مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم

أرشيف: مقالة نشرت في صحيفة الحياة، سنة 2001

كثيرا ما يقال ان أذرع الصهيونية الطويلة قد طالت كل مراكز القوى الاعلامية الغربية حتى بات من العسير اختراقها أو تحويل وجهتها العدائية.
 
سلمان مصالحة ||
مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم


كثيرًا ما يدور الحديث عن اتسام الرأي العام الغربي بالجهل في أفضل الاحوال، وبالعدائية في أسوئها، تجاه القضايا العربية، وقضية فلسطين على وجه الخصوص. وكثيرا ما يقال ان أذرع الصهيونية الطويلة قد طالت كل مراكز القوى الاعلامية الغربية حتى بات من العسير اختراقها أو تحويل وجهتها العدائية.

كثيرًا أيضًا ما يشاع أن النظرة الغربية الى العالم العربي نظرة نمطية، لا ترى الأطياف المختلفة في هذه الرقعة الواسعة من الأرض. وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن الى حد ما. أما إذا توخينا الصراحة مع أنفسنا، فما علينا إلا أن نثير سؤالًا آخر وهو، هل هنالك مسؤولون آخرون عن هذا الوضع؟ نستطيع الاستمرار في تحميل الصهيونية العالمية والامبريالية وزر هذا التسطيح للعرب، كما نستطيع أن نركن الى طمأنينة التذمر من هذا الوضع في الفضائيات العربية، ومحاولة إقناع أنفسنا بما هو ليس منا.

أولئك الذين يتذمرون من النظرة النمطية للعرب في وسائل الاعلام الغربية هم هم الذين لم يفلحوا بعد في تخطي النظرة النمطية للغرب ذاته الذي يتهمونه بذات التهمة. فما عدا قلة قليلة من رجال الفكر والاعلام العرب، فإن السواد الأعظم منهم يرون العالم الغربي من خلال منظار أحادي الأبعاد. وما هذه الشواذ إلا اشارة الى القاعدة التي تحكمت بتلابيب الاعلام العربي سنوات طويلة.

هنالك حقيقة لا بد من الاشارة اليها، وهي أن العالم العربي لا يولي اهتمامًا يذكر للرأي العام. والسبب أن العالم العربي لا يعترف أصلًا برأي عام. فهل يوجد رأي عام في هذا العالم العربي، غير ذلك الذي يأتي عبر وسائل الاعلام الرسمية؟ ثم أليست وسائل الاعلام في العالم العربي أجمعين وسائل إعلام رسمية حكومية، أو شبه رسمية؟ ولا فرق بين الاثنتين عربيًا إلا في ما ندر. ولانعدام وجود رأي عام عربي قد يأتلف وقد يختلف علانية أمام عيون الناس وعلى مسامعهم في تصوراته تجاه القضايا المطروحة، فكيف يمكن إقناع الآخرين بأننا لسنا كلًا مختزلًا في رأي واحد، هو على العموم رأي السلطة، أو ما تسمح بنشره هذه السلطة علنًا لأهداف هي أبعد ما تكون عن الرأي العام الحقيقي؟

فإذا أخذنا نموذجًا غربيًّا للرأي العام، كبريطانيا على سبيل المثال لا الحصر، فهناك قد تثار في وسائل الاعلام بعامة، رسمية وغير رسمية، قضايا مثل: هل يجدر الاستمرار في النظام الملكي، أو هل يجدر الإبقاء على صلاحيات الملكة كما هي، وما الى ذلك من مسائل تهم البشر في المملكة المتحدة. قد تظهر كل هذه القضايا في الصحافة ووسائل الاعلام من دون أن "تقع خشبة من السماء" كما يقال. فكروا قليلا، ماذا كان سيحدث عندنا لو أن قضايا من هذا النوع أثيرت في وسائل إعلام عربية، في هذا البلد أو ذاك، في العالم العربي. وهل بالامكان أصلًا إثارة مثل هذه القضايا؟ وإذا تجاوزنا الأنظمة الملكية، الى أنظمة يطلق عليها مصطلح جمهورية، مع أنه لا فرق بين النظامين في العالم العربي، وعلى وجه الخصوص بعد هذه البدعة السياسية العربية، كما حدث في سورية من توريث. فهل يمكن طرح أسئلة علانية بشأن هذه الجمهوريات في وسائل اعلامها، وهل يمكن طرح اسئلة علانية عن استمرار هذه الرئاسات الجمهورية في كل البلدان العربية عشرات السنين من دون تبديلها حتى بشخص آخر؟ فإذا لم تكن هذه القضايا هي جوهر الرأي العام، وهي ما يهم المواطن العربي، فما هو الرأي العام إذن؟ هل هو تعليق كل المآسي العربية على شماعة الغرب واسرائيل، وهو الرأي - العظمة - التي تسمح كل هذه الأنظمة للكتّاب بالتلهي بها شرط الابتعاد عن "ثوابت الأمة"، و"مسلمات المجتمع"، و"القضايا المصيرية"، وما الى ذلك من تعابير واصطلاحات رنانة كل هدفها الإبقاء على هذه الأنظمة جاثمة على صدور العباد، بالرغم من كل المآسي التي جلبتها هذه على شعوبها، من دون أن تكون أمام الناس أي فرصة لمحاسبتها، ولو جماهيريًا في وسائل الاعلام على الأقل.

وهكذا، والحال هذه، فقد تحول الرأي العام العربي الى مكان آخر. هذا المكان هو ساحات المساجد، اذ أن المساجد هي المكان الوحيد الذي يشعر الحكام العرب، وكتّابهم المرتزقون، بعقدة نقص ازاءها.

وهكذا، وبعد كل هذه المسيرة في العقود الأخيرة، يظهر العرب أمام العالم في صورتين، إما رسمية تهلل لأنظمة هي أبعد ما تكون عن الانفتاح والليبرالية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان وما الى ذلك من قيم تنشدها الشعوب المتحضرة، واما تلك الصورة التي تظهر من خلال ساحات المساجد وما تبثه من عنف كلامي، وغير كلامي، تجاه كل ما تمثله الحضارة العصرية. هذا هو أساس تلك النظرة النمطية تجاه العرب في وسائل الاعلام الغربية، وغير الغربية أيضاً، وما على الكتّاب العرب إلا أن ينظروا الى أنفسهم في المرآة أولا، قبل كيل الاتهامات في كل اتجاه.

هنالك سبيل للخروج من هذا المأزق، وهو سبيل ليس سهلًا على كل حال. لكن، آن الأوان الى رسم معالمه أمام الناس جهراً. على كل أولئك الذين يتذمرون من هذه الحال التي آلت اليها صورة العرب، ان يشمروا هم عن سواعدهم ابتغاء تحطيم هذه الصورة النمطية التي صارت سمتنا. وعلى كل واحد فينا أن يبدأ ببيته، بلده، أولا، وعلى قدر استطاعته. وإن لم يحدث ذلك، فلن يتغير شيء، لا في العالم العربي، ولا صورة العرب في الغرب، وسيبقى العرب منشغلين في إقناع أنفسهم بأنهم ضحية، وسيقضون نحبهم في الانتحاب على أمجاد تليدة أكل الدهر عليها.
*
نشر: ملحق تيارات،
الحياة، 11/11/2001

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!