ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟



سـلمان مصـالحة

ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟


لقد ورد في المأثور الحديث النّبوي التّالي: "عن أبي هريرة رض قال، قال النبي صلعم: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟" (عن: صحيح البخاري. كذلك ورد الحديث باختلافات لفظيّة طفيفة في صحيح مسلم، ومسند أحمد، والتّرمذي وكثير غيرهم).

لن نتطرّق هنا في هذه العجالة إلى ما اختلف فيه السّلف من تفسيرات لهذا الحديث وسياقاته وأحكامه. ونكتفي بإيراد ما يلي باختصار لما يقتضيه مقصد المقالة. فقد ذكر ابن القيّم في هذا سياق الكلام عن معنى الفطرة: "سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجّون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل ممّا ابتدأ الناس إحداثه. فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام. ولا حاجة لذلك، لأنّ الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام." (عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري).

ويذهب ابن القيّم إلى هذا القول بالنّظر إلى قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والّذي يعقب الحديث. من هنا يستخلص ابن القيّم: "أنّ المراد بها فطرة الإسلام ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء، وهي الكاملة الخلق، ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا أذنها، دليلٌ على أنّ الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التّهويد والتّنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة. ولأنّ الفطرة، حيث جاءت، مطلقة معرفة باللام، لا يُراد بها إلا فطرة التّوحيد والإسلام وهي الفطرة الممدوحة... وحيث جاءت الفطرة في كلام رسول الله صلعم فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير." (عن: إبن القيّم، عون المعبود، شرح سنن أبي داود).

أمّا الحافظ العراقي فيقول أنّ معنى القول في الحديث "استُدلّ به على أنّ الولد الصغير يتبعُ أبويه في الإسلام والكفر... وقد أجمع المسلمون على ذلك. إنّما اختلفوا فيما إذا أسلمَ أحدُ أبويه فقال الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد، والجمهور: يتبعُ أيّهما أسلم سواء كان هو الأب أو الأم، وقال مالك: يتبعُ أباه خاصّة دون أمّه، حتّى لو أسلمتْ أمّه وأبوه كافر استُمرَّ على الحكم له بالكفر." (عن: طرح التّثريب في شرح التّقريب)

ثمّ يأتي ابن تيميّة فيذهب في قوله إلى أبعد من ذلك بكثير، مضيفًا إلى ما سبق قولاً جديدًا: "وكلّ مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكنّ أبَواهُ يُفْسدان ذلك فيُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه ويُشرّكانه، كذلك يُجهّمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده." (عن مجموع فتاوى ابن تيميّة). أي أنّ ابن تيميّة يضيف فرقة الجهميّة إلى ما ذكر السّالفون.

وإذا قبلنا بهذا المنطق الّذي ينطوي عليه الحديث، فحريّ به أن يكون منطقًا أمميًّا لكي تتمّ النّعمة على بني البشر. وبكلمات أخرى، حريّ بنا إضافة المسلم والعربيّ على العموم إلى جانب اليهودي والنصراني والمجوسي وغيرهم من البشر إلى هذا المنطق ذاته، لأنّه بغير ذلك تنتفي عن المقولة أمميّتها. بل نقول إنّه حريّ بنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: ما من مولود إلاّ وُلدَ إنسانًا بغير غيبيّات، محبًّا لأخيه الإنسان، فأبواه يُغيّبانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالغيبيّات، ويُعصّبانه يُقبّلانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالعصبيّة القبليّة، ويُوحّدانه ويُعنصرانه، أي يفسدانه فيجعلانه مؤمنًا بديانات سماويّة توحيديّة عنصريّة تكره ما سواها من البشر ومعتقداتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، لا يسعنا إلاّ أن نذهب إلى القول أيضًا إنّه، ما من مولود إلاّ وُلدَ بغير اسم، فأبواه يعبّدانه، أي يسميّانه عبد الله، وأبواه ينصّرانه، أي يسمّيانه نصر الله، وأبواه أيضًا يُقذّفانه، أي يسمّيانه قذّاف الدّم، كما تنتج اليابانيّات يابانيّين والكوريّات كوريّين والصّينيّات صينيّين، فهل تجدون في هؤلاء النّاس أسماء عبد الله ونصر الله وقذّاف الدّم؟. والحقيقة أنّي لم أشأ هنا في هذا السّياق استخدام كلمة بهيمة، كما وردت في الأصول العربيّة، لكي لا أُتّهم بعنصريّة بغيضة تجاه اليابانيين والكوريّين والصينيين وغيرهم من شعوب الأرض. وذلك لأنّ البشر والشّجر والوبر والحجر أجمعين من خلقه تعالى، كما يُقال في غير مقال من مقالات الجهلة من المؤمنين.

