هؤلاء، أيّ تسعة ملايين وتسعمائة
ألف رجل، منتظمون في أحزاب سلطويّة في هذا القطر أو ذاك، جلّ همّها ينصبّ على
صبّ الماء على أيدي هذا الزّعيم الزّاعم والمزعوم، بغية الانتفاع بهذا الفتات
أو ذاك، وابتغاء الاستمرار في استغلال ما سقط من أعداد فيما ذكرتُ أعلاه من
حساب.
وهكذا بقي في أيدينا مائة ألف من العرب. فهل هؤلاء حقيقة؟
الجواب بالنّفي القاطع، يا عزيزي القارئ. ولا شكّ أنّك الآن تسأل لماذا؟ هل
هؤلاء المائة ألف من المثقّفين العرب موجودن؟ طبعًا لأ. لأنّ تسعين بالمائة
منهم، أي تسعين ألفًا، مهجّرون خارج أوطانهم وتفرّقوا في بلاد اللّه الواسعة،
باستثناء بلاد العرب. وهكذا بقي عشرة آلاف في الوطن العربي، لكنّ تسعًا وتسعين
بالمائة من هؤلاء، أي تسعة آلاف وتسعمائة شخص، قد انضمّوا إلى تنظيمات سلطويّة
سخّرت هي الأخرى أقلامها لخدمة تلك الفئة المتسلّطة قسرًا في الأوطان العربيّة.
بقي لدينا مائة من العرب. فماذا تفعل هذه المائة؟ تسعة وتسعون منهم، قد بلغ
اليأس منهم مبلغًا شلّ حركاتهم فاعتزلوا إلى مكان بعيد عن الأنوار فلا تراهم
إلاّ غبًّا.
وهكذا، لم يعد عزيزي القارئ المثابر لهذه الزّواية غيرك في هذا العالم
العربيّ. وهذا هو المفهوم الحقيقي والعميق للوحدة العربيّة، ليس بمعنى
التّكاتف، بل الحياة وحيدًا في هذا اليمّ من الأعراب الأشرار الممنوعين من
الصّرف في بنوك العالم، المتشبّثين بعدم الإنصراف عن الأنظار.
فما عليك، عزيزي القارئ - وربّما قارئة -، إلاّ أن تبدأ/ئي كلّ شيء من
البداية.
نشرت في: الحياة الجديدة، رام الله: 5 حزيران 1995
***
راحت القدس
قد يظهر بعض النّفر من العرب على شاشات الفضائيّات وقد يسرح ويمرح متغنّيًا
بالقدس وبما تمثّله في وجدان العرب والمسلمين. لكنّ الحقيقة تظلّ واضحة جليّة،
وهي بخلاف ذلك تمامًا. فالعرب، على مللهم ونحلهم لم يهتمّوا بهذه المدينة أبدًا
لا في غابر الزّمان ولا في هذا الأوان. فالجميع يتذكّر تلك الحملة الإعلاميّة
الّتي نظّمتها محطّة الـ إم.بي.سي. وخلال يوم بثّ فضائي كامل لم تستطع المحطّة
أن تجمع غير بعض الملايين من العربان من المحيط إلى الخليج. هذا الفتات
الإعلامي العربي يتقزّم أمام تبرّع ثريّ يهودي واحد الّذي يتبرّع أكثر من
الأمّة العربيّة مجتمعة. كلّ ذلك يعني شيئًا واحدًا وهو أنّ القضيّة تبقى قضيّة
إطلاق شعارات لا تستند إلى واقع.
والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا
القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت
القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى
والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة، مثل بغداد؛
أو الشّام، أو القاهرة، حتّى في فلسطين ذاتها لم يعرها أهلها اهتمامًا يُذكر.
ولا زلت أتذكّر حينما وصلت إلى القدس قادمًا من الجليل في بداية السبعينيّات،
أي ثلاث سنين ونيّف بعد احتلال القسم الشرقي منها، كيف كانت هذه المدينة الّتي
يتغنّى بها البعض. لقد رأيت الإهمال يعشّش في كلّ حارة فيها، وفي المدينة
القديمة وحول الأسوار التّاريخيّة.
أمّا الآن، أيّها السّادة فقد تغيّر الوضع وتبدّل الزّمان، وعلى ما يبدو فلن
تعود إلى سابق عهدها. وإذا تساءل أحد من النّاس من المسؤول عن ذلك فإنّي أقول،
إنّه بالإضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي الّذي عمل طوال سنين على تكريس الاحتلال
في القدس وضمّها على أرض الواقع، فالمسؤول الأهم في نظري هو هذه الأمّة المغلوب
على أمرها من قبل حكّامها، ولا نستثني من ذلك الفلسطينيين على زعاماتهم طوال
السّنين.
الضّجّة المفتعلة الّتي يقوم بها الإعلام العربي والفلسطيني بعامّة بين الفينة
والأخرى عن مصادرات الأراضي في القدس المحتلّة، ما هي إلاّ »سحابة صيف عن قريب
تقشّع«. كلّ هذا الضّجيج لا يُفضي إلى شيء، وهو يأتي فقط للتّرويح عن النّفس.
هكذا تعلّمنا خلال فتح النّفق، وهو لا زال مفتوحًا، لعلمكم، وهكذا حصل في جبل
أبو غنيم، وهكذا سيحصل مستقبلاً في أماكن أخرى. منذ العام 67 وإسرائيل هي الّتي
تسيطر على القدس المحتلّة، ومنذ العام 67 وإسرائيل، على حكوماتها المتعاقبة من
أحزاب عمل أو ليكود وسائر تقليعاتها الأخرى تعمل كلّ ما في وسعها لتغيير
الميزان الديمچرافي، وتبديل الخطّ الطوبوچرافي للمدينة المحتلّة، والحقيقة
الّتي يجب أن تُقال هي أنّها قد أفلحت في كلّ ذلك. وطوال هذه العقود الماضية لم
تكن ردود فعل العرب والمسلمين إلاّ من قبيل دفع الضّرائب الكلاميّة، مطنطنة عن
أهميّة القدس العربيّة وما إلى ذلك من كلام فارغ لا يستند إلى قاعدة شعبيّة. لم
يكن إعلان المبادئ في أوسلو وما أعقبها من اتّفاقات تفريط إلاّ ليضع المسمار
الأخير في تابوت المدينة العربيّة. إنّ من وقّع على تأجيل بحث قضيّة القدس،
إضافة إلى تعليق القضايا الملحّة الأخرى إلى أجل غير مسمّى، بعد هذه العقود
الطّويلة من الاحتلال يحصد الآن مغبّة ذلك. دهاقنة السّلطة مشغولون بفتح كازينو
على تخوم مخيم لاجئين في أريحا أوّلاً. دهاقنة السّلطة الفلسطينيّة مشغولون
بإجراء محاكم صوريّة لأفراد شرطة ومن ثمّ إعدامهم خلال ساعات، دون أن يُسمع صوت
واحد شجاع ضدّ هذه الممارسات. وهكذا تمضي إسرائيل قدمًا في عقد الاتّفاقات مع
السّلطة الفلسطينيّة حول تسليمها فتات سلطة في هذا الموقع أو ذاك مبقية قضيّة
القدس واللاّجئين والمستوطنات خارج كلّ هذه الاتّفاقات. وحين تُكبّل السّلطة
الفلسطينيّة نفسها بأغلال البنود المنصوصة، تبقى القدس وسائر القضايا خارج هذه
اللّعبة - الفضيحة.
يجدر بنا أن نُذكّر القارئ العربي الفطن بجميع تلك الخطابات الرنّانة
والتّعابير الّتي كانت تُكال على إسرائيل من لدن وسائل الإعلام الفلسطينيّة
والعربيّة في الستّينات والسّبعينات. لا بدّ أنّ القارئ العربيّ الفطن يتذكّر
أنّ إسرائيل كانت تُدعى في الإعلام العربي بأسماء مثل: "دولة العصابات"، أو
"الكيان المزعوم" وما إلي ذلك من بلاغة عربيّة خرّبت بيوت العرب. إنّ ما يظهر
على أرض الواقع الآن هو العكس تمامًا، فها هي السّلطة الفلسطينيّة قد حوّلت
فلسطين نفسها إلى "كيان مزعوم" ، كما أنّها تتصرّف على الأرض كما لو كانت دولة
عصابات. وهكذا ضُربت عرض الحائط تقارير الفساد الّتي صدرت عن مجلس تشريعي،
وهكذا صارت "حكومة عرفات" بقدرة قادر أكبر عددًا من حكومات الدّول
العظمى.
وهكذا وبعد هذه السّنوات الطّويلة صارت القدس، بهمّة العربان، قضيّة أماكن
مقدّسة ليس إلاّ. وعلى ما يبدو فإنّ ما ستبقيه إسرائيل للفلسطينيّين والعرب
والمسلمين هو تلك التلّة الّتي يقوم عليها الحرم القدسيّ الشّريف، لكن ليس إلى
الأبد، بل فقط في هذه المرحلة التّاريخيّة. إنّ تحويل الخلاف إلى مسألة تتعلّق
بالهيمنة على الأماكن الإسلاميّة المقدّسة في المدينة هو محاولة إسرائيليّة
لسحب البساط من تحت أرجل المطلب الفلسطينيّ والعربيّ بشأن السّيادة السياسيّة
في المدينة. بذلك تحوّلت القدس إلى مجرّد مدينة فيها أماكن مقدّسة إسلاميّة،
ويتحوّل المطلب إلى المطالبة بحريّة الوصول إلى الأماكن المقدّسة لإقامة
الصّلوات، وهذا بالضّبط ما تريده إسرائيل. فإسرائيل لا تنفيّ قدسيّة الأماكن
الإسلاميّة، مع أنّ ثمّ تيّارات يمينيّة دينيّة يهوديّة تحلم بإقامة الهيكل
الثّالث على أنقاض هذه الأماكن، ولكنّها مع ذلك تريد أن تبقى السّيطرة
السّياسيّة على المدينة في أيديها إلى أبد الأبيد. وخلال هذه العقود الماضية من
الاحتلال قامت إسرائيل بخلق وضع جديد في القدس العربيّة المحتلّة، حيث قامت
بضمّ القدس ومناطق كبيرة تابعة للقرى االفلسطينيّة المحيطة بها وأجرت عليها
القانون الإسرائيلي. وخلال هذه العقود أقامت الحارات الاستيطانيّة في منطقة
القدس العربيّة المحتلّة الأمر الّذي غيّر من الميزان الديموچرافي في القدس
المحتلّة. والآن وبعد سنين أصبح عدد السكّان اليهود في القدس المحتلّة أكبر من
عدد السكّان العرب. وبعد وقت ليس بالطّويل لن يبقى هناك ما يُتفاوض عليه بشأن
القدس. وخلال كلّ هذه العقود، لم يفطن العرب إلى ما يجري على أرض الواقع.
وإسرائيل لا تمضي قدمًا في ذلك إلاّ لعلمها أنّ العالم الغربيّ على جميع دوله
وشعوبه يدعمها، أو على الأقلّ لا يعترض على هذا المخطّط. يجب ألاّ يغيب عن
الأنظار أنّ العالم الغربيّ كما ذكرت أكثر من مرّة في الماضي لن يقوم بالضّغط
على إسرائيل بأيّ حال من الأحوال لأسباب تاريخيّة تتعلّق بالعلاقة الجوهريّة
العميقة الّتي تربط الغرب المسيحي بإسرائيل الممثّلة لليهوديّة الّتي هي الجذور
التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين. لن يقوم الغرب بالضغط على
إسرائيل الممثّلة للجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين الّذين
يشكّلون خطرًا على العالم الغربي المسيحي. نقطة.
يُطلق العربان شعارات عن كون القدس في الوجدان. أينَ تلك النّصوص الأدبيّة
الّتي تُقيم القدس في الوجدان؟ الحقيقة أنّها معدومة تقريبًا. يجب أن نكفّ عن
إطلاق مثل هذه الشّعارات. يجب أن نقول كلمتنا بصراحة، ودون مواربة، إنّ ما
فعلته إسرائيل خلال عقود من احتلال المدينة يضاهي كلّ تلك القرون العربيّة
الطويلة الّتي حكم فيها العرب والمسلمون هذه المدينة. هذه هي الحقيقة المرّة،
ومن لا يرى هذه الحقيقة فقد ضلّ طريقه ولن يرى النّور في نهاية النّفق.
نشرت في: القدس العربي، لندن، 23 سبتمبر 1998
***
"وعلّمَ آدمَ الأسماءَ كلّها"
حينَ يُرزقُ زوج بطفل أو طفلة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى أذهان الوالدين هو
الإسم الّذي سيرافقه ويرافقهما طوالَ حياته. في الكثير من الأحيان تُشغل مسألة
الإسم بال الوالدين قبل الولادة وطوال فترة الحمل. الإسمُ هو الإنسان فلا يوجد
إنسان على وجه الأرض لا اسم له. لم أكن لأتطرّق إلى هذه المسألة لو لم تتحوّل
في نظري إلى مأساة تنمّ عن ورمٍ خبيث آنَ الأوان لاستئصاله من جذوره حتّى لا
تنمو لواحقه في أماكن أخرى تؤدّي إلى القضاء على جزء هامّ ممّا تبقّى من
حيواتنا الآخذة في التقلُّص.
بعد مضيّ أيّام على الإنتفاضة المتجدّدة ضدّ ظلم الإحتلال الإسرائيلي، وبعد أن
سقطت قافلة من الأرواح خلف أُفق لا ندري بعدُ ما يُخبّئ وراءه أودّ التّذكير،
إن نفعت الذّكرى، بمسألة لم ينتبه إليها أحد، ولم يولها أحدٌ ما تستحقّ من
اهتمام.
في غمرة هذه الإنتفاضة المتجدّدة جلستُ مع صديقين اثنين وكالعادة في مثل هذه
السّاعات يدور الحديث على ما يجري. كانت المسألة الّتي تقضّ عليّ مضجعي مشغلة
بالي كثيرًا، وقبل أنْ أثيرها نويتُ التّأكُّد من شيء، فسألتُ صديقيّ وهما
فلسطينيٌّ وفلسطينيّة وطنيّان جدًّا جدًّا. سألتُهما: هل تعرفان ما اسمُ الفتى
الفلسطيني الّذي هزتّ مشاهد مقتله العالَمَ بأسره؟ فلم يُحيرَا جوابًا. رأيت
كيف ارتسمت علامات الحرج على وجهيهما، وبعد لحظاتٍ من الإرتباك، قال أحدهما،
ليسَ مهمًّا الإسمُ. هكذا، وبكلّ بساطة.
لو كانَ الأمر مقتصرًا على فردٍ هُنا وفردٍ هُناك لما أثرتُ هذه القضيّة. لكنّ
الأمر في نظري أخطر من ذلك وله أبعاد ومعانٍ مُقلقة. أردتُ فحص هذه المسألة من
حولي قبل التّوصُّل إلى مقولات تعميميّة. ما دفعني إلى التّطرُّق إلى هذه
القضيّة هو ما قرأته في بعض وسائل الإعلام العربيّة، هُنا وهناك. فها هم عاملون
في وسائل إعلام عربيّة، وها هُم أدباء، وكتّاب يسيرون في هذه القافلة الّتي
تستهتر بأسماء النّاس وخاصّة أسماء الضّحايا منهم.
