أرشيف (1994): وذكّر إن نفعت الذكرى
*
خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين.
سلمان مصالحة ||
في أوسلو راحت القدس
لا شكّ أنّ الملك حسين حينما يمرّ بطائرته فوقنا هنا ميمّمًا نحو أوروپا ينظر من شبّاكه إلى ما يجري تحته. ولا شكّ أنّه حينما حلّق فوق القدس ليلقي نظرة على الملايين الّتي صرفها لترميم قبّة الصّخرة قد شاهد، بين ما شاهده، كلّ المعالم الجديدة لهذه المدينة المحتلّة. لا شكّ أنّه شاهد جميع المستوطنات الّتي أقيمت حول القدس لتحدق بها من جميع الجهات بغية فرض الأمر الواقع على هذه المدينة الّتي تصرّ إسرائيل على أنّها خارج المفاوضات. لقد شاهد كيف تحوّلت هذه المدينة المحتلّة تحت سياسة التّعمير والاستيطان إلى مدينة إسرائيليّة كبيرة، بحيث تحوّل الفلسطينيّون فيها إلى أقليّة. ولم تعد القدس العربيّة المحتلّة سوى حارة صغيرة ضمن حدود المدينة الكبرى.
خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين. وإن لم يكن الأمر كذلك فكيف تفسّرون عدم اهتمام العرب والمسلمين بالقدس، فلم يقوموا بالبناء المكثّف في المدينة، ولم يقوموا بتطويرها لتصبح محجّة مزدهرة من النّاحية الحضاريّة والسكّانيّة. وهكذا ظلّت بعيدة عن أنظار النّاس، اللّهمّ إلاّ فيما ندر، وحتّى هذا النّادر كان نادرًا أيضًا.
ألا تلاحظون أنّ المصطلح الّذي يُطلق على القادة في العالم العربيّ، أعني، لقب »الزّعماء العرب« قد اشتقّ من الزّعامة الّتي اشتقّت من الزّعم. فهؤلاء الزّعماء في الحقيقة يزعمون أنّهم يمثّلون الجماهير العربيّة، ويزعمون أنّهم يسهرون على مصالحها. وهم يزعمون أيضًا، مثلما زعموا دائمًا، أنّهم يهتمّون بمدينة القدس. والحقيقة كما يعلم ذوو البصائر هي غير ما يزعمون.
لقد مضى عام على اتّفاق أوسلو بين منظّمة التّحرير وبين إسرائيل، وكانت مسألة القدس من أهمّ النّقاط الّتي استثناها هذا الاتّفاق، بين ما استثناه من نقاط جوهريّة أخرى. لم تكن ثمّ طريق أمام الزّعامة الفلسطينيّة سوى طريق الاختيار بين الانهيار التّام، أو إنقاذ نفسها إلى أجل مسمّى والوقوع في الفخّ الّذي نُصب لها في غزّة وأريحا.
وهكذا، اكتملت خيوط اللّعبة الإسرائيليّة مع الأردنّ، وربّما مع دول عربيّة أخرى. ألا تذكرون كيف كان رابين وپيرس يحثّان عرفات على القدوم إلى غزّة بعد أن تباطأ الأخير في تونس. فقد كان الفخّ منصوبًا وحاضرًا للإطباق عليه. وهكذا أسرع الملك حسين بعد ذلك لالتقاط عظمة الإشراف على الأماكن المقدّسة في القدس العربيّة المحتلّة، لأنّ هذه العظمة هي الّتي تهمّه، وذلك لأسبابه الخاصّة التّاريخيّة مع العائلة المالكة في شبه الجزيرة العربيّة.
وبالنّسبة لإسرائيل، على الرّغم من بعض الأصوات الّتي ندّدت بمنح الأردن حقّ الإشراف على الحرم القدسيّ، فلم يتغيّر شيء على أرض الواقع وبقيت هي المسيطرة على القدس بكاملها.
والآن، ستحاول الحكومة الإسرائيليّة بكلّ ما أوتيت من حنكتها السياسيّة أن تُنهي جميع بنود الاتّفاق مع الأردن، وربّما مع دول أخرى مرجئة قضيّة القدس مرّة أخرى إلى أجل آخر. وبعد أن يتمّ كلّ ذلك، هل سيبقى أمام الزّعامة الفلسطينيّة أيّ وسيلة للضغط على إسرائيل بالتّراجع عن مواقفها المتزمّتة بشأن القدس؟ في الواقع، أشكّ في ذلك كثيرًا.
هنالك جانب آخر لعدم الاهتمام بالقدس، ليس فقط على الصعيد السياسيّ بل على الصّعيد الثّقافي والحضاري الجماهيري. في الآونة الأخيرة بدأت تنتقل النّشاطات الثّقافيّة إلى رام اللّه، وقلّما تجري أيّ فعاليّات ثقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة. قد يكون ذلك قد نشأ بسبب الطّوق الّذي فرضته إسرائيل على القدس المحتلّة أمام سكّان الضّفة والقطاع، لكن أليس من حقّنا أن نتساءل عن هذا القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي. ثمّ أليس من واجب الفنّانين والمثقّفين ورجال الفكر الفلسطينيّين أن يجعلوا من القدس عاصمة ثقافيّة للشّعب الفلسطيني.
إنّ انعدام النّشاطات الثّقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة الّتي من شأنها أن تستقطب جماهير كثيرة ووضع القدس في سلّم الأولويات الحضاريّة لهو مسمار آخر يدقّ في تابوت القدس العربيّة المحتلّة. وإن لم يتمّ تدارك ذلك الآن ستتحوّل القدس العربيّة المحتلّة إلى حارة مهملة في مدينة إسرائيليّة، على غرار يافا، وعكّا، أو ربّما أكثر من ذلك. هل تتذكّرون غرناطة؟
فليكتب الشّعراء القصائد العصماء.
*
نشرت: كل العرب، 16 سبتمبر 1994
0 تعليقات:
إرسال تعليق