قديمًا قيل: من شبّ على شيءشاب عليه. كلّنا نعرف هذه المقولة لأنّنا شببنا عليها، وها قد شبنا ولم يطوها بعد النّسيان. والحقيقة أنّ في هذه المقولة شيء من الصحّة إذ أنّ علماء التّربية كثيرًا ما ينبّهون إلى الاهتمام بالطّفولة والسّنوات الأولى من حياة النّشء الجديد لما فيها من خطورة على مستقبل المجتمع بعامّة، لأنّ ما يرسخ في ذهن النّشء في هذه الأعوام يشكّل دخيرة لهم أو حملاً ثقيلاً على كواهلهم في مسيرة حياتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أعتقد أنّ للأسماء تأثيرات بالغة الخطورة على حامليها. وأكاد أجزم أنّه لولا ذلك الاسم الّذي أطلقه عليه أبواه، لما كان صدّام مثلاً لينشأ مع هذه الذهنيّة العنيفة الّتي رافقته طوال حياته. لقد كتب الاسم صدّام مصير هذا الرّجل منذ الصّغر. وهكذا يمكننا أن نتساءل، هل يمكن أن يأتي الخير من رجل باسم قذّاف الدّم؟ وما الّذي فكّر به الأبوان عند منحه اسمًا كهذا؟ وأخيرًا أما يفكّر هذا بتغيير اسمه؟ أمّ أنّ قذف الدّم سيرافقه طوال حياته؟ هذه الحقيقة تعرفها حضارة قبائل اليوروبا الأفريقيّة، ففي تلك الحضارة يقيمون طقسًا يتمّ فيه منح الاسم للوليد في اليوم الثّامن لميلاده. إنّهم ينظرون ببالغ الأهميّة للاسم لأنّهم يعتقدون أنّ الاسم سيؤثّر على مصير وسلوك الشّخص مستقبلاً. إنّهم يعتقدون، على سبيل المثال، لو أطلق على الطّفل اسمُ لصّ مشهور فسيُصبح لصًّا عندما يكبر بلا أدنى شكّ، وهكذا.

ومن هذا المنطلق أيضًا،يمكننا القول إنّ ما ينفع للأشخاص ينفع في السّياسة أيضًا. فإنّ للأسماء مدلولات خطيرة يجدر الانتباه إليها. فعندما يتسمّى حزب بأسماء مثل الوطني أو القومي، فهو إنّما يُصادر صفة الوطنيّة والقوميّة من سائر النّاس وهي حيلة يستخدمها هؤلاء الّذين يدّعون الوطنيّة والقوميّة. وكذا هي الحال عندما يتسمّى حزب بأنّه الحزب المسيحي الدّيمقراطي مثلاً فهو إنّما يصادر هذه الصّفات وينزعها عن الآخرين، كما لو أنّ سائر المسيحيّين ليسوا مسيحيّين وليسوا ديمقراطيّين، وهي كذبة لا تنطلي على أحد. والحال ذاتها عندما يتسمّى حزب باسم الله، فهو إنّما يصادر الله لصالحه، جاعلاً منه شخصيّة سياسيّة لها حزب ينافح عنها، كما لو أنّ سائر الخلق ليسوا من الله ولا يمتّون إليه بصلة. وهي أيضًا حيلة مكشوفة لا تنطلي على أحد.

لهذا، فإنّ المجتمعات الّتي تنشد الخير يجب أن تصل إلى قناعة واحدة مفادها إنّه يجب حظر كلّ هذا النّوع من التّسميات وخاصّة فيما يتعلّق بالحياة العامّة في الدّولة المعاصرة. في هذه الدّولة العصريّة الّتي يطمح إليها بنو البشر على سائر مللهم ونحلهم، لا مكان لهذا النّوع من أسماء الأحزاب، ويجب حظرها دستوريًّا على جميع المذاهب والطّوائف.

وأخيرًا، لا مناص من الإقرار أنّ الطّريق الأقوم للمجتمعات المعاصرة هي طريق فصل الدّين عن الدّولة دستوريًّا. هذا هو الإجماع الوطني لكافّة الطّوائف والمعتقدات وهذا هو السّقف الوحيد الّذي يستطيع النّاس أن يحيوا تحته بطمأنينة في مجتمع المدنيّة. وأمّا ما دون ذلك فبئس المصير. أليس كذلك؟
***
نشر في: “شفاف الشرق الأوسط”، 3 يونيو 2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقامة اللُّوديڤيّة

سلمان مصالحة

المقامة اللُّوديڤيّة

حدّثني أبو نَهار المَغاري ذات صباح، عن غير نفرٍ من السّلف الصّالح دخل كلامُ بعضهم في كلام بعض، عن صاحبٍ ثقةٍ لا يهدأ له بال، ولا يقرّ على حال، قال، قال لي عائدٌ من بلاد الغال: اسمع هذه الحكاية عن رحلة التّرحال إلى ما وراء البحار، فلكلّ مقام مقال حتّى كادَ الأمر يلتبس على ذي البصيرة فَيَحار، إذْ ما فتئت اليدُ قصيرة والأكاذيب غفيرة.

قلتُ لهُ: يا صاحِ، هلْ لكَ أنْ تُسْفِرَ عَمّا بَطَنَ خلفَ ذا الوشاحِ من الكلام المسجوع، أو ما تكنّه بين الضّلوع؟ فما أنْ فرغتُ من السؤال حتّى استلَّ من فمه لسانًا صَيْرَفيًّا صارمًا ما مسَّ قطع، فأصابَ أرنبةَ أنفِه فَامْتَقَع، ثمّ نظرَ إليّ نظرَةً مِنْ خَلْفِ نَظّاراتِه ندمتُ إثرها على سُؤالِيهِ واحْتَجْتُ إلى جَلَدٍ في النّفس لِمُداراتِه. وبعدَ أنْ هدأ الغضبُ في نفسِهِ وسكنَ الهيجان، إستعاذَ من الشّيطان، وطفقَ يروي لي حكاية ذلك المهرجان، ضاحكًا باكيًا في آن.