في أكثر من صحيفة عربيّة يكتبُ أدباء وكتّاب (لن أشير إلى أسمائهم) عن الطّفل
المغدور رامي الدّرّة. حتّى في صحيفة رسميّة فلسطينيّة تنشر قوائم الشّهداء
تكتب اسم الطّفل، رامي الدّرّة. وهكذا في الخليج وفي لندن وفي أماكن متعدّدة
يتكرّر هذا الخطأ في اسم الطّفل المغدور. شعراء وأدباء وكتّاب لا نُشكّكُ في
صدق مشاعرهم يُخطئون في اسم الضّحيّة. كيف يحدثُ كلّ هذا علمًا أنّ اسم الطّفل
الفتى المغدور هو محمّد وليس رامي كما يكتبون. والسؤال المطروح هو، هل هؤلاء
يكتبون بصدقٍ حقًّا عن فتًى معيّن له اسمٌ وأب وأمٌّ وأشقّاء وشقيقات أم أنّهم
يكتبون عن فتًى مُجرّد؟ لو كانوا يقصدون التّجريد لما كتبوا الإسم، ولكُنّا
غفرنا لهم ذلك. لكن، ما داموا يريدون التّنويه إلى فتًى معيّن فإنّ الإسم يصبحُ
ذا أهميّة قصوى، لأنّ الإسم هو المُسمّى، ولأنّ الإسمَ هو العالَمُ بأسره. فإذا
أصرُّوا على كتابة اسم غير موجود أصلاً تصيرُ الكتابة أقلّ صدقًا في أحسن
الأحوال، واستهتارًا بالضّحيّة وبذويها في أسوئها. إنّه استهتار بجدّ الفتى
محمّد الّذي سُمّي باسمه، إنّه استهتار بوالد الفتى واسمه جمال، بوالدة الفتى
آمال، بأشقّاء الفتى: إياد، أحمد، حازم وآدم، بشقيقات الفتى: باسمة، نور وبسمة.
إنّه استهتار بالموت واستهتار بالحياة في آنٍ معًا. أليس من حقِّنا أن نضع
حدًّا لهذا الإستهتار؟ هذه الحقيقة الّتي قد تبدو للبعض ليست بذات أهميّة هي
قضيّة كبرى، هي العالَم بجوهره، هي عالم البشر أوّلاً وآخرًا.
الجواب على هذه المسألة على قدر كبير من المرارة، إذ أنّه متعلّقٌ بأسلوب عمل
الصّحافة العربيّة وبطريقة قراءتها للأحداث. والحقيقة يجب أن تُطرَح هُنا وبكلّ
ما تحمل من معاني. الصّحافة العربيّة تقرأ إسرائيل عبر وسائل الإعلام الغربيّة،
إنكليزيّة، فرنسيّة وغيرها، ووسائل الإعلام الغربيّة هذه تتزوّد بالمعلومات في
الكثير من الأحيان من المصادر الإسرائيليّة، رسميّة وغير رسميّة، ولهذا السّبب
فهي تستخدم المسمّيات الإسرائيليّة. عبرَ هذه الوسائل تتزوّد الصّحافة العربيّة
بالمعلومات دون التأكُّد من صحّتها. هكذا، تكتب الصّحافة العبريّة في البداية
أنّ الفتى اسمه رامي، بينما هو محمّد، فتتلقّفه وسائل الإعلام العربيّة، وهكذا
تأخذ كرة الثّلج هذه تتدحرج وتكبر وتكبر ويتلقّفه الكتّاب والأدباء والشّعراء
العرب فيكتبون عن رامي، وهكذا يمّحي اسم محمّد وكأنّه هباء. هكذا في كثير من
الحالات والأسماء الّتي تستخدمها الصّحافة العربيّة دون معرفة مصادرها وصحّتها.
ومثال ذلك ما يُطلق عليه اسم »بوّابة فاطمة« على الحدود اللّبنانيّة
الإسرائيليّة، فالإسم هذا أطلقه جنود إسرائيليّون على البوّابة تيمّنًا بعد أن
فتحوا البوّابة أمام امرأة شيعيّة جاءها طلق الولادة عند البوابة لنقلها إلى
مستشفى إسرائيلي للولادة. وهكذا تبني وسائل الإعلام العربيّة خطابها على أسس
ومعلومات خاطئة، إذ أنّ هذا الإعلام قد تعوّد ألاّ يهتمّ بالتّفاصيل. وهكذا
تستمرّ وسائل الإعلام العربيّة استخدام المسمّيات الإسرائيليّة دون الإنتباه
إلى أنّ الإسم في النّهاية هو في غاية الأهميّة.
غير أنّ الأهمّ هو عندما يأتي الخطأ في اسم الطّفل المغدور محمّد الدّرّة. هذا
الخطأ يُصبحُ قضيّة مأساويّة عربيّة كبيرة. ألم نقرأ أنّ اللّه »علّمَ آدمَ
الأسماءَ كلّها«؟ إذ أنّ من يُسمّي هو الحاكمُ الواحدُ الأحد ليس في السّماء
فحسب، ولأنّ من يُسمّي هو السّامي، ولأنّ من يُسمّي هو الّذي يفرضُ تصوّره
للموت وللحياة.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة، 15 أكتوبر 2000
***
أمّا نحن، فما نحن؟
الشّعوب الحرّة، ونحنُ على العموم لسنا منها، تستطيع أن ترتدي ما يُعجبُها أو
يتلاءم مع طبيعة طقسها وطقوسها وأذواقها. الشّعوب الحرّة تستطيع أن تُبدّل
وتختار الألوان الّتي تليق بها وبمناخها. الشّعوب الحرّة تستطيع مثلاً، أن
تُلقي بلباسٍ ما في سلّة المهملات وتنطلق فورًا لاختيار لباس جديد قد يُضفي على
أمزجتها نوعًا من التّفاؤل، أو يمنحها على الأقلّ إحساسًا بإمكانيّة التّغيير،
مهما كان هذا التّغيير مستحدثًا. الشّعوب الحرّة تتقدّم بخطى واثقة إلى الأمام،
لا تلتفتُ إلى الوراء إلاّ لبُرَهٍ قصيرة ثمّ تواصل رحلتها المستقبليّة إلى
الجديد، إلى ما ينفع، إلى ما يدفع قدمًا. الشّعوب الحرّة يحدوها أملٌ ما،
يدفعُها شيء ما إلى شيء ما. هكذا هي الحال مع الشّعوب الحرّة في هذا العالَم.
لكنْ نحنُ، ما نحنُ؟
الحرباوات مثلاً، تصطبغ بلون ورق الشّجر الّذي تقفُ عليه أو تركن بجواره. كذلك
هي الحال أيضًا مع الكثير من الحيوانات في هذه الطّبيعة الّتي لا ترحم الضّعيف.
فهي تُغيّر ألوانها تمويهًا ودرءًا للشرّ الّذي قد يأتي من مكان ما مجهول أو
مكان معلوم. ومثلما هي الحال في الطبيعة، كذلك الحال في السياسة، فالشّعوب
الحرّة تستطيع أن تُبدّل حكوماتها، ووزاراتها درءًا للشّرور الّتي قد تأتي منها
أو بسببها. حتّى إن نظرنا إلى ما يجري في دول العالم، الّذي أُطلق عليه يومًا
عالمًا ثالثًا، بدأت تظهر بوادر عافية، إذ بدأت تتبدّل فيه الحكومات ويتمّ
تداول السّلطة ديمقراطيًّا. لكنْ نحنُ، ما نحنُ في هذا العالَم؟
هذه الأفكار تراودني، وما من شكّ أنّها تراود الفرد العربي في سريرته شرقًا
وغربًا شمالاً وجنوبًا. فها نحنُ نرى على الشّاشات الفضّيّة كيف يتمّ إسقاط
رؤساء وإعلاء آخرين مكانهم. ها هو العالَم الّذي ما فتئنا ننعته بالإنحلال
الأخلاقي بكلّ ما أوتيت لغتنا من بلاغة أصوليّة، لا يركنُ إلى طمأنينة بل
يتغيّر ويتبدّل دائمًا. لكن، أخلاقُنا ما هي في هذا العالَم؟ ألا يسأل العربيّ
نفسه سؤالاً خطيرًا يومًا ما؟ هل هذه هي حقًّا جينات تَفَرّدْنا بها عن سائر
الأمم؟ ولماذا لا يتبدّل الرؤساء لدينا، اللّهمّ إلاّ بالبدلات الفاخرة؟ عشر
سنين تمرّ، عشرون سنة تمرّ، ثلاثين، أربعين وإلى ما لا نهاية، ويبقى الزّعيم
زعيمًا والرّئيس رئيسًا والأمير أميرًا والآمر آمرًا. وحتّى بعد أن يقضي
الزّعيمُ نحبَهُ ونَحْبَنا معًا تاركًا لنا أرضًا محروقة وراءه، يُخلّف علينا
عُصَيّاه الّتي من ذات العصا. أهي جيناتٌ عربيّة حقًّا؟
أليس كلّ ذلك هو أحد أهمّ الأسباب لعدم وجود أيّ جديد لدينا؟ الجديد يُخلَق
لدى الشّعوب الحرّة المتجدّدة. أمّا نحنُ فلا جديد في العلم لدينا، ولا جديد في
السياسة لدينا، ولا جديد في الفلسفة لدينا، ولا جديد في الاجتماع لدينا، ولا
جديد في الإقتصاد لدينا، ولا جديد في القانون لدينا. فقط نهيمُ على أوجههنا في
هذا العالَم إلى ما لا نهاية وإلى ما لا مآل.
وهكذا، وما دامت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فهل بوسعنا، نحنُ
الّذين نُدهَش من هذا العالَم المتغيّر المُبدع الخالق، أن نُفاجئ العالَم في
شيء؟ بعد كلّ هذه العقود من الـ"تحرُّر القومي"، هل تحرّرنا من عُقدنا المزمنة؟
بعد كلّ هذه العقود نجد أنفسنا الآنَ جالسين على قارعة تاريخ البشريّة ننظر كيف
يمرّ قطارها أمامنا دون أن نلحق به. بعد كلّ هذه العقود نجد أنفسنا ضارعين إلى
من نكيل لهم الشّتائم ممسانا ومصبحنا مُستجدين رُكّاب ذلك القطار السّريع أن
يُلقُوا لنا بعض الفتات منه. فمنّا من يتراكض إلى التقاط موضة جديدة، ومنّا من
يلهثُ وراء اختراعات جديدة، ومنّا من يُلملم أمورًا لا يدري حتّى ما يفعل بها
أو كيف يستخدمها، ومنّا، ومنّا.
هكذا أيضًا، تتبدّل الحكومات في هذا العالَم فنعجب من هذا الغرب الّذي ما أن
يكاد العربيّ يتعوّد على مسؤول ما لديه حتّى يخرج ذلك المسؤول من الحلبة ليأتي
آخر غيره يحتلّ مكانه. أليست كلّ هذه الدّيمقراطيّات الغربيّة مؤامرات غربيّة
تُحاك ضدّنا نحنُ العُربان؟ طوال عمرنا، نحن قصار العمر، نبقى مشغولين في دراسة
شخصيّات وزعامات هذا الغرب المتبدّل يومًا بعد يوم، المتغيّر عامًا بعد عام،
وما أن نبدأ بالإمساك بتوجّهات وسياسات قيادات هذا الغرب حتّى تفلت هذه
القيادات والتّوجّهات والسّياسات من بين أيدينا، فنجد أنفسنا دائمًا ومن جديد
أمام قيادات جديدة ما يضطرّنا إلى دراستها من جديد، ومثلُنا في ذلك مثل الطّالب
الّذي يرسب في صفّه فيواجه مدرّسًا جديدًا وعِلْمًا أجدّ. هكذا يمرّ الزّمانُ
ويتغيّر العالَم بخطى حثيثة، أمّا نحنُ، فما نحنُ؟
هذا الغرب، بما فيه من »استعمار« و»صهيونيّة« و»انحلال أخلاقي«، »المُتآمر
علينا«، كما يحلو لنا دومًا وسمه، يعرف، من خلال معاهده ومؤسّساته، زعاماتنا
واحدًا واحدًا إلى آخر بند في شخصيّاتها. فهي كما ذكرنا لا تتبدّل، اللّهمّ
إلاّ بماركات هذا الغرب المتآمر.
فهل بقي، بعد كلّ هذا، شيء يفضلُ فيه العربُ العجمَ غير القهوة. وحتّى هذه
المأثرة الأخيرة الّتي طالما تغنّينا بأمجادها نحن العُربان، أخشى أن تكون قد
فلتت هي الأخرى من بين أيدينا. هل أشي لكم أخيرًا بسرّ شخصيّ؟ الحقّ يُقال،
فحتّى أنا، عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه، قد هجرتُها مُيمّمًا نحو
الإسپرسّو.
إذن، والحالُ هذه، ألا نزلت لعنةُ اللّه عليّ أنا أيضًا.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 17 ديسمبر 2000
***
النّظرة النمطيّة تجاه العرب
كثيرًا ما يدور الحديث عن اتّسام الرأي العام الغربيّ بالجهل في أفضل الأحوال،
وبالعدائيّة في أسوئها، تجاه القضايا العربيّة، وقضيّة فلسطين على وجه الخصوص.
وكثيرًا ما يُقال إنّ أذرع الصّهيونيّة الطّويلة قد طالت كلّ مراكز القوى
الإعلاميّة الغربيّة حتّى بات من العسير اختراقها أو تحويل وجهتها العدائيّة.
كثيرًا أيضًا ما يُشاع عن أنّ النّظرة الغربيّة إلى العالم العربي هي نظرة
نمطيّة، لا ترى الأطياف المختلفة في هذه الرّقعة الواسعة من الأرض. وقد يكون
ذلك صحيحًا، ولكن إلى حدّ ما. أمّا إذا توخّينا الصّراحة مع أنفسنا، فما علينا
إلاّ أن نثير سؤالاً آخر وهو، هل هنالك مسؤولون آخرون عن هذا الوضع؟ نستطيع
الإستمرار في تحميل الصّهيونيّة العالميّة والإمپرياليّة وزر هذا التّسطيح
للعرب، كما نستطيع أن نركن إلى طمأنينة التّذمّر من هذا الوضع في الفضائيّات
العربيّة، ومحاولة إقناع أنفسنا بما هو ليس منّا.
أولئك الّذين يتذمّرون من النّظرة النّمطيّة للعرب في وسائل الإعلام الغربيّة
هم هم الّذين لم يفلحوا بعد في تخطّي النّظرة النّمطيّة للغرب ذاته الّذي
يتّهمونه بذات التّهمة. فما عدا قلّة قليلة من رجال الفكر والإعلام العرب، فإنّ
السّواد الأعظم منهم يرون العالم الغربي من خلال منظار أحاديّ الأبعاد. وما هذه
الشّواذّ إلاّ إشارة إلى القاعدة الّتي تحكّمت بتلابيب الإعلام العربيّ سنوات
طويلة.
هنالك حقيقة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي أنّ العالم العربيّ لا يولي
اهتمامًا يُذكَر للرّأي العام. والسّبب من وراء ذلك هو أنّ العالم العربيّ لا
يعترف أصلاً برأي عام. فهل يوجد رأي عام في هذا العالم العربيّ، غير ذلك الّذي
يأتي عبر وسائل الإعلام الرّسميّة؟ ثمّ أليست وسائل الإعلام في العالم العربيّ
أجمعين وسائل إعلام رسميّة حكوميّة، أو شبه رسميّة؟ ولا فرق بين الإثنتين
عربيًّا إلاّ فيما ندر. ولانعدام وجود رأي عامّ عربيّ قد يأتلف وقد يختلف
علانية أمام عيون النّاس وعلى مسامعهم في تصوّراته تجاه القضايا المطروحة، فكيف
يمكن إقناع الآخرين بأنّنا لسنا كلاًّ مُختَزَلاً في رأي واحد، هو على العموم
رأي السّلطة، أو ما تسمح بنشره هذه السّلطة علنًا لأهداف هي أبعد ما تكون عن
الرّأي العام الحقيقي؟
فإذا أخذنا نموذجًا غربيًّا للرأي العام، كبريطانيا على سبيل المثال لا الحصر،
فهناك قد تُثار في وسائل الإعلام بعامّة رسميّة وغير رسميّة قضايا مثل، هل يجدر
الإستمرار في النّظام الملكي، أو هل يجدر الإبقاء على صلاحيّات الملكة كما هي،
وما إلى ذلك من مسائل تهمّ البشر في المملكة المتّحدة. قد تظهر كلّ هذه
الاقضايا في الصّحافة ووسائل الإعلام دون أن »تقع خشبة من السّماء«، كما يُقال.
