لقد آن الأوان أن نكفّ عن إبداء الاندهاش والاستغراب ممّا يجري في ربوعنا. لقد آن الأوان أن نغيّر ما بأنفسنا من مسبّبات الفتن. حقيقتنا المرّة هي أنّنا لن نصل إلى سواء السبيل ما لم نسأل أنفسنا السؤال الأكبر: من نحن؟
سلمان مصالحة ||
عن الفتن النائمة وعن موقظيها
بداية، لا مناص من طرح السؤال: لماذا نحن العرب نحبّ السبات؟ والجواب: لأنّنا إذا استيقظنا ونظرنا حولنا وجدنا أنّنا أكوامًا مكدّسة من الشراذم لا يجمع بيننا شيء، اللّهمّ سوى كلام الشعراء المعسول عن كوننا ننتمي إلى أمّة وحضارة واحدة. غير أنّ الحقيقة المرّة هي خلاف ذلك قطعًا. فكلّما هبّت ريح في الأصقاع العربية وحرّكت الرمال الهامدة كشفت تحت هذه الرّمال جمرًا متّقدًا. وهكذا، يكفي أن يلقي البعض منّا عودًا من أعواد ثقافتنا اليابسة والغارقة في السبات لكي تشتعل نيران الفرقة والشرذمة من جديد لتطال ألسنة هذه النيران الأخضر واليابس الذي ينوجد في جوارها.
لذلك، ومنذ القدم ورد وشاع في اللغة العربية قول منسوب للرسول العربي: ”الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها“. فماذا يعني هذا القول؟ لو تفكّرنا فيه مليًّا لوجدنا أنّنا، ومنذ أن شاع هذا القول على ألسنة الناس، نعرف أنّ هذه الفتنة كامنة بين ظهرانينا وهي فقط في حالة من السبات، ليس إلاّ. وبدل أن ننظر في الحيثيّات والمسبّبات لهذه الفتنة، وبدل أن نبحث عن إيجاد السبل للخروج من هذا المأزق البنيوي الذي نحن فيه، فإنّنا نفضّل الهرب من مواجهة هذه الحقيقة، ولا نملك غير الدعوة إلى العودة الـ”مباركة“ إلى هذا السبات المزمن. إنّه السّبات ذاته الذي يفسح المجال لحاملي رايات البلاغة العربية التليدة والبليدة، من صنف أولئك الذين يصمّون الآذان بكلام منشور، منثور ومقفّى، والّذي كثيرًا ما يعجّ بشعارات تدغدغ العواطف وتكرّس العيش في حالة الوهم العربي.
وهكذا، وعندما تنتشر هذه الشرارات في ربوعنا وتزداد معها حدّة النيران التي تبدأ بالتهام البشر والشجر والحجر في بلادنا، فإنّ بلاغة البلادة تزداد معها انتشارًا. وهكذا يسارع تجّار البلاغة إلى الإفصاح عن مفاجآت هذا الاكتشاف الذي ينخر عظام قُطّان هذه الديار. وفي غمرة الاكتشاف الجديد يضيفون شعارًا قديمًا-جديدًا إلى جعبة توصيفاتهم، فيصرخون على الملأ: ”الدين لله والوطن للجميع“.
يظنّ الّذين يرفعون هذا النوع من الشعارات، واهمين بالطبع، أنّهم بمجرّد رفعهم هذه الشعارات العاطفيّة فإنّ الفرج سرعان ما سيأتي على جناح هذه البلاغة العربية بعد كلّ هذه الشدائد المزمنة والمغرقة في القدم.
وسؤال آخر: هل عرف القرآن حقيقة العرب؟ هذا السؤال يتبادر إلى الذهن لدى النّظر في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد، حيث ورد فيها: ”إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم“. فإذا جنحنا إلى وضع تفسير جديد لهذا القول، وذلك عملاً بمفهوم الصّلاح لكلّ زمان ومكان، فإنّ التفسير الجديد سيُحيلنا إلى استحالة التغيير في المجتمعات العربيّة دون أن يجنح الأفراد إلى النظر في دواخلهم بغية إصلاحها من الأدران الكامنة فيها. إنّ هذه الأدران الاجتماعية هي ذاتها تلك الفتنة النائمة التي ورد ذكر اللعنة على من يوقظها. فهل كلّ فرد منّا هو مشروع كامل متكامل من هذه الفتن النائمة في دواخلنا؟
وعلى هذه الخلفية، فإنّي وبخلاف الذين يدعون إلى الإبقاء على الفتنة نائمة، فإنّي أدعو بالذات إلى إيقاظها. نعم، أدعو إلى إيقاظها، ليس بمعنى تعزيز سلوكيات العداوة بين البشر، بل بمعنى الكلام صراحة عن هذه المحنة، الكامنة في دواخلنا. لأنّنا، إذا لم نجد في أنفسنا ما يكفي من الجرأة للحديث عن مشاريع الفتن هذه التي تنخر في دواخلنا، فلن نجد حلولاً لهذه المعضلات.
علينا أن نعترف أوّلاً، بيننا وبين أنفسنا، أنّ ثمّة أكثر من فتنة في دواخل مجتمعاتنا. حريّ بنا، أفرادًا، قبائل، طوائف ومجتمعات، أن نضع كلّ هذه الفتن تحت المساءلة اليومية. إنّ الميل العربي إلى الهرب من مواجهة الحقائق لن يوصلنا إلى سواء السبيل. لننظر إلى أنفسنا، ولننظر إلى أين أوصلتنا محاولاتنا الدائمة في الركون إلى السبات الدافئ في حضن شعاراتنا المدغدغة لعواطف هذه الأمّة المراهقة.
*
نشر: ”الحياة“، 20 نوڤمبر 2014
***
0 تعليقات:
إرسال تعليق