بعد حسن الإستهلال بحمد ذي العزّة والجلال، قال: مع انعقاد دورة جديدة لأصوات المتوسّط الشّعريّة في مدينة لوديڤ في الجنوب الفرنسي، وهي أصواتٌ متنوّعة تنوّعَ الألسن والمشارب، لا بدّ من التّذكير بما يجري في المكان وبما يُكتَب عنه في صحافة (إقرأ منذ الآن: سخافة) العُربان. ففي العام الماضي شارك عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه في المهرجان وكان ما كان. لكنّني حين قرأتُ ما كُتب من مقالات أو ذُكر في مقابلات، سألتُ نفسي الأمّارة بالسّوء، هل كُنّا حقًّا معًا في نفس المكان، أم أنّ بعض الشّعراء العرب المشاركين مصابون بذلك الفصام الـمُزمن الّذي لا سبيل إلى مداواته. أم أنّ كلاًّ منهم كان حقًّا في مكانه يُغنّي على مهرجانه؟

المأساة يا صاح تكمن في أنّ البعض من الشّعراء العرب ينظرون إلى هذا الملتقى الشّعريّ، أو غيره، وكأنّه حلبة صراع ونزال، أو نزاع وقتال في بلاد الغال. وليست هذه الأقوال تُساق هُنا إلاّ عن البعض، لأنّ ثَمَّ آخرين، وليسوا نَفَرًا قليلين، لم يأبهوا بهذه التّرّهات، بل جاؤوا للشِّعر بعيدًا عن الشّبهات، وانتصروا للشِّعر في السّاحات فانتصرَ الشِّعْر بهم أمام النّاس. أمّا أولئك الّذين يوسوس في نفوسهم الوسواس، فقد جاؤوا للمهرجان قِلّة قليلة، وظلّوا سامدين في غيّهم ناشرين علانيةً هذه الخصلة العليلة.

وهكذا كان، فما أنْ عادَ هؤلاء النّفرُ من المهرجان إلى بلادِ العُربان حتّى أخذوا يُطبّلون ويزمّرون في الصّحافة الأبيّة، ويشيعونَ على الملأ بطولاتهم الڤيرطواليّة، مستنجدينَ بتعابير الصّمود والتّصدّي ممّا حمل في تضاعيفه لسان العرب، ناسينَ أو متناسين أنّ حبلَ الكذب قصير، وأنّ الحقَّ لَمْ يفتأْ لهُ في هذه الدّنيا نصير. فأينَ مقارعة الأعداء يا هؤلاء ممّا رأتْ عيناي وسمعتْ أذناي قبلَ عام، وأينَ أولئك الّذين جاؤوا يستنجدون سرًّا طالبين أمورًا لَنْ أفصحَ عنها الآن في هذا المكان، غيرَ أنّه يبدو أنّ رغبة المشاركة في المهرجان قد طغت على بعض العُربان حتّى عادوا يخلطون الحابل بالنّابل، وشعبان برمضان، ويكتبون للقرّاء في الأماكن البعيدة عن انتصاراتهم المجيدة.

وفي الختام، من رأى ومن سمع ما جرى في العام المُنصرم، ليُتابعْ ما يُكتب أو يُقال عن مهرجان هذا العام من جواهر الكلِم. فلكلّ مقامٍ مقال، أو زمرةٌ تروي الأباطيل، وخاصّة عمّنْ يأتي من إسرائيل. وهكذا، فهمتُ أخيرًا لماذا روى لي رفيقي الحكاية فضحكَ حينًا وحينًا بكى، فالطّبعُ عند البعض يغلبُ التّطبيع، رغمَ ما يُشاعُ في الصّحافة على مسامع الجميع.

وأدركَ صاحبي صباحُ العرب فقهقَهَ مليًّا حتّى انْتَحَب.
*
نشرت في: القدس العربي، 26 تموز 2000
______________

من شبّ على شيء


سلمان مصالحة ||

من شبّ على شيء

اللغة، كلّ لغة، هي الوعاء
الذي يحفظ فهم الناس للكون من حولهم. إنّها تجريد صوتي مُجمَع على مدلولاته بين البشر. فدونما إجماع كهذا لا وجود للّغة ولا وجود لذلك الخيط الّذي ينتظم فيه المجموع ككيان لغويّ حضاريّ. ولهذا فإنّ في اختلاف الإجماع اللّغوي على مدلولات الأصوات اختلافًا وتباينًا بين الإرث الحضاري للمجموعات البشريّة.

من هذا المنطلق، فإنّ فهم الأسس التي تنبني عليها المصطلحات في اللّغة يزوّدنا بمفاتيح لإدراك تطوّر المفاهيم البشريّة التي جُرّدت وسُكبت في هذه الأوعية اللغوية.

فعلى سبيل المثال،
إنّ مفهوم المصطلح ”شعب“ يختلف بين مجموعة بشريّة لغويّة، وبين مجموعات أخرى أجمعت على مدلولات أخرى للأصوات. وفقط لمجرّد إلقاء نظرة عابرة يمكن العودة مثلاً إلى مادّة ”شعب“ (people) في قاموس أوكسفورد الإيتيمولوجي بغية الوقوف على مدلولات المصطلح وتطوّر مفهومه عبر القرون. كذا يمكن أيضًا العودة إلى مادّة ”شعب“ في المعاجم العربيّة للتعرّف على مدلولاته في الذهنيّة العربيّة. وكذا يمكن النّظر في مصطلحات مثل ”أمّة“ أو ”وطن“.

ما هو معنى الـ“دولة“؟
يمكننا الوقوف على الفرق الشاسع بين أصل وتطوّر الحقول الدلالية للمصطلح “state“ في اللغات اللاتينية وبين تلك التي للمصطلح ”دولة“ في اللغة العربية. فالمصطلح “دولة“ في العربيّة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بذهنيّة الصّراع القبلي على السّلطة. فها هو الجوهري في الصحاح يسرد لنا معنى المصطلح: ”الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ... وأَدالَنا الله من عدوّنا من الدَوْلَةِ....“. وفي لسان العرب أيضًا نجد: ”إِنما الدَّولة للجيشين يهزِم هذا هذا ثم يُهْزَم الهازم، فتقول: قد رَجَعَت الدَّوْلة على هؤلاء...“.