فكّروا قليلاً، ماذا كان سيحدث عندنا لو أنّ قضايا من هذا النّوع أثيرت في
وسائل إعلام عربيّة، في هذا البلد أو ذاك، في العالم العربيّ. وهل بالإمكان
أصلاً إثارة مثل هذه القضايا؟ وإذا تجاوزنا الأنظمة الملكيّة، إلى أنظمة يُطلق
عليها مصطلح جمهوريّة، مع أنّه لا فرق بين النّظامين في العالم العربيّ، وعلى
وجه الخصوص بعد هذه البدعة السّياسيّة العربيّة، كما حدث في سوريا من توريث.
فهل يمكن طرح أسئلة علانية بشأن هذه الجمهوريّات في وسائل إعلامها، وهل يمكن
طرح أسئلة علانية عن استمرار هذه الرّئاسات الجمهوريّة في كلّ البلدان العربيّة
عشرات السّنين دون تبديلها حتّى بشخص آخر؟ فإذا لم تكن هذه القضايا هي هي جوهر
الرأي العام، وهي هي ما يهمّ المواطن العربيّ، فما هو الرأي العام إذن؟ هل هو
تعليق كلّ المآسي العربيّة على شمّاعة الغرب وإسرائيل، وهو الرأي - العَظْمَة-
الّتي تسمح كلّ هذه الأنظمة للكتّاب بالتّلهّي بها شرط الإبتعاد عن »ثوابت
الأمّة«، و»مسلّمات المجتمع«، و»القضايا المصيريّة«، وما إلى ذلك من تعابير
واصطلاحات رنّانة كلّ هدفها الإبقاء على هذه الأنظمة جاثمة على صدور العباد،
بالرغم من كلّ المآسي الّتي جلبتها هذه على شعوبهل، دون أن تكون أمام النّاس
أيّ فرصة لمحاسبتها، ولو جماهيريًّا في وسائل الإعلام على الأقلّ.
وهكذا، والحال هذه، فقد تحوّل الرأي العام العربيّ إلى مكان آخر. هذا المكان
هو ساحات المساجد، إذ أنّ المساجد هي المكان الوحيد الّذي يشعر الحكّام العرب،
وكتّابهم المرتزقين، بعقدة نقص إزاءها. إنّ الخوف الّذي يتّسم به المثقّفون
العرب من إثارة القضايا الّتي تهمّ البشر في البلاد العربيّة، هو أحد أهمّ
العوامل الّتي تدفع المعارضات العربيّة إلى الإحتماء في ساحات المساجد فحسب.
وهكذا، وبعد كلّ هذه المسيرة في العقود الأخيرة، يظهر العرب أمام العالم في
صورتين، إمّا رسميّة تُهلّل لأنظمة هي أبعد ما تكون عن الإنفتاح واللّيبراليّة
والديمقراطيّة واحترام حقوق الإنسان وما إلى ذلك من قيم تنشدها الشّعوب
المتحضّرة، وإمّا تلك الصّورة الّتي تظهر من خلال ساحات المساجد وما تبثّه من
عُنفٍ كلاميّ، وغير كلاميّ، تجاه كلّ ما تمثله الحضارة العصريّة. هذا هو أساس
تلك النّظرة النّمطيّة تجاه العرب في وسائل الإعلام الغربيّة، وغير الغربيّة
أيضًا، وما على الكتّاب العرب إلاّ أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة أوّلاً، قبل
كيل الإتّهامات بكلّ اتّجاه.
هنالك سبيل للخروج من هذا المأزق، وهو سبيل ليس سهلا على كلّ حال. لكن، آن
الأوان إلى رسم معالمه أمام النّاس جهرًا. على كلّ أولئك الّذين يتذمّرون من
هذه الحال الّتي آلت إليها صورة العرب، أن يشمّروا هم عن سواعدهم ابتغاء تحطيم
هذه الصّورة النمطيّة الّتي صارت سمتنا. وعلى كلّ واحد فينا أن يبدأ ببيته،
بلده، أوْلاً، وعلى قدر استطاعته. وإن لم يحدث ذلك، فلن يتغيّر شيء، لا في
العالم العربي، ولا صورة العرب في الغرب، وسيبقى العرب منشغلين في إقناع أنفسهم
بأنّهم ضحيّة، وسيقضون نحبهم في الإنتحاب على أمجاد تليدة أكل الدّهر
عليها.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 11 نوفمبر 2001
***
عن الإستراتيجيا والمقامرات
هنالك حاجة إلى وقفة لإجراء حساب ولو بسيط لبعض ممّا جلبت القيادات
الإنفراديّة النّزِقَة على شعوب المنطقة. الحساب يجب أن يجرى ليس ابتغاء الثّأر
ومحاكمة هذه القيادات المزعومة، بل الأهمّ من ذلك هو تلمّس طريق للخروج من
الحال الرّاهنة. ولكي لا نترك الأمور تُقال هكذا دون عنوان، يجب على القيادات
الفلسطينيّة على جميع فصائلها المختلفة، دون استثناء، أن تجتمع ليل نهار حتّى
تخرج بصيغة مقبولة على الشّارع الفلسطيني أوّلاً ثمّ على المجتمع الدّولي
ثانيًا، لأنّه بدون التّعامل باستراتيجيا واضحة المعالم مع المجتمع الدّولي فلن
يصل الفسطينيّون إلى أيّ مكان آمن.
وللوصول إلى صيغة من هذا النّوع هنالك حاجة إلى اختراق حاجز الخوف والوقوف
صراحة أمام النّاس لقول الحقيقة مهما كانت هذه مُرّة. يجب وقف حالة الإنفراد في
اتّخاذ القرارات على السّاحة الفلسطينيّة، لأنّ هذه الإنفراديّة المُزمنة لا
يمكن أن تكون صيغة لمجتمع عصري يريد أن يتحرّر من الإحتلال الغاشم وأن يتواصل
مع العالم المحيط به. هنالك حاجة إلى الحديث صراحة إلى المجتمع الفلسطيني من
جهة، والكلام صراحة إلى الرأي العام العالمي من الجهة الأخرى، وفوق كلّ ذلك يجب
وضع استراتيجيا للحديث إلى الرأي العام الإسرائيلي الّذي تتجاهله الزّعامات
السّياسيّة والثّقافيّة الفلسطينيّة إلى درجة بلغت حدّ الفضيحة.
في الكثير من الأحيان يبدو للمراقب أنّ الزّعامات الفلسطينيّة لا تتحدّث إلاّ
إلى الرأي العام في العالم العربي أكثر ممّا تتحدّث إلى الرأي العام العالمي
والإسرائيلي على وجه الخصوص، ناسيةً انعدام رأي عام في العالم العربي ذي
الأنظمة المستبدّة. إنّ القيادات الّتي لا تولي الرأي العام الإسرائيلي أيّ
اهتمام خاصّ، هي هي نفس القيادات الّتي تبدأ في اللّحظات الحرجة باستصدار
البيانات الموقّعة واستجداء الرأي العام الإسرائيلي. الحال بالنّسبة
للفلسطينيّين يجب أن تكون معكوسة، أي أنّ الحديث الأوّل يجب أن يكون مع الرأي
العام الإسرائيلي، ومع القوى الإسرائيليّة الّتي بوسعها التأثير على اتّخاذ
القرارات في إسرائيل. إذ أنّه، في نهاية المطاف، فقط مع هذه القوى يجب أن يُبنى
التّصوُّر للعلاقات بين الشّعبين في هذه البقعة من الأرض. هذا، إذا كان الحديث
عن حلّ يقسم البلاد إلى كيانين وطنيّين مستقلّين حديثًا صادقًا أصلاً وليس
مجرّد لعبة فذلكات سياسيّة للفوز ببعض النّقاط أمام الرأي العام الدّولي.
الحديث الصّريح للرأي العام الإسرائيلي ليس سهلاً، إذ يتطلّب ذلك حديثًا
صريحًا أمام الرأي العام الفلسطيني أوْلاً. ولمّا كان حديث من هذا النْوع من
قبل الزّعامات الفلسطينيّة معدومًا تقريبًا في السّاحة الفلسطينيّة، ولانعدام
الإستراتيجيا الفلسطينيّة طويلة الأمد تصبح السّياسات الفلسطينيّة مجرّد خطوات
ترقيعيّة لأزمات داهمة. غير أنّه ليس في وسع هذه التّرقيعات الواهية أن تستر
عورات الأزمة الجذريّة في التّفرُّد النّزق في اتّخاذ القرارات.
منذ حرب حزيران 67 تبدّل عشرة رؤساء حكومة في إسرائيل، وحين رأى مناحم بيچين،
على سبيل المثال، في العام 82 كيف اختلطت أوراق اللّعبة في حرب لبنان وتزايد
عدد القتلى من الجنود الإسرائيليّين، قرّر الإستقالة والإعتكاف في بيته دون أن
يخرج أمام الرأي العام الإسرائيلي حتّى يومه الأخير. هل هنالك زعيم عربي أو
فلسطيني يستقيل من منصبه طوعًا؟ ألم يئن الأوان إلى إيجاد قيادة جماعيّة
فلسطينيّة تكون مسؤولة أمام شعبها بعد كلّ هذه العقود من التّدهور المتعاقب منذ
النّكبة؟ هل تبقى الأمور على هذه الحال؟ للإجابة على هذا السؤال هنالك حاجة إلى
خلق شجاعة أخلاقيّة، وكسر حاجز الخوف في صفوف الزّعامات الثّقافيّة
والإجتماعيّة والسّياسيّة الفلسطينيّة الّتي ما فتئت تنقل الشّعب الفلسطيني من
مأزق إلى آخر خلال عقود من الزّمن، دون أن تفكّر حتّى بالإستقالة أو طلب
الإحالة على التّقاعُد.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 16 ديسمبر 2001
***
بين اللغة والسياسة
العقل في اللغة هو الربط، وقد ورد في المأثور : اعقل وتوكّل ، والعقل من
الإنسان هو هذه الميزة التي تضع الإنسان في مكانة أسمي من الحيوان، وذلك لقدرته
علي الربط بين الأمور واستخلاص الوجود بكليته ، أما النّطق فهو حمل هذه الأمور
في الوجود وربطها ببعضها البعض حتي اخراجها من القوة إلي الفعل المجرد عبر
وسيلة الروامز إليها من الكلام الذي هو اللغة أو لغات الناس علي تنوعها ،
ولكن، ومهما اختلفت اللغات وتنوعت، إلا أنها في نهاية المطاف تندرج تحت هذه
الغاية - الأصل ،
من هنا، فإن فهمنا للعالم لا يمكن أن يحصل إلا من خلال هذه الوسيلة، وكلما
كانت الوسيلة أغني وأحكم كان فهمنا للعالم أعمق ، ومثلما مُنحنا إمكان التحكم
في اللغة، فللغة أيضاً خاصية التحكم فينا ، إذا لم نطوّعها طوعتنا، وإن لم
نملكها ملكتنا، فنصير عبيداً لها لا نعرف طريقاً للخلاص، فتأتي أفعالنا مشوهة
كلغتنا ،
لذلك، فإن تطوير ملكة التعبير من أهم المهام الملقاة علي مسؤولي التربية، وهي
قضية لا ينتبه إليها القائمون عليها في العالم العربي ، والنتيجة في النهاية
بروز أجيال جديدة هي أبعد ما تكون عن القدرة علي الربط بين الأمور واخراجها من
القوة إلي فعل الكلام ، شاهدوا مثلاً برامج تعرض مقابلات مع أطفال أو فتيان
صغار في التلفزيونات العربية، وقارنوها بمثيلاتها لدي الشعوب الأخري ،
ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدي أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق
من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة،
ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع ، كثيراً ما أصاب
بالصدمة من عمق هذه الفجوة كلما شاهدت وقارنت ،
فهل هذا الواقع له تأثير علي حياة المجتمع العربي؟ بلا شك ، فالإنسان لا
يستطيع أن يفكر من دون وسيلة اللغة، وإذا كانت لغته فقيرة فتفكيره فقير،
وبالتالي ما ينتج عن هذا التفكير يكون بحجم عمق هذه اللغة ،
والحقيقة التي اريد طرحها هنا هي أن لهذه القضية أبعاداً سياسية خطيرة ، ويمكن
مراجعة الزعامات العربية في العقود الأخيرة لتبيان ما أرمي إليه، استطيع أن
أجزم أن مدي غني اللغة لدي الزعماء علي العموم ينعكس في سياساتهم ، فكلما كانت
لغة الحاكم الزعيم أغني، كانت سياساته أكثر اتزاناً وتعقلاً ، ولا نقصد هنا
الخطابات المكتوبة والمقروءة من قبلهم، إنما حديثهم في مقابلات صحافية علي
الهواء ومن دون رقابة وما شابه ذلك.
من هنا، نستطيع ان نسأل السؤال الذي لا بد منه: هل ما جري ويجري في العراق،
علي سبيل المثال، أساسه عياء لغوي وتعبيري لدي صدام؟ وهل ما جري ويجري في
فلسطين مرده إلي هذا العياء اللغوي والتعبيري لدي ياسر عرفات الذي لا يستطيع أن
يحكي جملة سليمة واحدة؟
أريد أن أقول إن اللغة هي التي تتحكم بفعل الشخص، وإذا كان هذا الشخص مسؤولاً،
زعيماً، رئيساً، ملكاً أو وزيراً، فإن القضية تأخذ أبعاداً خطيرة، إذ أنه بلغته
الفقيرة يقرر مصير العباد.
اللغة الفقيرة تؤدي إلي سياسات فقيرة، وهذه الحال توصل، بالتأكيد، إلي
الكوارث، ما من شك في أن ثمة علاقة وثيقة بين سلامة اللغة وسلامة السياسة،
وسلامة الحياة وسلامة المجتمع بأسره ،
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 13 يناير 2002
***
أمّ الهزائم أو أسطورة العروبة
مُنذ كانت النّكبة وكُنّا، كان الحديث عن فلسطين في صفوف ذوي القربى أسلك
الطّرق الّتي تُفضي إلى خانة الهرب من مواجهة واقع الحال نحو ما هو غيبي وبعيد
المنال من جهة، وذريعةً جاهزة للاستمرار في تضييق الأغلال على الرّعيّة من جهة
أخرى. ومنذ كُنّا وكانت النّكبة وحتّى هذه اللّحظة يبدو أن شيئًا لم يتغيّر،
اللّهمّ إلاّ فيما يتعلّق بالتّسميات. فمن نكبة إلى عدوان إلى نكسة إلى هزيمة،
وانتفاضة وهبّة، ناهيك عن »أمّ المعارك« وما هو آتٍ مستقبلاً لا محالة من غُرر
فرائد القاموس العربي. كلّ هذه النكبات والنكسات والهزائم لم تُغيّر لدى العرب
شيئًا. فالنّاظر إلى نصف قرن ونيّف ممّا يُسمّى حروب التّحرير والإستقلال يرى
ما آلت إليه الأحوال فلا يصدّق رأي العين.