نلاحظ، إذن، الفرق في مفهوم الدولة كما هو متجذّر في الذهنيّة العربيّة، مقارنة بلغات ومفاهيم الشعوب الأخرى.

على العموم، وفي سياقنا نحن فإنّ الأمثال العربية تختزل تجارب هذه الأمّة المسمّاة ”عربيّة“ على مرّ قرون من الزّمن. ولهذا يمكننا القول إنّه ومثلما علّمتنا الأمثال العربيّة فـ“من شبّ على شيء شاب عليه“. أوليست هذه هي حال الأصقاع العربيّة التي يُطلق عليها مصطلح ”دول“؟ إنّ الشّعوب العربيّة ومنذ القدم، أي منذ ظهورها على مسرح التاريخ لم تتبدّل لديها هذه المفاهيم.

ولو نظرنا إلى ما هو حاصل
في هذه الأصقاع العربيّة في الشّهور الأخيرة فإنّنا نجد أنفسنا أمام ذات الذهنيّة التي لم يطرأ عليها تغيير. فها هو النّظام السّوري الإجرامي الاستبدادي يثبت كلّ يوم من جديد أنّ سورية ليست كيانًا سياسيًّا يمكن أن يُطلق عليه مصطلح ”state“، وإنّما هو ”دولة“ بالمعنى العربيّ للمصطلح، أي مزرعة قبليّة تُحمى بالحديد النّار، ولا معنى للدولة ولا للشعب بأيّ حال من الأحوال. وفي الحقيقة كذا هي الحال في سائر أقطار العربان، من مشرق العرب إلى مغاربهم. فلا دولة بمعنى الدولة ولا شعب بمعنى الشعب وإنّما هي شراذم قبائل متصارعة لم تخرج بعد من الطبّع البَرِّي، ولم ينتقل أفرادها أو لم يتطوّروا إلى الطبع البِرِّي.

هذه هي التربة الصحراوية التي نبت العرب وزعماؤهم - أكباشهم بلغة العرب القديمة - فيها، يعيشون في ربوعها وينقلونها معهم أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا.

ولمّا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فإنّ الاستعمار أفضل للبشر من كلّ هذه الذّهنيّات العربيّة المتصحّرة.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 28 مايو 2011
______________________

سعيد عقل في الكنيست


سـلمان مصالحة ||

سعيد عقل في الكنيست


كيف عمل سعيد عقل جاهدًا على إقناع الإسرائيليّين بأهميّة إفساح المجال له أن يُلقي خطابًا، على غرار السّادات، من على منصّة الكنيست الإسرائيليّة؟

قد يكون وقع هذا السّؤال غريبًا بعض الشّيء على مسامع القارئ العربيّ. غير أنّ الإجابة على السؤال يمكن العثور عليها ليس في الوثائق السّريّة الّتي تقبع في الأرشيفات الّتي يغطّيها الغبار، إنّما في مكان آخر أبعد ما قد يتوقّع المرء أن يكون مصدرًا لمعلومات من هذا النّوع. هذه المعلومة، إضافة إلى معلومات أخرى تخصّ السّاحة اللّبنانيّة والعربيّة، كما والإسرائيليّة، يمكن العثور عليها في الكتابات الأدبيّة، وفي الشّعر على وجه الخصوص.

قد يتساءل المرء،، هل يشكّل الشّعر وثيقة يمكن الإعتماد عليها في محاولة فهم تيّارات وأحداث سياسيّة واجتماعيّة؟ الإجابة على ذلك بسيطة، فممّا لا شكّ فيه أنّ الموروث الشّعري، لدينا نحن العرب، كان ولا يزال أحد أهمّ المصادر التّاريخيّة، إذ أنّه دوّن أحداثًا وعقائد وروحًا عربيّة على مرّ العصور، ولا يستطيع الباحث في تاريخ الحضارة العربيّة تجاهله.

لقد تبادرت إلى ذهني هذه التّساؤلات إثر قراءة مجموعة شعريّة عبريّة صادرة حديثًا هذا العام. فمن شأن القارئ لهذا النّصّ أن يقف على حقائق ومعلومات قد تكون لم تصل بعد إلى من يشتغل بالتّاريخ العربيّ الحديث، وخاصة فيما يتعلّق ببعض الجوانب المستترة من الحرب الإسرائيليّة في لبنان في العام 1982. المجموعة الشّعريّة الّتي نحنُ بصددها هي بعنوان “هستننوت”، أي تسلُّل بالعربيّة، للكاتب العبريّ أهارون أمير.

ولكن، وقبل التّطرُّق إلى الوقائع الواردة فيها، يجدر التّنويه أوّلاً بالمؤلّف وهو شاعر وكاتب، مترجم ومحرّر، من مواليد 1923، وقد درس الأدب العربي في الجامعة العبريّة في القدس. طوال فترة طويلة كان، ولا يزال، من دعاة الحركة “الكنعانيّة” في إسرائيل. أي على غرار تيّارات مثيلة، مثل الدّعوى الفرعونيّة في مصر، والفينيقيّة في لبنان، وكلّ تلك التّيّارات الّتي حاولت أن تبحث عن فرادة حضاريّة وبناء هويّة إقليميّة، ذات حضارة علمانيّة، في ظلّ الإخفاقات الّتي كانت من نصيب العروبويّة والإسلامويّة. وأهارون أمير “الكنعانيّ” النّزعة طمح إلى تأسيس الحضارة العبريّة والإسرائيليّة على أساس جغرافي إقليمي بعيدًا عن النّزعة الدينيّة اليهوديّة. ومثلما صارت إليه الحال في سائر الأماكن، مصر أو لبنان، فلم تفلح الدّعوى الكنعانيّة أيضًا في اجتذاب سواد المجتمع الإسرائيلي. ولكن، وعلى الرّغم ذلك، فقد كان لها تأثير ثقافي بيّن فيما مضى. كما لا تزال هنالك بعض الأصوات القليلة الّتي تردّد أصداء تلك الدّعاوى.

كيف تعرّف أهارون أمير على الشّاعر سعيد عقل؟ يذكر أمير أنّ بداية المعرفة كانت عبر الكتب، فهو يتذكر أنّه عندما كان يافعًا كان معجبًا بالكتب، فوقع بين يديه كتاب هو بمثابة دائرة معارف في مجلّد واحد كان صدر في العام 1935. وفي المجلّد عثر على مادّة: “عقل، سعيد”، حيث ذكر فيها أنّه شاعر عربيّ نشر في العام 1932 مسرحيّة توراتيّة بعنوان “بنت يفتاح”. ويتذكّر أهارون أمير وقائع تاريخيّة مثل، كيف عبّرت الكنيسة المارونيّة في العام 1947 عن دعمها لقيام دولة عبريّة تكون شقيقة للبنان، ويشير في كتابه هذا إلى الشّراكة بين سعيد عقل وأنطون سعادة في الحزب الّذي دعا إلى قيام “سوريا الكبرى”، وكيف أنّ أنطون سعادة رأى في مسرحيّة “بنت يفتاح” خدمة للصهيونيّة وقام بفصل سعيد عقل عن الحزب.

بعد عشرات السّنوات كان اللّقاء بين أهارون أمير وسعيد عقل، حيث تمّ ذلك إثر حرب لبنان في العام 1982. كان سعيد عقل واحدًا من بين شخصيّات لبنانيّة أجرى معها إيهود يعاري مراسل التّلفزيون الإسرائيلي مقابلات في بيروت. سعيد عقل أرسل إلى أهارون أمير، مع إيهود يعاري، تحيّات مرفقة بمجموعاته الشّعريّة الموقَّعة. غير أنّ المحادثات بين أمير وعقل أخذت تتطوّر، حيث يذكر أمير: “في محادثاتنا الّتي أخذت تتواتر، كان الحماس مُلتهبًا في جوانحه. لقد رأى في ظهور إسرائيل على أرض لبنان أمرًا ذا مغزى تحريري... وتوقّع قيام عهد قريب بين بلاده وبلادي، يُبشّرُ بالخيرات الجمّة للمنطقة بأسرها” (ص. 16). يضيف أهارون أمير أنّه سمع أثناء لقاءاته في بيروت أمورًا كثيرة تتمشّى مع هذه الرّوح من أفرادٍ ينتمون إلى سائر الطّوائف اللّبنانيّة، مسيحيّة، سنيّة، شيعيّة ودرزيّة.

غير أنّ سعيد عقل، كما يروي أهارون أمير، أراد أن يدخل التّاريخ، بل أكثر من ذلك أراد أن يصنع التّاريخ، وفي القدس بالذّات، ثمّ يضيف: كان سعيد عقل يؤمن أنّ شاعرًا مثله، ذائع الصّيت بين قرّاء العربيّة، سيكون لكلامه وقع على السّامعين. لذلك اعتقد أنّ على حكومة إسرائيل أن تدعوه إلى إلقاء كلمة في الكنيست. سيكون هذا بلا شكّ خطابًا فاتح عهد جديد، على غرار خطاب السّادات، ولذلك حريّ به أن يُسمَع هناك بالذّات... لقد استصعب سعيد عقل سماع أنّ خطابًا في هذا المكان هو أمر محفوظ لرؤساء الدّول فحسب. في نظره كانت هذه الحجّة مستلّة من حُجج الموظّفين الصّغار مقابل حجّته هو، حجّة الشّاعر النبيّ... لكن حينما اقتُرحَ عليه أن يلقي خطابه على الجبل، كما فعل اللّورد بلفور في افتتاح الجامعة العبريّة، رأى في ذلك بديلاً لائقًا لرجل في مثل مكانته... ولأجل هذا الحدث أفردت الجامعة العبريّة قاعة احتفاليّة مع دعوات خاصّة لثلاثمائة شخص إضافة إلى ممثّلي وسائل الإعلام..” (ص 19-20).

“بعد انتخاب بشير الجميّل في الـ 23 من شهر آب رئيسًا للبنان بدأ سعيد عقل يُعدّ العدّة لخطابه الموعود الّذي كان من المفروض أن يلقيه في الموعد الّذي اتفقنا عليه، وهو بداية أكتوبر” (ص 21). أمّا الرّوح الّتي كانت ستحملها كلمة سعيد عقل إلى السّامعين في القدس فهي: “صورة الماضي العريق تُشعّ، حاضرٌ ينبعث من جديد، مُستقبلٌ باهر يُبارك صانعيه بالسّلام، كما في عهد سليمان وحيرام” (ص 21). لقد عمل سعيد عقل أيّامًا وليالي على كتابة الخطاب الموعود، وفي الأسبوع الأوّل من أيلول كانت المسوّدة الرّابعة عشرة حاضرة بصيغتها النّهائيّة، بالفرنسيّة وبالعربيّة، بفضل مساعدته الأرمنيّة.

في الثّالث عشر من أيلول، يكتب أهارون أمير، كان من المفروض أن أصل إلى بيروت، وفي صبيحة اليوم التّالي سأكون في مكتبه الواقع في سنّ الفيل، للوقوف على الصّيغة النّهائيّة لخطابه الّذي كان من المفروض أن أترجمه إلى العبريّة.