ولهذا السّبب، ولأسباب خافية أخرى، كثيرًا ما تُشاع من قبل كتّاب عرب، مقيمين
في أوطانهم ومغتربين، الدّعوة إلى البحث عن طرق للخلاص من الوضع العربي
الرّاهن. صحيح أنّ في هذه الدّعوة اعترافًا على الأقلّ بسوء الحال، كما فيها
أيضًا سمة واضحة من سمات الإمتعاض الصّحّيّة. غير أنّ هذا الإمتعاض، ومهما كان
صادقًا، فهو لا يشفي من ظمأ، كما لا يمكن أن يشكّل بأيّ حال بديلاً للعمل
المجدي الّذي يقوم به كلّ فرد في موقعه وقدر استطاعته. إنّ محاولة تلمّس
الطّريق للخلاص شيء واحد والولوج فيها قُدمًا على أرض الواقع شيء آخر مختلف
تمامًا. إذ يبقى الحديث، كما هو شائع الآن، مجرّد كلام ليل يمحوه نهار.
يجب أن يُقال الكلام بصراحة متناهية وبوضوح لا يلتبس في ذهن النّاس على جميع
طبقاتهم، مللهم ونحلهم، شيبهم وشبّانهم. هنالك حاجة ملحّة لإحداث انقلاب في
اللّغة العربيّة أوّلاً. والمقصود هو لغة الخطاب في السّياسة ولغة الخطاب في
الإجتماع واللّغة الشّائعة في كلّ مناحي الحياة العربيّة. إذ ما دام الرّئيس في
لغة الضّاد هو (الرّمز)، والقائد هو (الفذّ)، والزّعيم هو (الأوحد) وما إلى ذلك
من مسمّيات عربيّة مُزمنة، وما دام جميع هؤلاء مُخلّدين في مناصبهم عشرات
السّنين دون أن تُتاح للبشر من العرب أيّ أمكانيّة لتغييرهم، بغية تجديد دورة
الدّم في شرايين هذه الأمّة المتصلّبة، فأغلب الظنّ أنّه لن يتغيّر شيء لدى
العرب. على العكس من ذلك، إنّ انعدام التّغيير في عالم اليوم يعني شيئًا آخر.
إنّ هذا القصور يعني التّقهقر في عالم يسير بخطى حثيثة، وبدلك فإنّ الأمور في
عالم العرب ستسير إلى الأسوأ، وسيجد العرب أنفسهم قابعين في هامش التّاريخ
البشريّ.
إنّ هروب ما يسمّى النّخب أو الطّبقات »المثقّفة« العربيّة إلى الكلام القوموي
عن الأمّة وعن فلسطين هو مجرّد كلام يتمّ توظيفه في محاولات لعلاج نفسي فرديّ
لدى كلّ المحبطين. لن يكون في وسع كلام كهذا أن يأتي بأيّ نتيجة تُذكر. لقد
تحوّلت هذه النّزعة ظاهرة شائعة في الكتابات العربيّة الحديثة، وتحوّلت إلى
مسرب سحريّ يلجُ فيه كلّ الهاربين من واقعهم المحلّي المُزري إلى مسيحانيّة
عربيّة، أو على الأصحّ مَهْدَويّة عربيّة. وهذه المهدويّة في الحقيقة هي
مهدويّة لا تختلف كثيرًا عن الأصوليّة العربيّة ذات النّزعات الدّينيّة
الإسلامويّة. بل أكثر من ذلك، ففي الواقع، وكما يتّضح رويدًا رويدًا، فإنّ
الحقيقة الّتي تبرز على السّطح تعكس المأزق الحقيقي لهؤلاء المُتَعَلْمِنين.
إنّ هذا التّصارع القائم بين النّزعتين، القومويّة والإسلامويّة، يضع القومويّ
من حيث المبدأ في خانة ضعيفة مقابل الإسلاموي. فالإسلاموي النّزعة يضع تصوّرًا
شاملاً لجميع جوانب الحياة مهما كانت هذه كثيرة التّعقيد، بدءًا من علاقات
الأفراد والجماعات وانتهاءًا بالأمّة والدّولة. في موازاة ذلك، لم يضع
القومويّون تصوّرًا مناقضًا شاملاً للمجتمع المعاصر. إنّما كانوا طوال الوقت
يحاولون كسب رضى شرائح مجتمعيّة هي متنافرة أصلاً فيما بينها. وأسباب التّنافُر
هذه كثيرة، منها الدّينيّة الملليّة والإثنيّة والقبليّة. دائمًا كانت حجّة
المتعاونين مع هذه الشّرائح أنْ ليس هذا هو الوقت للولوج في تأسيس مبادئ كاملة
شاملة للمجتمع العربيّ الحديث، وهو المجتمع الّذي طالما تبجّحوا بالدعوة إلى
إرسائه.
كذلك فإنّ الدّولة القوميّة العربيّة هي في الواقع ليست قوميّة وليست عربيّة
كما يُشاع كثيرًا. إذ أنّ هذه الدّولة، ورغم أنّها جامعة لإثنيّات غير إسلاميّة
وغير عربيّة، فإنّ هذه الإثنيّات لا تعيش في الدّولة القوميّة بل تعيش في خناق
»دار الإسلام«، إذ أنّ الدّولة العربيّة لم تفصل بعد الدين عن الدّنيا. إذن،
فهروب »النّخبة« إلى القوميّة هو في الواقع ما تعنيه هذه الكلمة بالضّبط، هروب
يُصبغ بألوان زاهية ويُرادُ له أن يكون بديلاً للخروج من سوء الحال الرّاهنة.
وهذا الهروب ليس ثوريًّا أو شيئًا من هذا القبيل، إنّما هو نابع على وجه
التأكيد من إحباط مُزمن ليس إلاّ. فالهروب إلى القوميّة لا يمكن أن يكون وصفة
طبيّة للخلاص من مرض عضال.
ولعلّ أكثر أنواع هذا الهروب شيوعًا في كتابات الكتّاب العرب هو الهروب من
المَحَلّي القطري في كلّ بلد عربي إلى ما هو غيبي في فلسطين وفي الأمّة. إذ أنّ
فلسطين والأمّة قد تحوّلتا إلى وصفة سحريّة ما أن يتناولها الكاتب حتّى يتحوّل
إلى عازف في أوركسترا عربيّة كبيرة جالسة على منصّة مترامية الأطراف شرقًا
فغربًا شمالاً فجنوبًا واهمًا أن فيها شيئًا من الهارمونيا. غير أنّ السّامع
البصير سرعان ما يكتشف أنّ هؤلاء عازفين في أوركسترا مشتّتة لا يجمع بينها شيء،
أو صائتين في جوقة مرتجلة مرحليًّا يكون النّشاز فيها هو الطّاغي.
فماذا يعني كلّ ذلك؟ كلّ ذلك يعني أنّ هذه الأسطورة المُسمّاة عروبة صارت كما
وصفات الشّعوذة المتحكّمة في العقول التّقليديّة. لقد تحوّلت العروبويّة إلى
بلاغة لدى أولئك الّذين يبحثون في الكلام المسحور عن دواء لداء فتّت الجغرافيا
والرّوح، فلم يبق إلاّ وسيلة واحدة للخلاص وهي البحث عن سبل لتنفيذ الموت
الرّحيم بها. الهارب إلى العروبويّة ينسى أو يتناسى أنّ هذه العروبة لم تكن
أبدًا شيئًا مُحدّدَ المعالم. فالعروبة هي قبائل والقبائل شعوب والشّعوب أفخاذ،
والأفخاذ العربيّة كانت دائمًا تُبطن أكثر ممّا تظهر.
ولأنّ السّلطات العربيّة هي سلطات استبداد على العموم ولا تترك للإنسان العربي
متنفّسًا، فقد صار كلّ محبط ويائس عربيّ في وطنه أو في منافيه يجد في فلسطين
وفي قضايا الأمّة ملاذًا دافئًا يغلّف فيه يأسه وإحباطاته باسم فلسطين وباسم
القوميّة. وكلّ منفيّ عربيّ، طوعًا أو قسرًا، في أرجاء الأرض الواسعة صار يجد
في فلسطين طريقًا توصله ولو وهمًا إلى وطنه الضّائع في غياهب الإستبداد والجهل
المُغلّفين بشعارات عقيمة. هكذا صارت فلسطين في نظر المتعلمنين والمتعولمين
أيسر الطّرق إلى الهروب، أي بكلمات أخرى إلى الهزيمة الحقيقيّة، وربّما تكون
هذه الحقيقة المرّة هي هي "أمّ الهزائم".
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 3 فبراير 2002
***
عن الحرب والرّبح
من الأمور البدهيّة أنّ الحروب تستنفذ طاقات وموارد الشّعوب والدّول في كلّ
مكان تنشب فيه، إذ تتحوّل غالبيّة موارد الشّعوب لتصبّ في خانة الإنفاق على هذه
الحروب. لكن، من البدهيّ أيضًا أنّ الحروب في التّاريخ يعقبها دائمًا طفرة أو
ازدهار اقتصادي. غير أنّ هذا الأزدهار الّذي يعقب الحروب لا يحدث عادة في كلّ
مكان وبنفس الوتيرة، إذ أنّ الدّول الصّناعيّة المتطوّرة هي الّتي تحوز حصّة
الأسد من هذه الأرباح.
لهذا السّبب، فإنّ جميع الحروب الّتي وقعت في أصقاع مختلفة من العالم العربي
قد استنفذت طاقات الشّعوب العربيّة وجرّت معها ازدهارًا في الدّول الصّناعيّة
بعيدًا عن المنطقة العربيّة. معنى هذا أنّ الحروب في الوطن العربيّ لا يمكن أن
تأتي بخير على العرب، إنّما المستفيد منها هو العالم الصّناعي، أي الغرب،
أميركا وأوروبا بما فيها روسيا، والشّرق الأقصى، اليابان وسائر الدّول
الصّناعيّة هناك. والمستفيد من هذه الحروب أيضًا هو تلك الأنظمة العربيّة
المستبدّة الّتي حوّلت النّزاعات والحروب إلى وسيلة للإبقاء على زمرها
المستبدّة.
هل هي صدفة أنّ الأصل اللّغوي للحرب والرّبح هو نفسه في اللّغة العربيّة؟ غير
أنّنا نرى أنّه ليس صدفة أيضًا أنّ بلاد العرب تستحوذ على المجال الدّلالي
للحرب، بينما يأخذ الغرب الصّناعي هذا الأصل ويبدّله تبديلاً ليخرج إلى المجال
الدّلالي للرّبح منه فيستحوذ عليه.
قبل سنوات نشر تقرير عن الصّادرات العسكريّة الأميركيّة والبريطانيّة للعالم،
ومن ذلك التّقرير يفهم أنّ ما يقارب أربعين إلى خمسين بالمئة من الصّادرات
العسكريّة الأميركيّة والبريطانيّة تذهب إلى منطقة الشّرق الأوسط، ولا شكّ أنّ
هذه النّسب لم تتغيّر في السّنوات الأخيرة، بل قد تكون ارتفعت. ماذا يعني
هذا؟
الإجابة على ذلك في غاية البساطة. إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فلا يمكن أن
يكون هنالك مصالح لهذه الدّول المصدّرة للأسلحة في أن يستتبّ السّلام وتتوقّف
الحروب في هذه المنطقة، وفي هذه المنطقة بالذّات. وقد يكون عكس ذلك هو الصّحيح،
والسّبب من وراء ذلك لا يستعصي على الأفهام. قد يسأل سائل، لماذا هذه المنطقة
بالذّات دون مناطق أخرى في العالم؟ وهو سؤال في محلّه، لكنّ الإجابة عليه سهلة
للغاية. قد تُفتعل حروب في مناطق أخرى، أفريقيا مثلاً، أو جنوب أميركا. لكن ما
الجدوى في حروب تنشب في تلك المواقع لشركات ومصانع الأسلحة. قد يتمّ تزويد
أسلحة لتلك الشّعوب والبلدان بأصناف الأسلحة، لكن تلك البلدان لن تستطيع تسديد
فواتيرها، وتُجّار الحروب ليسوا بهذه الدّرجة من الغباء. في حال كهذه، تبقى
أمامهم منطقة الشّرق الأوسط السّاحة المركزيّة، إن لم تكن الوحيدة للحروب الّتي
تزدهر معها مصانع الأسلحة الثّقيلة في العالم الغربي. هذه المنطقة هي الوحيدة
الّتي تستطيع أن تدفع ثمن هذه الأسلحة بسبب المخزون النّفطي الهائل فيها.
إذن، كلّ الّذين يفتعلون الحروب في الشّرق الأوسط هم في نهاية المطاف أعوان،
إن لم نستخدم تعابير أكثر قسوة، لأميركا وحلفائها الّذين يجنون أرباح هذه
الحروب على حساب شعوب المنطقة.
فلو افترضنا أنّ الحروب توقّفت هنا وجنحت الشّعوب إلى السّلم، ولم تعد تقتني
الأسلحة وتنفق مواردها على هذه الحروب البائسة، فمن يكون الرّابح والخاسر في
حال كهذه؟ والإجابة في غاية البساطة أيضًا. الرّابحة هي شعوب المنطقة، بينما
الخاسرون هم أرباب تجارة السّلاح في أميركا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدّول
المنتجة لأسلحة الموت الّتي تحاول تبديل ترساناتها العسكريّة كلّ عقد أو عقدين
من الزّمن على حساب هذه الشّعوب المغلوبة على أمرها في الشّرق الأوسط.
من هذا المنطلق، فإنّ فلسفة السّلام في هذه المنطقة هي هي الفلسفة الثّوريّة
الّتي ستُبقي الأسلحة يعلوها الصّدأ في مخازن أميركا، بريطانيا، روسيا وسائر
صنّاع الموت. غير أنّ فلسفة كهذه بحاجة إلى دعاة ثوريّين يشرحونها لشعوبهم، ليس
إلى مرتزقة لدى أنظمة تُخلّد الإستبداد على رقاب العباد، وتورثه لأبنائها من
بعدها.
نشرت في: الحياة اللندنية: 17 نوفمبر 2002
***
العَظْمة الإسرائيليّة
المتتبّع للصحافة العربيّة وما يُكتب فيها في هذه الفترة لا يستطيع الفكاك من
حمّى انشغال الكتّاب على مختلف مواقع تواجدهم بالإنتخابات الإسرائيليّة
القادمة. فهذا يعمل جهده في شارون ونتانياهو وحزب الليكود، وذاك يتتبّع خطى
متسناع وحزب العمل إلى آخر القائمة. وهنالك آخرون يذهبون بعيدًا للتّطرُّق إلى
الأقليّة العربيّة النّاخبة في إسرائيل، ويحاولون معرفة الدّور الّذي قد تلعبه
في هذه الإنتخابات. هكذا تتحوّل لعبة الإنتخابات الإسرائيليّة مسرحًا يجول فيه
الكتّاب العرب ويصولون. وبقدر ما تكشف هذه الظّاهرة عن معرفة، أو عدم معرفة،
الكتّاب العرب بما يجري في السّاحة السّياسيّة الإسرائيليّة، فإنّها تكشف عن
شيء آخر لا يقلّ أهميّة. إنّها تكشف على الملأ ذلك المأزق الّذي تعيش فيه هذه
النّخب العربيّة، مع أنّ غالبيّتها ترى أنّ ما يجري الآن في إسرائيل هو تعبير
عن مأزق إسرائىلي.
غير أنّ الحقيقة الخافية وراء ذلك هي هذا المأزق الّذي يعيشه الكتّاب العرب.
إنّهم يصولون ويجولون بحثًا وتمحيصًا في خفايا الحياة السّياسيّة الإسرائيليّة،
بينما يعجزون عن فعل الشّيء ذاته في بلادهم، أوطانهم، لسبب واحد جوهري وهو
أنّهم في بلادهم لا يستطيعون فعل ذلك لانعدام هذه الحياة السّياسيّة
الديمقراطيّة لديهم. فديكتاتوريّات القبيلة، ملكيّة كانت أم جمهوريّة وراثيّة،
لا تبقي لهم مجالا للخوض في هذه المواضيع في صحافاتهم الوطنيّة. إذن، في حال
كهذه، وما دام الكلام مهنتهم، لا بدّ لهم من البحث عن موضوع للكتابة. وأسهل هذه
المواضيع هو موضوع الكتابة عن إسرائيل وما يجري فيها، لأنّ الكتابة في هذا
الموضوع هي بمثابة إصابة عصفورين بحجر واحد. فمن جهة، ينضمّ الكاتب في مقالاته
إلى جوقة المهتمّين بـ»قضايا الأمّة«، ومن جهة أخرى، تشكّل مقالاتهم نوعًا من
الـ»تنفيس« عن الكبت الّذي احتقن في داخلهم طوال عقود من الزّمن.
لا شكّ أنّ الأنظمة المتسلّطة تشجّع هذه التّوجّهات لدى الكتّاب لأنّها بذلك
تقوم بتصريف قيح هذا الفصام المزمن في الكيانات العربيّة، فيشعر الجميع، أنظمة
وكتّابًا، بنوع من الرّاحة المؤقّتة بعد فقء هذا الدّمّل الخبيث. وهكذا يعود
كلّ إلى موقعه راضيًا حتّى المرّة القادمة والأزمة القادمة، أو الإنتخابات
القادمة في إسرائيل، لتتكرّر هذه اللّعبة من جديد. في الحقيقة، بدأت أنظر إلى
هذه الأنظمة نظرة أخرى. إنّها تبدو لي الآن أكثر ذكاءً ممّا كنت أظنّ، بينما
حصّة الأسد من الغباء تذهب إلى تلك النّخب. فلو نظرنا إلى كميّة كتابات هذه
النّخب عمّا يجري في إسرائيل نرى أنّ هذه الكتابات تحتلّ مساحات واسعة من صفحات
الجرائد يوميًّا، بينما لا يولي هؤلاء الكتّاب اهتمامًا لما يجري في بلادهم.
يحدث هذا إمّا لأنّهم يخشون من أذرع السّلطة، وإمّا لأنّهم مرتزقة لدى هذه
السّلطة أو تلك، وإمّا لأنّهم يبحثون عن الشّعبويّة الّتي تسلّطت على هذه
النّخب، فيشعرون بنوع من الأمان الّذي تضفيه عليهم بوصفهم وطنيّين يهتمّون
بفلسطين وأهلها. هل يجب علينا أن نصرّح هنا بأمر غائب عن أعين هؤلاء؟ إنّ تردّي
وضع الفلسطينيّين هنا هو من تردّي الأنظمة العربيّة ولا يمكن فصل الأمرين،
ولذلك؛ فمن يريد بحقّ وحقيق أن يتغيّر وضع الفلسطينيّين إلى الأحسن، ما عليه
إلاّ أن يعمل على تحسين الوضع في بلاده هو أوّلاً، فإذا تحسّنت أوضاع بلاده
فسيكون هذا أكبر دعم للفلسطينيّين، وهذا الأمر ينسحب أيضًا على النّخب
الفلسطينيّة بلا أدنى شكّ. فكم مرّة دار الحديث في الماضي عن الفساد المستشري
في أروقة السّلطة الفلسطينيّة؟ غير أنّ هذا الفساد لم يتمّ استئصاله، بل على
العكس من ذلك فقد تمّ تخليد هذا الفساد في السّلطة، دون أن يعلو صراخ الجميع
أنْ كفى.
قد ينسب الكتّاب الفلسطينيّون المآسي الفلسطينيّة إلى القوّة الغاشمة
الإسرائيليّة، وهذا صحيح بدون أدنى شكّ. كما قد ينسب البعض ذلك إلى موازين
القوى العالميّة الّتي تترأسها أميركا الغاشمة هي الأخرى، وهذا صحيح هو الآخر
أيضًا. ولكن، ورغم كلّ ذلك، ألم يئن الأوان بعد للتّحدّث عن غشامتنا نحن؟ ألم
يئن الأوان لأن نقول أيضًا وبصراحة، إنّ جزءًا لا يُستهان به من مسؤوليّة
المآسي الفلسطينيّة يقع على عاتق الغباء الفلسطيني الّذي يعشّش في السّلطة
ونخبها؟
هل تحوّلت إسرائيل وما يجري فيها إلى عَظْمة تطرحها الأنظمة الفاسدة إلى
النّخب العربيّة لكي تتلهّى بها، فتلهو هذه بذلك عمّا يجري في بيتها؟ لا شكّ
أنّ قارئ كلّ هذه التّعقيبات والتّنقيبات يشتمّ من وراء الكلمات ذلك الإحساس
العميق بالحسد من هذا الـ»كيان«؛ كما يسمّونه عادةً، أو بالغيرة من هذه
»الشّراذم«، كما يطلقون عليها، في حين يطبّلون ويزمّرون لأمجاد عربيّة عفى
عليها الدّهر، بينما هم قابعون تحت رحمة سلطات لا ترحم. على الكتّاب العرب أن
يجيبوا على هذا السّوال، كلّ في مكانه، وفي بلده أوّلاً، لأنّ طريق الخلاص تبدأ
من البيت أوّلاً، من الأسس الواهية الّتي بني عليها هذا البيت المنهار
أصلاً.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 1 ديسمبر 2002
***
تظاهراتنا وتظاهراتهم
نتيجة هذه الحرب معروفة سلفًا. الّذين يرون غير ذلك هم فقط فرسان البلاغة
العربيّة التّليدة والبليدة الّذين ترعرعوا على بطولات متوهّمة بدءًا من شعر
الفخر الجاهلي وانتهاءً ببطولات أحمد سعيد في صوت العرب سيّء الذّكر، وحتّى هذه
اللّحظة في بيانات "أحمد سعيد" الجديد المُستنسخ في الصّحّاف. إنّها هزيمة
البلاغة العربيّة على مرّ العصور.
لكن، هنالك شيء آخر يجدر الإنتباه إليه، وهو أمر يتعلّق بذهنيّة عربيّة
متجذّرة في المجتمعات العربيّة بعيدًا عن الحكومات والقيادات. هنالك ظاهرة تعكس
في الحقيقة مرضًا خبيثًا في هذه المجتمعات برزت أعراضه في المظاهرات والمسيرات
في بعض العواصم العربيّة. فحينَ يتظاهر النّاس في لندن، روما أو نيويورك ضدّ
الحرب فهذا شيء واحد. وعندما يتظاهر النّاس في دمشق والقاهرة وصنعاء فهذا شيء
آخر مختلف تمامًا.
ما هو وجه الشّبه والاختلاف بين هذه المظاهرات؟ أوّلاً، فيما يخصّ وجه الشّبه
فإنّ الإجابة على هذا السؤال هي سهلة جدًّا. فلا يوجد أيّ وجه شبه بين هذه
التّظاهرات بالمرّة. أمّا أوجه الإختلاف فهي بيّنة لكلّ ذي بصر وبصيرة، مع أنّ
النّظرة العربيّة إليها هي نظرة تبسيطيّة تنمّ عن جهل كامل بما يحرّك هذه
المجتمعات.
في لندن، روما أو نيويورك يتظاهر النّاس ضدّ الحرب لأنّهم يعيشون في دول
ديمقراطيّة ولديهم فسحات من التّعبير الحقيقي، وليس المتوّهم، فيما يخصّ جميع
مناحي الحياة. فهم قد يتظاهرون من أجل حقّ المرأة في جسدها، وقد يتظاهرون من
أجل حقوق المثليّين، وقد يتظاهرون ضدّ سياسات حكوماتهم في السّلم وفي الحرب،
وكلّ هذا هو جزء من طبيعة الأنظمة السّياسيّة والمجتمعيّة القائمة عندهم.
وحتّى عندما تخرج تظاهرات ضدّ الحرب في دول العالم الثالث كالمكسيك والهند
وغيرها من الدّول فهي مظاهرات في جوهرها ضدّ هيمنة القطب الواحد الّذي يفرض
عولمة أميركيّة الصّنع. لكن، عندما يتظاهر العرب ضدّ الحرب في القاهرة ودمشق
وعمّان وصنعاء فهم لا يتظاهرون لا لهذا ولا لذاك.
البريطانيّون مثلاً، يتظاهرون ضدّ سياسة حكومتهم الّتي ترسل البريطانيّين إلى
الحرب. وهم يتظاهرون من كونهم يمقتون ويلات الحروب، ومن كونهم ينشدون السّلام
الحقيقي والحياة لبني البشر. لكن، عندما يتظاهر العرب في العواصم العربيّة فهم
لا يتظاهرون ضدّ الحرب، بل في الحقيقة فهم يتظاهرون مع الحرب. المتظاهرون العرب
في العواصم العربيّة الّذين يرفعون صور صدّام حسين ليسوا متظاهرين ضدّ الحرب بل
هم في قرارة أنفسهم مع الحرب ومع ويلات الحرب. إنّهم يتظاهرون لأنّهم ينشدون
الحرب، ولأنّ حكوماتهم لم ترسل جيوشها للحرب. أي أنّ هذه المظاهرات في الحقيقة
هي مظاهرات مبطّنة تنشد الموت وليس الحياة.
العواصم العربيّة لا تعرف مظاهرات ومسيرات سلميّة. فحين افتعل النّظام العراقي
الحرب مع إيران لم يخرج المتظاهرون العرب ضدّ الحرب، وحين غزا صدّام الكويت لم
يخرج المتظاهرون العرب ضدّ الغزو، وهم الآن يرفعون صور صدّام في مسيراتهم هذه.
فهل يمكن أن تكون هذه مظاهرات سلميّة؟ الشّعارات المرفوعة بشأن الإهتمام
بالشّعب العراقي ما هي إلاّ ضريبة كلاميّة ليس إلاّ. فحين قام النّظام العراقي
بالمجازر ضدّ الشّعب العراقي والكردي في العراق لم تخرج مسيرات عربيّة دفاعًا
عن الشّعب العراقي المنكوب بنظامه. وحين تتواصل المجازر في الجزائر لا تخرج
مسيرات في العواصم العربيّة دعوة للسّلام في الجزائر. وحين يخرج المتظاهرون في
دمشق رافعين صور الزّعيم الّذي يلوّح لهم من الشّرفة فهم لا يتظاهرون ضدّ
الحرب، إنّما يتظاهرون مع السّلطة وشتّان ما بين الأمرين. التّاريخ العربي
المعاصر لم يشهد مظاهرة سلميّة واحدة، وكلّ المظاهرات الّتي خرجت في العوصم
العربيّة كانت من أجل الحرب لا من أجل السّلام.
هذه هي الحقيقة المرّة بشأن ثقافة الثّأر القبلي المتجذّرة في هذه الذهنيّة،
وما لم تتمّ معالجتها جذريًّا، فلن يتغيّر شيء في مستقبل العرب المنظور.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 20 أبريل 2003
***
النّظام العربي الجديد
هل يمكن الوصول إلى صيغة سياسيّة واجتماعيّة تنظّم الحياة العربيّة للخروج من
المآزق المتواصلة التي تجد النظم والشعوب العربيّة نفسها فيه طوال عقود، إن لم
نقل قرونًا طويلة؟ ثمّ، هل هنالك نيّة حقيقيّة بالوصول إلى صيغة من هذا النّوع؟
وهل العراق الجديد، بعد أن يخرج من قبضة الاحتلال، يمكن أن يشكّل نموذجًا
يُقتدى به؟
من جهة واحدة، من الواضح أنّ التّراث السياسي العربي لا يمنحنا مثالاً نستطيع
أن نضع إصبعنا عليه بحيث يكون قدوة يسير على هديها النّظام السياسي العربي.
ولكن، من الجهة الأخرى فإنّ الذين يدعون إلى الأخذ بما أفرزته الحضارة الغربيّة
طوال قرون يتجاهلون حقيقة وطبيعة بناء المجتمعات العربيّة وتاريخها
السّياسي.
فلو أخذنا العراق مثالاً، فنحن نستطيع أن ندسّ رؤوسنا في الرّمال وأن نطلق
الشّعارات على عواهنها في محاولة لإرضاء نفوسنا من خلال عدم التقرُّب إلى
المرآة، رغبة منّا في عدم رؤية التّجاعيد التي تملأ وجهنا العربيّ الأبيّ،.
وهكذا، ومن خلال هربنا هذا، نركن إلى طمأنينة أوهامنا بجمالنا الخالد على مرّ
الزّمن. نستطيع رفع شعارات مثل الشّعب العراقيّ الواحد دون النّظر بجدّيّة إلى
التّركيبة السكّانيّة التي يتألّف منها هذا الشّعب الواحد، وما ينطبق على
العراق، ينطبق على جلّ البلدان العربيّة.
الّذين يرون أنّ العراقيّ عراقيٌّ مثلما أنّ الفرنسيّ فرنسيٌّ، يتناسون طبيعة
المجتمع العراقيّ التّعدّديّة إثنيًّا وطائفيًّا ودينيًّا. فالكرديّ العراقيّ
مثلاً، هو كرديّ قبل أن يكون عراقيًّا، وهكذا الشيعيّ والسّنيّ والتركمانيّ
والأشوريّ إلى آخره، بينما الفرنسيّ يرى نفسه فرنسيًّا قبل أن يكون أيّ شيء
آخر. وإذا أخذ البعض بالعروبة فما بالهم بمن ليسوا عربًا في المشرق »العربيّ«
ومغربه؟
إذن، والحال على هذه التّعقيدات، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، ما هي أسلك الطّرق
للوصول إلي صيغة مُرضية للحياة المشتركة وللبناء المشترك؟
الحدود التي ارتسمت في البلاد العربيّة هي حدود سياسيّة لم يرسمها العرب
أنفسهم وكثير من الكيانات السّياسيّة العربيّة لا تستند إلى قاعدة وطنيّة
ثابتة. غير أنّ العالم اليوم يتعامل مع كيانات سياسيّة ولا يتعامل مع طوائف
وإثنيّات عابرة للحدود. من هنا، فإنّ العراق الجديد، إذا رغب أهله في أن
يشكّلوا نموذجًا يُحتذى حذوه في هذه المنطقة من العالم يجب أن ينبني على الحدّ
المدنيّ ليس إلاّ. إذ أنّ هذا الحدّ هو الوحيد الّذي يمكن أن يلتفّ حوله بنو
البشر المختلفون إثنيًّا ودينيًّا.
فالعربيّ العراقيّ الّذي يدعو إلى وحدة التّراب العراقيّ يجب عليه أن يستوعب
فكرة أن يكون كرديّ رئيسًا للعراق، وإلاّ ستبقى دعوته فارغة من أيّ مضمون.
وهكذا فيما يخصّ السنّيّ والشّيعي إلى آخره. ولكن، لا يمكن لهذه التّصوّرات أن
تبقى في عداد النّوايا الحسنة فحسب، بل يجب أن تتأسّس على دستور مدنيّ واضح
يقبل به الجميع.