“حين اقتربت سيّارتنا من مداخل بيروت في الموعد المحدّد، كان كان الظّلام مخيّمًا والإزدحام شديدًا. أدرنا مؤشّر الرّاديو إلى أذاعة الجيش الإسرائيلي لسماع آخر الأخبار، فإذا بنا نسمع خبر انفجار سيّارة مفخّخة في الأشرفيّة. في البداية ذُكر أنّ الرّئيس نجا من الإنفجار ولذلك أطلقت عيارات الفرح في الشّوارع. “فقط ساعةً واحدةً قبل انتصاف اللّيل، في مقرّ قيادة "أبو أرز" اتّصل شخص وأكّد خبر مقتل الرّئيس... أمور كثيرة دُفنت في الحُطام، من بينها الخطاب التّاريخي لشاعر كبير غزا الشيبُ مفرقَه، عالي الهمّة، رجل الأحلام والرّؤيا، واسمه سعيد عقل” (ص 22).

القران الّذي عمل سعيد عقل جاهدًا على عقده بين الفينيقيّة والكنعانيّة، بين لبنان وإسرائيل، قد دُفن في لحظة واحدة تحت حطام المقرّ في الأشرفيّة، بالضّبط مثلما دُفن حلم قران سعيد عقل وشابّة درزيّة متمرّدة من الفرع الجنبلاطي، وهذه أيضًا معلومة أخرى في هذه المجموعة الشّعريّة العبريّة الّتي تروي الأخبار على غرار أيّام العرب في الجاهليّة.
*
نشرت في ملحق تيارات، “الحياة”، 1 تموز، 2001



ثلاثة مشاهد سوريا-ليّة

مقال من عام 2007 - 


سلمان مصالحة


ثلاثة مشاهد سوريا-ليّة


أوّلاً: الملك الأسد الثّاني

قبل مدّة جرت "انتخابات" لمجلس "الشّعب" في سورية. وكما أفادت الأنباء فإنّ قلّة قليلة فقط من المواطنين ذهبت لتدلي بأصواتها. والحقيقة أنّ المواطنين أكثر ذكاءً ممّا قد يتصوّر البعض، إذ ما الفائدة من انتخابات صوريّة نتائجها معروفة قبل أن تجري؟ وهكذا، وبعد أن تمّ عرض تلك المسرحيّة على الشّاشات، شاهدنا مثلما شاهد الجميع، كيف يقف مَنْ يُطلَق عليهم أعضاء مجلس الشّعب ويهتفون بصوت واحد "بالرّوح بالدّم نفديك يا...". لقد وقف هؤلاء وأمثالهم من قبلُ عندما تمّ توريث الرئاسة من الملك الأسد الأوّل إلى الابن الأسد الثّاني، فلا جديد في الأمر. شيء واحد يمكن قوله عن هؤلاء، عندما يقفون وقفة رجل واحد ويصرخون بهتاف واحد، فلا يمكن أن يكون هؤلاء ولا هتافهم سوى مرآة لهذه الحال المأزومة في ثقافة العربان السّياسيّة. وعلى كلّ حال يكفي أن نشير إلى أنّ مصطلح "السّياسة" بالعربيّة قد استُعير من عالم الحيوان، فقد قال العرب قديمًا: ساسَ الخيلَ يسوسُها، والفاعل هو سائسُ الخيل، أي مروّضها.

وها هي النسبة القريبة من المئة بالمئة، نتائج الاستفتاء على ولاية ثانية لبشّار ابن أبيه الأسد الثّاني الّذي ورّث السّلطة على غرار خلفاء بني أميّة. ومرّة أخرى يتبادر إلى ذهن من يملك ذرّة من عقل، ما الحاجة إلى استفتاءات كهذه، بينما نتائجها معروفة خلفًا عن سلف. إنّها مجرّد لعبة مفضوحة على الملأ. غير أنّ هكذا أنظمة مولعة دائمًا باللّعب. لقد نسي هؤلاء أنّ العالم الّذي يلعب لعبة الدّيمقراطيّة هو العالم الّذي أوجد هذه اللّعبة وقوانينها، ولذلك فهو يعرف قواعدها وقوانين لعبها، بينما نحن، العربان، لا نعرف من اللّعبة غير الشّكل، وحتّى هذا الشّكل عندما نرسمه فهو يأتي مشوّهًا على شاكلتنا. لذلك تظهر لعبتنا الدّيمقراطيّة هذه مجرّد كاريكاتير مقارنة بحقيقة اللّعبة وجوهرها.


ثانيًا: "إضعاف الشّعور القومي"

وفي حالة "سوريا-ليّة" من هذا النّوع، ليس من المُستغرَب أن يتمّ تقديم من ينتمون إلى خيرة أبناء الشّعب السّوري إلى محاكمات صوريّة، وبذرائع لا يوجد شبيه لها في أيّ بلد من بلدان هذا العالم. هكذا، في بلد "الأمّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة"، يتمّ إصدار أحكام ضدّ ميشال كيلو ومحمود عيسى على سبيل المثال بالسّجن لسنوات بتهمة هي أغرب ممّا قد يتصوّر من يملك ذرّة من عقل، أي بتهمة "إضعاف الشّعور القومي". إنّ بلدًا تضمّ قوانينه تهمة من هذا النّوع لا يمكن أن يكون بلدًا طبيعيًّا. إنّه بلدٌ هو أقرب إلى البلادة منه إلى أيّ تعريف آخر.