من هنا، فإنّ فصل الدّين عن الدّولة هو المبدأ المؤسّس لعراق يمكن أن يكون
جديدًا وقدوة بكلّ معنى الكلمة. ولأنّنا نعرف أيضًا الطّبيعة القبليّة
الدّينيّة في هذه المنطقة من العالم، لا يمكن أيضًا أن تبقى الأمور غامضة. فمن
أجل أن تتضائل أو تختفي مخاوف المجموعات السكّانيّة المختلفة يجب ينصّ الدّستور
الجديد على تداول الرّئاسة بين الشّيعة والسنّة والأكراد، بحيث لا يبقى أيّ
رئيس لأكثر من فترتين رئاسيّتين. هكذا يعرف الكرديّ العراقيّ أنّه جزء من
العراق الجديد يأتي دوره بالرئاسة منتخبًا من قبل كلّ العراقيّين، وكذا الشيعيّ
والسنّيّ. قد لا يكون هذا التّصوّر مثاليًّا، ولكن متى كان الوضع العربيّ
مثاليًّا؟ الأوان الآن هو أوان التأسيس لحياة مدنيّة من نوع آخر بها يطمئنّ
العراق لوحدة أراضيه وكلّ فئات شعوبه وطوائفه، ويعيش غنيًّا بأرضه وثقافاته
ليشكّل نموذجًا يقتدى به في هذا المشرق. يمكن أن يُعاد النّظر في دستور من هذا
النّوع بعد مرور قرن من الزّمان، وبعد أن تتجذّر الهويّة المدنيّة الواحدة
بعيدًا عن الفوارق الدّينيّة والقوميّة. ولمن يبحث عن طريقة حكم أخرى، فهنالك
أيضًا ملكيّة محدودة دستوريّة على غرار الملكيّات الدّستوريّة الأوروپيّة وهي
على كلّ حال، وكما يعلم الجميع، فيما يخصّ المواطنين في تلك البلدان ليست سيئة
بالمرّة.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 12 مايو 2003
***
حكايتي مع أريئيل شارون
أثارت التّصريحات الأخيرة لأريئيل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيليّة، جدلاً
واسعًا في الأوساط الإسرائيليّة والفلسطينيّة والعربيّة. اليمين الأصولي
الدّيني في إسرائيل رأى فيها خطرًا داهمًا وتراجعًا عن مسلّمات طالما بنى
سياساته وتصوّراته على مبادئها. خاصّة وأنّ شارون ذاته كان دائمًا في طليعة
حملة هذه المسلّمات والشّعارات التي ناطح بها رؤساء حكومات سابقة حينما كان في
المعارضة، وحينما كان عضوًا في حكومات اليمين المتعاقبة. أي أنّ تاريخ شارون
الشّخصي يفصح، في الظّاهر، عن أمور أخرى هي نقيض ما يقوله الآن. من جهة أخرى،
يلاقي شارون بعد هذه التّصريحات دعمًا من مكان آخر، من حركات سلام إسرائيليّة
طالما تظاهرت ضدّه وضدّ ما يمثّله في العقود الأخيرة، وهي الآن تحثّه للمواصلة
قدمًا بتنفيذ ما يترتّب على تصريحاته الأخيرة. فشارون هذا هو ذاته الّذي حمل في
عقود الإحتلال الإسرائيلي لواء الإستيطان اليهودي في الضّفّة الغربيّة وقطاع
غزّة، وشارون هو ذاته الّذي حمل ونادى بالوطن البديل للفلسطينيّين في الأردن.
وهذا هو شارون ذاته الّذي يصرّح أمام أعضاء كتلة اللّيكود في الكنيست
الإسرائيليّة، حيث بثّت تصريحاته في التّلفزيون ونشرت في وسائل الإعلام أنّ
الإحتلال سيّء لإسرائيل، وأنّه لا يمكن الإستمرار بفرض الإحتلال على ثلاثة ونصف
مليون فلسطيني.
ولي شخصيًّا حكاية مع شارون هذا تعود إلى منتصف السّبعينات من القرن المنصرم.
في تلك السّنوات كنت طالبًا حديث العهد في الجامعة العبريّة في القدس الغربيّة،
وكان شارون جنرالا خارجًا من حروب إسرائيل بهالة بطوليّة لا تُضاهى. جرت العادة
في الجامعة في تلك السّنوات على دعوة سياسيّين لتسجيل برنامج سياسيّ يبثّ في
التّلفزيون الإسرائيلي مباشرة من إحدى قاعات الجامعة، يفسح فيه للطلاّب بطرح
أسئلة على الشّخصيّة الّتي تعرض تصوّراتها أمام قاعة مليئة بطلبة الجامعة من
اليمين واليسار بمن فيهم طلبة الجامعة العرب من مواطني إسرائيل. في تلك الأمسية
عرض شارون نفسه لأيديولوجيّته، ومن بين ما طرحه أمام طلبة الجامعة أن لا وجود
لشعب فلسطينيّ، وأنّ الأردن هو فلسطين.
وحين فسح المجال للطّلبة بالتّعقيب وبطرح الأسئلة، وقفت أنا أمام الميكروفون
بإزاء شارون ذاته في القاعة المكتظّة وبين ما قلته آنذاك: يا سيّد شارون، ها
أنت تقول بأن لا وجود لشيء اسمه شعب فلسطيني، وتحاول إقناع الطلبة بذلك، فها
أنذا الواقف أمامك الآن في هذه القاعة أقول لك إنّي فلسطيني أنتمي إلى هذا
الشّعب، فهل تستطيع أن تقنع الجمهور بأنّي أنا الواقف هنا في هذه القاعة غير
موجود؟ أثارت كلماتي جلبة وضحكًا في القاعة وشاهدت شارون يتململ في مكانه. في
معرض الرّدّ على أسئلة الطّلبة في تلك الأمسية لم يتطرّق شارون إلى كلامي
بالمرّة. الّذين تطرّقوا إلى كلامي جاؤوا في ساعة متأخّرة من تلك اللّيلة، بعد
بثّ البرنامج في التّلفزيون. جاء أفراد من الشّرطة الإسرائيليّة واقتادوني إلى
مركز الشّرطة للتّحقيق معي. أمضيت تلك اللّيلة في المخفر وأطلقوا سراحي في صباح
اليوم التّالي.
لم يقتنع شارون في تلك الأيّام من أقوال طالب عربيّ وقح مثلي. احتاج، كعادة
الجنرالات، إلى ثلاثة عقود وكثير من الدّماء إلى الاعتراف بعدم جدوى القوّة. قد
يكون تاريخ شارون في الماضي كلّه مناورات من أجل الوصول إلى منصب رئاسة الحكومة
الإسرائيليّة، وبعد أن وصل إلى هذا المنصب فهو يرى الأمور بصورة مخالفة عمّا
رآها من مناصب أخرى، وقد تكون تصريحاته هذه الآن بوجوب إنهاء الإحتلال وعدم
جدواه هي الأخرى مجرّد مناورات تنضاف إلى تاريخ مناوراته. قد يكون شارون راغبًا
من خلال كلّ هذه التّصريحات تسجيل نقاط لصالحه أمام الرّئيس الأميركي، وأمام
الرأي العام الدّولي. ولكن، حتّى لو افترضنا أنّ كلّ هذه التّصريحات هي مجرّد
مناورات، فهل يجدر أن تبقى مسجّلة لصالح أريئيل شارون في الرأي العام الدّولي؟
وإذا اعتقدت القيادة الفلسطينيّة أنّ كلام شارون هذا ليس إلاّ مجرّد محاولة
لتسجيل نقاط لصالحه، أليس من واجبها هي الأخرى أن تتعلّم فنّ المناورة
السّياسيّة وتسجيل نقاط لصالحها؟
إنّ أكبر خطر على مصالح ووجود الشّعب الفلسطيني في هذا الجوّ الدّولي يكمن
الآن في عمليّات انتحاريّة قد تنفّذها بعض الفصائل الفلسطينيّة. إذا حدثت مثل
هذه العمليّات الآن وذهب ضحيّتها مدنيّون أبرياء في المدن الإسرائيليّة، فإنّ
العالم الّذي ينبذ الإرهاب سيرى في شارون رجل سلام، بينما يخسر الفلسطينيّون
عطف العالم. وإذا اعتقد الفلسطينيّون أن شارون بتصريحاته هذه ينصب لهم فخًّا،
فعليهم ألاّ يسارعوا للوقوع في هذا الفخّ.
نشرت في: الحياة اللندنية: ٨ يونيو 2003
***
لبنان، إسرائيل، فلسطين
مهما تسفر عنه نتائج الصّفقة المرتقبة لتبادل الأسرى بين حزب اللّه والحكومة
الإسرائيليه، فهنالك فروق جوهريّة تجدر الإشارة إليها بين الّذي جرى في لبنان
في معرض صراعه مع إسرائيل خلال العقدين الأخيرين وبين الّذي جرى ويجري على
السّاحة الفلسطينيّة الإسرائيليّة منذ عقود.
وبعيدًا عن الكلام العاطفي الّذي يغرف عادة من بحر البلاغة العربيّة الّتي لم
تؤدّي على مرّ التّاريخ العربي المعاصر إلاّ إلى كوارث تلو الكوارث فإنّ إجراء
مقارنة بين الوضعين يكشف خللاً استراتيجيًّا جوهريًّا في التّوجّه الفلسطيني،
وهو الخلل الّذي جعل لبنان ينجح حيث فشلت فلسطين.
أوّلاً، الحرب الإسرائيليّة في لبنان الّتي نشبت في العام 1982 لم تكن حربًا
ضدّ لبنان، بل حرب ضدّ فلسطين المتمثّلة بمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة ووجودها
العسكري في لبنان. لقد استغلّت إسرائيل آنذلك جميع التّناقضات الّتي كانت في
صميم الحرب الأهليّة اللّبنانيّة الدّائرة. لذلك وصل الجيش الإسرائيلي إلى
بيروت، ابتغاء طرد الفصائل الفلسطينيّة، على أجنحة هذه التّناقضات ولم يكن
ليفلح في تلك المهمّة لولا عمق هذه التّناقضات الطّائفيّة في المجتمع
اللّبناني.
من جهة، تكلّلت خطّة شارون بالنّجاح فيما يتعلّق بإنهاء الوجود المسلّح
للفصائل الفلسطينيّة في لبنان. غير أنّ رياح الحروب لا تجري دائمًا بما تشتهي
سفن الجنرالات، فغرق الجيش الإسرائيلي في الوحل اللّبناني لسنوات طويلة لاحقة،
ظهرت خلالها قوى لبنانيّة تمثّل قطاعات واسعة صاعدة من داخل المجتمع اللّبناني.
وعلى رأس تلك القوى حزب اللّه الّذي بنى وجوده في السّاحة اللّبنانيّة
السّياسيّة والاجتماعيّة على مقاومة الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان. وهكذا
بدأ حزب اللّه، في الأساس، استنزاف الجيش الإسرائيلي يوميًّا، فبدأ يظهر كقوّة
إجتماعيّة سياسيّة مركزيّة لبنانيّة تستند إلى نجاحاتها في استنزاف الجيش
الإسرائيلي. وهو ما دفع بيغن، رئيس الحكومة الإسرائيليّة آنذاك، إلى الاستقالة
والاعتكاف في بيته.
في هذا السّياق، تجدر الإشارة إلى أنّ حرب المقاومة اللّبنانيّة كانت مبنيّة
على استراتيجيّة واضحة تمثّلت في التّركيز على طرد الجيش الإسرائيلي من لبنان.
أي أنّ الحرب كانت دارت بين قوى عسكريّة لبنانيّة ضدّ العسكر الإسرائيلي في
لبنان، ولم تتّخذ المقاومة اللّبنانيّة المدنيّين الإسرائيليّين هدفًا. على هذه
الخلفيّة نشأت في إسرائيل منظّمة »أربع أمّهات« الّتي أطلقت دعوتها بوجوب
»إعادة الأبناء إلى البيت«، أي إلى الحدود الدّوليّة بين إسرائيل ولبنان.
وكلّما تضاعف استنزاف الجيش الإسرائيلي في لبنان، كلّما ارتفعت وعلت أصوات
منظّمة »أربع أمّهات« وازداد التّعاطف معها داخل المجتمع الإسرائيلي، حتّى حمل
إيهود براك هذه الدّعوة وجعلها جزءًا من برنامجه الّذي أوصله إلى رئاسة الحكومة
الإسرائيليّة، فأصدر أوامره للجيش بالانسحاب من الأراضي اللّبنانيّة فتمّ ذلك
خلال ليلة واحدة.
ماذا يعني ذلك؟ الوجود الإسرائيلي الّذي استمرّ ما يقارب عقدين من الزّمن قد
انقصر على الوجود العسكري ليس إلاّ، ولم تكن هنالك مطامع إقليميّة على الأرض،
على الأقلّ في السّياسات المعلنة للحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة. الجيوش
النّظاميّة للدّول تنفّذ أوامر حكوماتها. أي أنّ الجيش النّظامي الإسرائيلي
كانت تنقصه الأوامر الحكوميّة بالانسحاب، وحين جاء الأمر تمّ تنفيذه
فورًا.
ليست الحال على هذا المنوال فيما يتعلّق بالوجود الإسرائيلي في فلسطين. ليس
صدفة أن الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى قد انطلقت بعد جلاء الفصائل الفلسطينيّة
من لبنان وتشتّتها بعيدًا عن حلبة الصّراع. قبل إبرام معاهدات السّلام بين مصر
وإسرائيل كان الفلسطينيّون في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة ينتظرون أن يأتي
الخلاص على أيدي الدّول العربيّة المحيطة بإسرائيل، ولذلك جلسوا »في انتظار
غودو« العربي طويلاً. هكذا خرجت مصر، القوّة العربيّة الأكبر، من الصّراع
العربي الإسرائيلي، فانتظر الفلسطينيّون أن يأتي الفرج من الوجود الفلسطيني
المسلّح في لبنان. وحينما انسدّت جميع الطّرق ظهرت الإنتفاضة الأولى في فلسطين
الّتي قادت إلى أوسلو في أعقاب غزو الكويت وحرب الخليج. وها هي الإنتفاضة
الثّانية الّتي حاولت أن تستلهم من الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان دون أن تفهم
قيادات الانتفاضة هذه الفارق الجوهري بين الوضع في لبنان والوضع في
فلسطين.
خلافًا للوضع اللّبناني، ثمّ مطامع إقليميّة إسرائيليّة على الأرض في فلسطين،
وهي المطامع التي زرعت المستوطنات على طول الضّفة وعرضها، وفي قطاع غزّة أيضًا.
في الوضع الّذي نشأ خلال هذه العقود من الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين لم يعد
بوسع أيّ حكومة إسرائيليّة أن تصدر للجيش الأوامر بالانسحاب من فلسطين، فالوجود
الاستيطاني المدني الّذي تعاظم خلال هذه العقود يجعل أمرًا من هذا النّوع ضربًا
من المحال.
من جهة أخرى، لقد أحدثت العمليّات الإنتحاريّة التي استهدفت المدنيّين في
إسرائيل التفافًا حول مروّجي أيديولوجيّات استخدام القوّة في المجتمع
الإسرائيلي، وانحسارًا في صفوف حزب العمل والقوى الّتي على يساره. كذلك، فإنّ
قيام منظّمة »أربع أمّهات« على غرار ما جرى في لبنان، لا يمكن أن يحدث في هذه
الظّروف، إذ أنّ الدّعوة إلى »إعادة الأبناء إلى البيت« لا تسري هنا في هذه
الحال، لأنّ الأبناء في نظر قطاعات المجتمع الإسرائيلي الواسعة يقتلون »هنا« في
إسرائيل، وليس »هناك« في المناطق المحتلّة. وهذا هو بالضّبط الوضع الّذي جعل
شارون يكتسح الانتخابات للمرّة الثانية في إسرائيل.