وفي ذات البلد أيضًا تحكم المحكمة على الحقوقي أنور البني بتهمة: "نشر أنباء من شأنها أن "توهن نفسيّة الأمّة". هكذا، إذن. لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا، غير أنّ الأمور في هذا البلد ليست مضحكة، بل هي أبعد ما تكون عن الإضحاك. إنّها المأساة بأعمق معانيها. فأيّ نفسيّة، وأيّ أمّة هي هذه الّتي توهن نفسيّتها الأنباء؟ نستطيع أن نجزم فنقول إنّه على العكس من ذلك تمامًا. إنّ نظامًا قبليًّا قمعيًّا من هذا النّوع هو هو بالذّات الّذي يضعف الشّعور القومي، لأنّ نظامًا قبليًّا كنظام البعث العائلي هو ما يُشظّي القوميّة ويفقدها مصداقيّتها، وهو ما يفتّتُ لحمة أبناء الشّعب الواحد. إذا كان لا بدّ من محاكمات فإنّ هذا النّظام هو الّذي يجب تقديمه للمحاكمة بتهمة "إضعاف الشّعور القومي"، رغم كلّ شعاراته البرّاقة والرنّانة الّتي طالما "شنّف" بها آذاننا، بينما هي لا تستند إلى أيّ قاعدة أو ركيزة خارج الرّكائز القبليّة.


ثالثًا: غياب أدونيس

إزاء كلّ ما ذكرنا، فإنّه لممّا يحزّ في النّفس أن نرى غياب أصوات كان من المفروض أن تكون في مقدّمة المندّدين بهذه الحالة السّوريا-ليّة. ولمّا كان أحد تلك الأصوات الغائبة عن السّاحة ناقدًا تراثيًّا ومفكّكًا لغويًّا إضافة إلى كونه شاعرًا لا بأس به، فهو مطالب الآن وعلى الملأ بأن يشرح لمواطنيه السّوريّين المغلوب على أمرهم معنى مصطلح "إضعاف الشّعور القومي"، أو معنى كلام الاتّهام الّذي يقول: "نشر أنباء... من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة". فما هو هذا الشّعور القومي؟ وما هي الأمور الّتي توهن نفسيّة الأمّة؟ فأيّ أمّة هي هذه! وهل هناك شخص على وجه الأرض يستطيع أن يُفسّر لنا هذا الكلام الفضفاض الّذي لا معنى له سوى أنّات المعتقلين في أقبية مخابرات الأنظمة القبليّة الفاسدة المفسدة في الأرض.

إنّ صمت أدونيس، وأمثاله، إزاء هذه المهازل، وإزاء جرائم الزّجّ بالمفكّرين والمثقّفين السّوريّين في سجون النّظام الفاشي، يشكّل إدانة له ولأمثاله على تخاذلهم الأخلاقي. ولن يفيد أدونيس كونه مرشّحًا أزليًّا لجائزة نوبل. إنّ صمته إزاء الجرائم الّتي يرتكبها النّظام القبلي القمعي في وطنه الأمّ كافٍ لكي يتمّ شطب اسمه من قائمة المرشّحين لهذه الجائزة أصلاً. إذ أنّه، وبصمته الصّارخ هذا، يندرج في عداد جوقة الهاربين من المواجهات الأخلاقيّة، ويندرج في عداد المندسّين في بطانات المطبّلين المزمّرين للسّلاطين.

هذه هي المأساة الحقيقيّة. إنّها حقًّا مشاهد "سوريا-ليّة"، أليس كذلك؟
*
نشرت في: "إيلاف"، يونيو 2007
***

انظر: ردّ شخص اسمه نضال نعيسة في موقع الحوار المتمدن. وهو، كعادة العربان، لا يعرف الفرق بين سلمان وسليمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة




سـلمان مصـالحة


نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة


أنظمة العروبة المستبدّة،
على اختلاف تشكيلاتها الطائفيّة والقبليّة، تسارع إلى وسم كلّ من لم يعد يطيق وجودها رابخة رابضة مرخية على صدور البشر كلاكلها، بصنوف التعابير المشتقّة من ذهنيّة التآمر. إنّها تصف كلّ من يرفع صوته ضدّ الاستبداد ناشدًا الحريّة بالـ“مُندسّ“ والـ“متآمر“، وما إلى ذلك من مفردات هذا القاموس الجديد القديم الّذي أتت عليه الأرضة.

وعلى كلّ حال فالـ“مؤامرة“ في العربيّة ليست بهذه المعاني الرديئة التي أضفاها عليها المتآمرون الحقيقيّون في هذا الزّمان العروبي البليد. فلقد ورد في لغة العرب: ”آمَرْتُه في أَمْري مُؤامَرَةً إِذا شاورتُه... وكلُّ من فَزَعْتَ إِلى مشاورته ومُؤَامَرَته، فهو أَمِيرُكَ. ومنه حديث عمر: الرجال ثلاثةٌ - رجلٌ إِذا نزل به أَمْرٌ ائْتَمَرَ رَأْيَه أَي شاور نفسه وارْتأَى فيه قبل مُواقَعَة الأَمر. وقيل: المُؤْتَمِرُ الذي يَهُمُّ بأَمْرٍ يَفْعَلُه... ويقال لكل من فعل فعلاً من غير مشاورة: ائْتَمَرَ، كَأَنَّ نَفْسَه أَمرته بشيءِ فأْتَمَرَ، أَي أَطاعها. ومن المُؤَامَرَةِ المشاورةُ. في الحديث: آمِرُوا النساءَ في أَنْفُسِهِنَّ أَي شاوروهنّ في تزويجهنّ“، (عن لسان العرب، مادّة ”أمر“).

نعم، الانتفاضات التي أطاحت
بالطغاة، وتلك التي ستطيح بمن تبقّى منهم، هي مؤامرة. لا يجب الاستحياء من قول الحقيقة، إذ أنّها مؤامرة حميدة على كلّ حال. لقد ارتأى النّاس في هذه المؤامرة أن لا صمت بعد اليوم على جرائم كلّ هؤلاء الحكّام المتآمرين الحقيقيّين على حياة بني البشر. وأعني بهؤلاء كلّ صنف الحكّام الذي طغوا واستبدّوا. فها هم النّاس على اختلاف أطيافهم، وبعد عقود من الظّلم، لم يعد من خروج النّاس على استبداد هؤلاء بُدُّ.