هذه الحقائق والوقائع لا تفهمها القيادات الفلسطينيّة، وربّما لا تريد فهمها
أصلاً لأنّها مشتغلة إمّا يغيبيّات خارج التّاريخ، مثلها في ذلك مثل اليمين
الغيبي الإسرائيلي، وإمّا بقضايا ثانويّة، مثل من يكون وزيرًا لداخليّة وما
شابه ذلك من تسميات لوزارات لا تعني شيئًا في الوضع الرّاهن.
قد يكون الوضع الحالي في غاية التّعقيد، ولكن وصفه بهذه الصّورة لا يمكن أن
يشكّل برنامجًا سياسيًّا لقيادات الشّعوب. مهما تفاقم الوضع في فلسطين-إسرائيل
فثمّة حقيقة ينبغي للجميع أن يذوّتوها. لن يختفي أيّ من الشّعبين من هذه
البقعة، لذلك من الأحرى أن يعمل ذوو البصيرة في الطّرفين إلى بناء الثّقة بين
الشّعبين. وهذه الثّقة لا يمكن أن تحصل على أرضيّة الإحتلال والاستيطان
والتّهديم من الجهة الإسرائيليّة، وهذه الثّقة لا يمكن أن تحصل أيضًا
بالتّفجيرات واستهداف المدنيّين في إسرائيل من الجهة الفلسطينيّة.
نشرت في: الحياة اللندنية: 30 نوفمبر 2003
***
هزيمة البلاغة العربيّة
في الكليشيهات الصحفيّة يُقال إنّ الصّورة تساوي آلاف الكلمات. والصّورة الّتي
عرضتها شاشات التّلفزة على مئات الملايين من البشر تساوي أكثر من ذلك. إنّها
بحاجة إلى بعض الكلمات من النّوع الّذي لا تسمعه عادة الأذن العربيّة.
في البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة كثيرًا ما يعثر القارئ على أوصاف
الرّجال موضوعة في قوالب متحجّرة يتناقلها الرّواة مدوّنين بها أخبار السّلف.
من بين تلك الأوصاف على سبيل المثال كأن يُقال عن فلان أو علاّن: »كان رحمه
اللّه عريض المنكبين، كثّ الشّعر، طويل اللّحية، ذرب اللّسان...« وما إلى ذلك
من أوصاف لا تعني في الحقيقة شيئًا. غير أنّ الصّورة التي عُرضت على ملايين
البشر لذلك الرّجل الذي انتُشل من جحر في الأرض في أطراف تكريت أعادت إلى
الأذهان تلك القوالب المتحجّرة من تلك البلاغة العربيّة البليدة.
فهذه الصّورة للرّجل المنفوش الشّعر ذي اللّحية الكثّة والمنكبين العريضين،
بعد أن تمّ إخراجه من جحر معتم في الأرض كما تُنتشل الفئران، وتلك الأيدي
المغطّاة بكفوف طبّيّة لطبيب عسكريّ اميركي حليق الشّعر وهي تعبث في كثاثة
الشّعر المنفوش وتنير بمصباح جيب طبّيّ باطن الفم فحصًا أو بحثًا عن شيء ما قد
يكون أُخفي فيه، تقول كلّ شيء عن الفرق بين هذه البلاغة العربيّة المتوارثة
وبين الواقع. إنّها الصّورة الّتي ستنطبع في الذّهن للسّنين القادمة بوصفها
النّموذج الأوضح للفرق بين الواقع والوهم.
البلاغة في الفنّ هي كذب متعارف عليه، إذ يعرف متلقّي الفنّ جوهر هذا الكذب
ويتعامل معه منطلقًا من هذا المنظور، غير أنّ البلاغة العربيّة المتوارثة هي
شيء آخر مختلف تمامًا. البلاغة العربيّة تفعل بالمتلقّي العربيّ فعلاً سامًّا،
حيث تحمل هذه البلاغة الفرد العربيّ على أجنحتها ناقلة ايّاه من عالم الواقع
إلى عالم الوهم، فيظنّ الكذب حقيقة. وهكذا يعيش العربيّ الّذي رضع البلاغة
البليدة في فصام شديد متخيّلاً أنّ الوهم حقيقة ليس بعدها حقيقة. وحينما يعود
هذا ومن لفّ لفّه بعد فترة إلى الواقع المُعاش تكون صدمته كبيرة لدرجة أنّه قد
يفقد فيها توازنه. وهذه اللّحظة هي لحظة خطيرة للغاية إذ قد تخرج من صنف هؤلاء
الموهومين أفعال وأقوال لا تُحمد عقباها.
أنظروا مثلا إلى هؤلاء المتباكين على صورة صدّام هذه التي شاهدها مئات
الملايين من البشر. لا شكّ أنّ ذوي البصر والبصيرة يعرفون أنه هؤلاء المتباكين
على صورة صدّام الذّليل، والّذين كانوا يريدون منه أن يقاوم أو ينتحر، هم هم من
صنف أولئك الّذين يصمتون على الجرائم في كلّ مكان. هؤلاء هم هم من صنف أولئك
الّذين لو أتيح لهم يومًا ما لتجنّدوا في خدمة الدّكتاتور المجرم، في خدمة كلّ
دكتاتور وكلّ مجرم. وهؤلاء هم هم من صنف الّذين يصمتون على الجرائم المرتكبة في
أوطانهم هم متذرّعين بالحديث عن العروبة وعن »أمجاد يا عرب أمجاد«، أو عن
»الماجدات«، كما نهج الدّكتاتور على حشو خطبه، بعد أن يكون أزلامه قد عادوا من
غزوات اغتصاب هؤلاء الماجدات ومجدهنّ السّليب الذي هو مجد العراق. هؤلاء الّذين
يتباكون على صورة صدّام الذّليل، هم هم الّذين تطير البلاغة العربيّة
صوابهم.
ليس صدفة أيضًا أنّ الدكتاتور كان دائمًا يدبّج خطبه وتسجيلاته الصّوتيّة
دائمًا بأبيات من الشّعر العربيّ المنظوم على غرار الشّعر العربيّ القديم. إنّه
يفعل ذلك لانّه تربّى على هذا النّوع من الشّعر القبلي، ولأنّه يعرف ما يفعله
هذا الشّعر بقبائل العربان من إثارة للعواطف والنّعرات. إنّه السمّ الّذي لم
يتحرّر منه بعد فرسان العروبة والقومجيّة الزّائفة والكاذبة. إنّه السمّ الّذي
طالما جلب الويلات والموت على أهله ومتذوّقيه.
إحذروا هؤلاء المتباكين على صدّام وصورته الذّليلة هذه التي فضحت زيف البلاغة
البليدة. إحذروهم لأنّهم مرضى العقول والنّفوس. إحذروهم لأنّهم يشكّلون خطرًا
على مجتمعاتكم التي تنشد الحياة، في حين هم ينشدون الموت ويعيشون في أوهام
المجد الزّائف. إحذروا هؤلاء المتباكين على أمجاد العروبة، لأنّهم هم من صنف
هؤلاء الّذين لو أتيح لهم لحفروا لشعوبهم قبورًا جماعيّة كما فعل الدّكتاتور
الذّليل خلال عقود. إحذروا هؤلاء المتباكين على صورة صدّام لأنّهم صمتوا أمام
الجرائم التي اقترفها بحقّ شعبه أوّلا ومقرّبيه أوّلا قبل أن يقترفها بحقّ
الآخرين.
هل نستطيع أن ندوّن اليوم جملة جديدة عن أخبار الصّلف، فنقول: كان، لا رحمه
اللّه، عريض المنكبين كثّ الشّعر؟ وهل يشفى دعاة القومجيّة من هذا المرض
المزمن؟
إنّها أبلغ صورة لهزيمة البلاغة العربيّة.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 21 ديسمبر 2003
***
تحجيب فرنسا
وأخيرًا جاءت كلمة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في أعقاب قضيّة ارتداء الحجاب في
المدارس الفرنسيّة، حيث صرّح فيها عن رأيه بشأن المبدأ غير القابل للتّفاوض
بشأن علمانيّة الجمهوريّة الفرنسيّة ومبدأ فصل الدّين عن الدّولة، وعدم السّماح
بإدخال الرّموز الدّينيّة إلى المدارس والمؤسّسات العامّة في الدّولة
الفرنسيّة. كان من المتوقّع أن ترتفع الأصوات العربيّة الأصوليّة ومن يدور في
فلكها من العرب وغيرهم منتقدة موقف الرّئيس الفرنسي. لكن، تجدر الإشارة إلى
أنّه حينما أصدر وزير التّربية الفرنسي في العام 1973 التّعليمات بإزالة كلّ
الرّموز الدّينيّة من المدارس لم يثر أحد على هذه التّعليمات، وفي حينه لم تكن
هناك أقليّة إسلاميّة كبيرة في فرنسا كما هي الحال الآن.
ما من شكّ في أنّ على كلّ عربيّ متنوّر أن يبارك خطوة الرّئيس الفرنسي هذه
الّتي تحاول الإبقاء على الطّابع العلماني لفرنسا. فالحجاب الّذي يفرض تحت ضغوط
اجتماعيّة على الفتيات في البلدان الإسلاميّة والعربيّة، والآن في أوروپا، لا
يعني إلاّ أنّ ثمّة نظرة مريضة لدى رجال الدّين هؤلاء ومن يدعم توجّهاتهم.
هؤلاء يرون في كلّ شيء من جسد الأنثى، حتّى وإن كانت طفلة بعمر ستّ سنوات أو
تسع سنوات مثلاً، موضوعًا جنسيًّا فحسب، أو عورة يجب سترها. غير أنّ العورة
الحقيقيّة قائمة في ذهن هؤلاء الرّجال ومن يوّيّدهم، وهم بالذّات من يتوجّب
عليهم أن يضعوا الحجاب على عقولهم المريضة. إنّ مبدأ فصل الدّين عن الدّولة هو
المبدأ الّذي يرتقي بالمجتمعات كلّ المجتمعات، وهو المبدأ الّذي يجب حمايته
بكلّ الوسائل أمام محاولات المساس به وإفراغه من مضمونه، مثلما يحاول كلّ هؤلاء
الّذين ينصّبون أنفسهم مسؤولين عن أخلاق المجتمع وسلوكيّاته، بينما الأخلاق هي
أبعد ما تكون عنهم.
هنالك عرب ليبراليّون وعلمانيّون، بل وحتّى عرب متديّنون، ناهيك عن النّساء
العربيّات اللّواتي طالما ناضلن من أجل رفع الضّيم الذّكوري والمجتمعي عنهنّ
يجب على هؤلاء جميعًا أن لا يخشوا من إسماع أصواتهم على رؤوس الأشهاد. فلو نزع
العرب في بلادهم إلى فصل الدّين عن الدّولة، مثلما فعلت الجمهوريّة الفرنسيّة،
لما كانت مجموعات كبيرة منهم بحاجة إلى الهجرة من بلادها إلى الدّول المتقدّمة
علميًّا وحضاريًّا. نعم، لو أفلح العرب في اتّخاذ هذا المبدأ هاديًا لهم،
لتغيّرت مجتمعاتهم من أساسها ولظلّوا وعاشوا في بلادهم دون أن يهاجروا بحثًا عن
رزق أو حريّة فرديّة. ولو أفلح العرب في ذلك لتحرّرت المرأة العربيّة من أكبال
الذّكوريّة العربيّة الغبيّة، دينيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ولقامت بدورها في
بناء المجتمع العربي على أسس أكثر تطوّرًا وانفتاحًا. لو فعل العرب ذلك لكانت
صورة المجتمعات العربيّة بعيدة جدًّا عن هذا الدّرك والخواء السّياسي
والإجتماعي والثّقافي الّذي نشهده خلال عقود، إن لم نقل خلال قرون.
نعم، هؤلاء الّذين يطالبون بفرض الحجاب على المرأة، وأولئك الّذين من ورائهم
هم هم الّذين يتشدّقون بأنّ الإسلام هو الحلّ، وهم هم الّذين يمارسون القمع
الذّكوري العربيّ سياسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا حيثما حلّوا، ليس على المرأة
فحسب بل على المجتمع برمّته. يجب التفكُّر قليلاً في ما يُقال بهذا الصّدد. هل
هي صدفة أنّ كلّ الّذين يوجّهون الانتقاد إلى الرّئيس الفرنسي بسبب خطوته هذه
هم من نوع هؤلاء الّذين يتباكون على الدّكتاتوريّات العربيّة المنهارة؟ ثمّ،
أليس في هذه الحقيقة ما يكفي من شهادة فاضحة على جوهر هؤلاء ومنطلقاتهم
الإجتماعيّة، السّياسيّة والثّقافيّة؟
يجب أن نقول كلمتنا صراحة ودون مواربة. ليست الدّعوة إلى السماح بارتداء
الحجاب الّتي يطالب بها البعض سوى دعوة مبيّتة لاستمرار استصغار النّساء في
المجتمعات العربيّة على جميع الأصعدة. ومن هنا، فإنّ على كلّ المتنوّرين العرب
أن يبعثوا برسالة تحيّة إلى الرّئيس الفرنسي شيراك على موقفه هذا. إذ أنّ
الطّريق المثلى إلى تطوُّر المجتمعات العربيّة في البلاد العربيّة، ناهيك عن
العرب المقيمين في أوروبا وأماكن أخرى خارج العالم العربي، تبدأ بالضّبط من هذه
النّقطة، أي من زاوية النّظر إلى المرأة. وفيما يخصّ تطوُّر المجتمعات العربيّة
فإنّ المرأة المتحرّرة من العبوديّة الذّكوريّة هي الحلّ، وليس أيّ شيء
آخر.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: 28 ديسمبر 2003
***
الخروج من المأزق العراقي
حين يتحدّث العروبيّون عن وحدة التّراب العراقي فإنّما هم يتحدّثون عن قداسة
هذه الحدود الّتي رسمها الاستعمار البريطاني على أنقاض الإمبراطوريّة
العثمانيّة. أي أنّهم في الواقع غارقون في تناقض جوهري مع توجّهاتهم وشعاراتهم
الرّافضة للاستعمار ومخلّفاته. لكن، أيًّا ما كانت التّوجّهات العروبيّة أو
غيرها، فإنّ أمرًا واحدًا لا بدّ أن يؤخذ بالحسبان عند التّطرُّق إلى الوضع
العراقي الرّاهن. فالعالم كما هو مبنيّ من حولنا في هذا العصر، إنّما هو مبنيّ
على هذا الإجماع الدّولي وعلى هذه الحدود المرسومة في المنطقة وسائر بقاع
العالم، وبدونه لن تصل المنطقة ولا العالم المحيط بها إلى استقرار ولا إلى
ازدهار.
لا يشكّ أحد في أنّ الاحتلال الأميركي سيخرج من العراق عاجلاً أم آجلاً. ولكن،
وقبل ذلك لا بدّ من التّوصّل إلى صيغة تجعل الحياة العراقيّة كريمة وممكنة في
بلد متعدّد الإثنيّات والطّوائف. وهذه الصّيغة، لكي يُقدَّر لها أن تستمرّ، يجب
أن تشتمل على كوابح دستوريّة تضمن أوّلاً وقبل كلّ شيء حقوق الأقليّة قبل ضمان
حقوق الأكثريّة. وإذا ما أفلح العراق، على إثنيّاته وطوائفه المختلفة، في
الوصول إلى صيغة من هذا النّوع فيمكنه أن يشكّل نموذجًا لهذه الحياة الكريمة
والحرّة والعادلة. وقد تكون هذه هي بالضّبط الصّيغة التي يبحث عنها مجلس الحكم
الإنتقالي في العراق في هذه الأيّام.
أوّلاً، لأنّنا نعرف طبيعة مجتمعاتنا العربيّة والشّرقيّة ومدى تجذُّر النّهج
القبلي والدّيني والإثني فيها، فهناك حاجة إلى صوغ طمأنات دستوريّة من شأنها أن
تكبح أيّ شكل من أشكال التفرُّد بالسّلطة الّذي أفضى ويُفضي إلى هذه
الدّكتاتوريّات الّتي طالما جلبت الويلات على شعوب المنطقة. لهذا السبب، يجب أن
نقولها صراحة مع أنفسنا: إنّ ديمقراطيّة ا»لفرد الواحد والصّوت الواحد« لا تنفع
في مجتمعات تسير على هدي مبدأ »أنصر أخاك ظالمًا أم مظلومًا«. إذ أنّ هذا
المبدأ يتناقض جوهريًّا مع العدل الدّيموقراطي الّذي نتبجّح جميعنا بأنّنا
ننشده ونطالب به.
من هذا المنطلق، وما دمنا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد القبليّة، فثمّ حاجة
ماسّة إلى وضع هذه الكوابح الدّستوريّة الّتي تطمئن الجميع من سائر الإثنيّات
والطّوائف، وتجعلها على يقين بأنّ حقوقها مضمونة ومحفوظة دستوريًّا لا خوف
عليها. وإذا ما أخذنا الوضع في العراق نموذجًا لهذه الصّيغة الّتي ننشدها فإنّ
الخطوط العريضة للخروج من المأزق قد تكون على النّحو التّالي:
دون التّشبّث بشعارات بلاغيّة فاضية عن الشّعب الواحد وما إلى ذلك من مصطلحات،
علينا أن نعترف أنّ ثمّة مجموعات سكّانيّة كبرى لها خصوصيّاتها وروابطها
الوثيقة، مثل الشّيعة، والسنّة، والعرب والأكراد إضافة إلى سائر الأقليّات
الدّينيّة والإثنيّة الأخرى. هذا هو الواقع في العراق، وهذا هو واقعنا جميعًا،
ويجب أن نراه كما هو وأن لا ندسّ رؤوسنا في الرّمال متجاهلين وجوده. لكنّنا، من
جهة أخرى، علينا أن نأخذ بمبدأ الانتخابات الدّيمقراطيّة لأنّها الطّريق المثلى
في نهاية المطاف لخلق مجتمع مدنيّ ينشد التّطوُّر. إذن، والحال هذه، كيف يمكن
التّقريب بين هذه المتناقضات للوصول إلى برّ الأمان؟
إذا ما اعترفنا بهذا الواقع القائم على الأرض فإنّ الدّستور الّذي يبحث في
صياغته العراقيّون يجب أن ينصّ على تناوب الرّئاسة في العراق بين المجموعات
الكبرى الثّلاث. من بين المبادئ الّتي قد ينصّ عليها دستور من هذا النّوع،
مثلا، أن لا تستمرّ فترة الرّئاسة لأكثر من دورتين رئاسيّتين، أي لمدّة عشر
سنين. معنى هذا أنّ الرّئيس العراقي يكون شيعيًّا أو سنّيًّا أو كرديًّا كلّ
عشرين سنة، وينتخبه العراقيّون جميعًا في انتخابات ديمقراطيّة. هذا المبدأ
الدّستوري، إذا ما أجمع عليه العراقيّون، فيه ما يكبح إمكانيّة التفرُّد
بالسّلطة من قبل طرف من الأطراف، وفيه أيضًا ما يطمئن قطاعات المجتمع العراقي
الأخرى بأنّها عضو حيّ وفاعل من أجل العراق كلّ العراق بجميع أطيافه. أمّا إذا
رفضت مجموعة ما من هذه المجموعات هذا المبدأ فإنّ رفضها يعني شيئًا واحدًا ليس
إلاّ، وهو أنّ نواياها غير طيّبة بالمرّة فيما يخصّ سائر المجموعات. ومعنى هذا
أيضًا أنّ العراقيين لن يصلوا أبدًا إلى برّ الأمان.
إنّ الأخذ بمبدأ تناوب الرّئاسة كلّ عشر سنين بين المجموعات السكانيّة
العراقيّة الكبرى، وكلّ عشرين سنة لكلّ مجموعة من بين هذه المجموعات قد يُخرج
العراق من مأزقه، ومن دكتاتوريّاته المتوارثة عبر تاريخه الطّويل. من شأن مبدأ
دستوري من هذا النّوع أن يشكّل في نهاية المطاف نموذجًا يُحتذى في سائر المشرق،
إلى أن يحين الحين ونصل جميعنا إلى مجتمع المواطنة في دولة المواطنين غير
القبليّة. لكنّ هذه المرحلة، أي مرحلة ما بعد القبليّة هي بعيدة المنال الآن،
بل ربّما من الصّعب الوصول إليها في المستقبل المنظور بسبب طبيعة مجتمعاتنا.
وكفانا مكابرات بشعارات طنّانة تذهب أدراج الرّياح مع كلّ هبوب نسمة خفيفة في
واقعنا العربيّ. إذا نجحت التّجربة العراقيّة فستشكّل نبراسًا لسورية ولمصر
ولسائر المشرق والمغرب. أمّا إذا فشل العراقيّون في ذلك، فسيكون هذا الفشل
تعبيرًا واضحًا عن فشلنا نحن جميعًا، مجتمعًا وحضارة.
نشرت في: الحياة اللّندنيّة: ٤ يناير 2004
***
أفكار معروضة للسّرقة
مانيفست - خطوط عريضة لنظام عربي جديد:
كثيرًا ما تعلو في ذهن الفرد العربي في هذه البقعة من الأرض تساؤلات حول ما
جرى، ما هو جارٍ، وما سيجري في أحوال الشّعوب العربيّة من سكّان هذه البقعة
في المستقبل المنظور. إذ لا يخفى على أحد أنّ الأحوال العربيّة لم تعد تُطاق،
وهي حقيقة يشعر بها الصّغير والكبير، الرّجل والمرأة، المَدَر منهم
والوَبَر.
ما من شكّ في أنّ لكلّ أمّة من الأمم تاريخها وخصوصيّاتها الحضاريّة. ولأنّ
العرب ليسوا فرنسيّين فمن المستبعد أن تحدث في ربوع العرب ثورة شبيهة
بالثّورة الفرنسيّة. ولقد علّمنا التّاريخ العربي والإسلامي على مرّ العصور،
منذ القدم وحتّى عصرنا الحاضر، أنّ كلّ ما يُطلق عليه مصطلح ثورة في التّاريخ
العربي قديمه وحديثه، لم يكن سوى حالة من حالات التّمرُّد الّتي لم تُحدث
تغييرًا جذريًّا في أيّ من الرّكائز والمفاهيم الّتي يقوم عليها المجتمع
العربي، بل استبدلت هذه "الثّورات" المزعومة نظامًا مستبدًّا واحدًا بنظام
مستبدّ آخر، ليس إلاّ. ولهذا السّبب لا نستغرب كيف نهج العرب على استخدام
مصطلح "دولة" لهذه الكيانات الّتي تقوم إثر هذه التّمرّدات. هكذا كانت دولة
بني أميّة ودولة بني العبّاس في ما سلف من قرون، وانتهاءً بالكيانات القائمة
في هذه الأيّام. يقال في العربيّة: "الأيّام دُوَل" والدّهر ذو دُوَل، أي
تتغيّر وتتبدّل الأحوال بتبدّل الأزمان. لقد استبدّ العرب، على مرّ تاريخهم،
بالمصطلح دولة، وتناسوا ما يحويه هذا المصطلح من معنى تداول السّلطة سلميًّا.
وهكذا أضحت الدّولة في المفاهيم السّياسيّة العربيّة لا تعني سوى تبدُّل
المستبدّين القبليّين على صدور هذه التّشكيلة الغريبة العجيبة من البطون
والأفخاذ الّتي تشكّل في مجملها الأقوام العربيّة.
ستراعي هذه الخطوط العريضة خصوصيّات هذه المجتمعات من جهة، وتضع من جهة أخرى
كوابح دستوريّة من شأنها أن تُحرّر هذه المجتمعات من موروثاتها الّتي شكّلت
في الماضي ولا زالت تشكّل في هذا العصر عائقًا أمام تطوّر هذه المجتمعات.
والغاية من هذا الطّرح هي دفع هذه المجتمعات العربيّة إلى الانضمام إلى ركب
التّطوّر البشري الّذي يغذّ الخطى قدمًا دون توقُّف. وذلك لكي تخرج المجتمعات
العربيّة من القيعان الآسنة الّتي وجدت نفسها فيها طوال هذه القرون الأخيرة،
أكانت هذه القيعان الآسنة اجتماعيّةً، سياسيّةً أم ثقافيّة.
الكيانات السّياسيّة الّتي قامت في الوطن العربي الكبير، إثر اندثار الدولة
العثمانية، وإثر جلاء الاستعمار فيما بعد، هي كيانات مختلفة التّراكيب
ومتعدّدة المشارب من ناحية أنظمة الحكم القائمة فيها. فمنها الممالك
والسّلطنات والإمارات، ومنها ما ينحو منحى الدّول الجمهوريّة، مع أنّ هذه
الأخيرة بدأت تتضّح أنّها لا تختلف عن الممالك من ناحية توريث الأبناء في
الحكم. بل وبدأ يتّضح أكثر فأكثر في العقود الأخيرة أنّ الممالك والسّلطنات
والإمارات، على العموم، كانت أكثر رحمة بشعوبها من كلّ تلك الدّول
"الثّوريّة" اسْمًا، والاستبدايّة حُكْمًا.
ولذلك، ولأن الطّبع العربي البَرِّي يغلب التّطبُّع البِرِّي، فمن الأحرى أن
ننظر في دواخلنا لنقف على أسباب تخلّفنا عن سائر البشر. لن يفيدنا الاستمرار
في دسّ رؤوسنا في الرّمال، مهما حاولنا أن نتهرّب من مواجهة حقائقنا كما هي.
من هنا، ولقناعتنا بأنّ الحليب الحضاري الّذي رضعناه من تراثتنا الاجتماعي
والثّقافي والسّياسي لا يزال فاعلاً فينا حتّى هذه اللّحظة، نجد لزامًا علينا
أن نضع أمام ما تبقّى من أصحاب ضمير من أفراد هذه الأمّة، بعض المبادئ
الدّستوريّة لعرضها على النّاس كي تحظى بإجماع وطني على الخطوط العريضة الّتي
سنعرضها هنا، لتشكّل هذه ركيزة متينة لمجتمعات تطمح إلى المشاركة في ركب
التّطوّر البشري كشريك فاعل في المجتمع البشري، لها ما له وعليها ما
عليه.
يجب العمل على تحويل الممالك العربيّة إلى ممالك دستوريّة تعمل بموجب نظام
عصريّ جديد. ويتلخّص هذا النّظام في أنّ الملك في هذه الكيانات يتمّ انتخابه
من قبل مجالس للشّيوخ، وذلك لأجل محدود أقصاه خمسة عشر عامًا. وبانتهاء مدّته
ملكيّته، ينعقد المجلس لانتخاب ملك جديد لا يكون من أبنائه. يمكن انتخاب أحد
الأبناء ملكًا فقط بعد انتهاء مدّة ملكيّة واحدة، أي بعد خمسة عشر عامًا،
تفصل بينه وبين والده. إلى جانب الملك تعمل حكومة منتخبة من قبل الشّعب، على
غرار الممالك الأوروپيّة.
أمّا في الدّول الّتي تعمل بنظام رئاسي جمهوري، يتمّ انتخاب الرئيس
بانتخابات ديمقراطيّة متعدّدة المرشّحين، وذلك لدورتين انتخابيّتين فقط، أو
ما يساوي عشرة أعوام لا غير. بانتهاء الأعوام العشرة، فيما لو تمّ انتخاب
الرئيس مرّتين متتاليتين، يُحال الرّئيس إلى التّقاعد، ويتمّ انتخاب رئيس
جديد مكانه. إلى جانب الرئيس تعمل حكومة يسمّيها الرئيس من بين أعضاء
البرلمان المنتخب في انتخابات ديمقراطيّة متعدّدة الأحزاب.
لا يُسمح لابن الرئيس أو شقيقه في النّطام الرئاسي، بأن يُرشّحا نفسيهما
للرئاسة بانتهاء رئاسة الوالد أو الشّقيق، إلاّ بعد انتهاء دورتين
انتخابيّتين. أي، بعد عشرة أعوام من غياب الوالد أو الشّقيق عن منصب
الرّئاسة. الأبناء والأشقّاء هم مواطنون كغيرهم من المواطنين، ولذلك يحقّ لهم
التّرشُّح، غير أنّ هذا الحقّ يجب أن تفصله مدّة زمنيّة عن رئاسة الوالد أو
الشّقيق هي عشرة أعوام.
بالإضافة إلى ما ذكرنا آنفًا، يجب العمل على ترسيخ المبادئ العليا التّالية
دستوريًّا:
أوّلاً: فصل الدّين عن الدّولة فصلاً تامًّا.
ثانيًا: الفصل التّام بين السّلطات: القضائيّة، التّشريعيّة
والتّنفيذيّة.
ثالثًا: حريّة المعتقد الدّيني والفكري والسّياسي للمواطن. وهذه الحريّة
تعني أيضًا: الحريّة أو التّحرُّر من المعتقد الدّيني والفكري
والسّياسي.
رابعًا: المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في كلّ مجالات الحياة، وبلا
لفّ أو دوران.
خامسًا: المواطنون، رجالاً ونساء بكافّة معتقداتهم الدّينيّة وغير
الدّينيّة، متساوون أمام القانون، وحقوقهم هذه مكفولة دستوريًّا، لا يمكن
نقضها بأيّ حال من الأحوال.
سادسًا: الوطن، بكافّة موارده، هو ملك للمواطنين أجمعين.
سابعًا: الملوك، الأمراء، الرّؤساء وسائر المسؤولين المنتدبين من قبل الشعب
هم موظّفون في خدمة الشّعب، ويعاملون معاملة الموظّفين ليس إلاّ.
ثامنًا: بانتهاء الخدمة الدّستوريّة للملك أو الرئيس، يُحال إلى التّقاعد
مُعزْزًا مُكرّمًا. وبوسعه الاستمرار في خدمة الشّعب طوعيًّا من خلال مؤسّسات
المجتمع المدني.
وملاحظة أخيرة:
هذه الأفكار معروضة هنا للسّرقة، وبوسع أهل الفكر العرب، والسّاسة العرب،
ونوّاب البرلمانات العربيّة والوزراء والرؤساء والملوك والأمراء سرقتها
وتعميمها على رعاياهم وعلى جامعتهم العربيّة ووسائل إعلامهم. لقد آن الأوان
إلى سرقة هذه الأفكار والمبادئ والعمل بها، بدل العمل على سرقة أموال وموارد
الشّعوب العربيّة كما عوّدونا طوال تاريخهم.
إنّي على يقين بأنّ من يعارض هذه الأفكار والمبادئ يجب أن تُثار الشّكوك
حوله وحول نواياه، لأنّ هذه المبادئ والأفكار هي الفيصل بين من يضمر الخير
للنّاس وبين من يضمر لهم الشرّ. كما إنّي على يقين أيضًا بأنّه لا يمكن
الخروج من المأزق العربي ما لم يُعمَل على ترسيخ هذه المبادئ لنظام عربيّ
جديد. ألا هل بلّغت!
نشرت في إيلاف
***
0 تعليقات:
إرسال تعليق