ولماذا أقول هذا الكلام الآن؟
منذ أيّام لا يفارقني مشهد واحد من مشاهد الانتفاضة السّوريّة ضدّ طواغيت البعث القبليّ المتوحّش. ولكن، فحتّى استخدام نعت ”المتوحّش“ هذا ليس بوسعه أن يفي المشهد المذكور حقّه من القرف والاشمئزاز. إنّ هذا الشّريط هو المثال الأوضح لما يمكن أن يطلق عليه ”جريمة ضدّ الإنسانية“، وهو مصطلح يُلزم بتدخّل من مجلس الأمن الدّولي ويلزم باستخدام القوّة، نعم استخدام القوّة، ضدّ مرتكبي هذا النوع من الجرائم.

والشريط الذي لا يزال موجودًا
في شبكة الإنترنت هو شريط تظهر فيه دبابة سورية يقودها ”جنود“ من صنف أولئك الذين طالما أطلقوا عليهم نعت ”البواسل“ في الإعلام العربي البليد وخاصة من صنف إعلام البعث الفاشي. نعم، هؤلاء الـ“بواسل“ يدهسون بدبّابتهم مواطنًا سوريًّا. ليس هذا فحسب، بل وبعد أن دهست الدبّابة المواطن على الشارع، يقوم جنود آخرون من صنف هؤلاء الـ ”بواسل“ الموجودين في الساحة بسحب الجثّة لوضعها تحت الجنازير لتمرّ عليها الدبّابة مرّة أخرى ولتمزّقها ولتتناثر الأشلاء وتعلق بجنازير دبّابة الـ“بواسل“.

منذ أيّام لا يفارقني هذا المشهد الهمجيّ. ولن أتحدّث الآن عن العالم وعن مجلس الأمن، بل سأتحدّث عمّن ينتمون إلى هذه الـ“أمّة“ التي تسمّى نفسها عربًا. لا أدري كيف ينام من ينتمي إلى هذا الجنس العربي قرير العين إزاء هذه المشاهد المقزّزة؟ بل، كيف يمكن أصلاً أن ينام بشريّ في هذا العالم المفتوح على مصاريعه، أيًّا كان انتماؤه، قرير العين وهو يشاهد على شاشة حاسوبه هذا المنظر القادم من سورية؟

إنّ هذا المشهد الهمجيّ
يختزل في الحقيقة طبيعة هذا النّظام البعثي القبليّ الفاشي. هذه هي حقيقة هذا النّظام منذ أن ظهر على الساحة. كذا كانت حال هذا البعث في العراق وكذا هي الحال في سورية الآن. لقد وجدت نفسي في الأيّام الماضية أتفكّر وأتساءل بشأن هؤلاء ”الجنود البواسل“ الذين يرتكبون هذه الجريمة البشعة. هنالك أمر لا يمكن التهرّب منه. يجب القول على الملأ: إنّ هذا الصنف من الجنود لا يمكن أن يتّصفوا بصفة الجنديّة، لا هم ولا قياداتهم أو آمريهم من زبانية النظام. إنّ هذا الصنف من الجنود وقياداتهم وآمريهم لا يمكن أن يتّصفوا أصلاً بالآدميّة. إنّ هذا الصنف من الجنود ينتصرون فقط على النّاس العُزّل. إنّه صنف لا ينتمي إلى شعب أو إلى بشر. إنّه صنف من الجنود المهزومين في جوهرهم، لأنّهم ليسوا جنودًا وليسوا بشرًا أصلاً، لأنّ صفة البشريّة لا يمكن أن تُدنّس بأمثال هؤلاء.

أتفكّر قليلاً في الأمر، وأتساءل: لا شكّ أنّ لهؤلاء الـ“بواسل“ أهل؛ آباء وأمهات، أشقاء وشقيقات، زوجات وأبناء. فماذا يقولون لأهلهم بعد عودتهم إلى أهلهم، مدنهم وقراهم؟ كيف يتناولون وجباتهم بعد هذه الجرائم؟ كيف ينامون؟ كيف يستيقظون؟ كيف يطرحون التحيّة على جيرانهم؟ كيف يدعونهم إلى فنجان قهوة؟ عمّا يتحدّثون في الجلسات؟ وماذا يخطّطون لأبنائهم وبناتهم؟ هل يذكرون أمام كلّ هؤلاء ماذا فعلوا في ”الجنديّة“؟ هل يحدّثون عن جريمتهم - بطولتهم بنظرهم - أم يبقون ذلك سرًّا؟ وماذا يجيبهم من يسمع أحاديثهم؟ إنّها أسئلة تراودني ولا أجد إجابة عليها.

غير أنّ هنالك شيئًا آخر
لا بدّ من قوله أيضًا وعلى الملأ. إنّ هذه الأمّة الصّامتة أفعالاً والصّائتة أقوالاً هي التي ترعرع في كنفها وعلى تراثها أمثال هؤلاء. إنّ هذا المشهد في الشريط المذكور يختزل أمّة بأسرها، بتراثها وبحضارتها. فكلّ من يغوص قراءة في مصادر تراث وتاريخ هذه الأمّة العربية والإسلامية يعلم علم اليقين أنّ تراث هذه الأمّة مليء بالجرائم ضدّ الإنسانية، فالجرائم مدوّنة بتراث هذه الأمّة العربية وبلغة العرب، وفي الكثير من الأحيان بنوع من التفاخر بها.

إنّ هذا الشّريط المذكور وأشرطة كثيرة مثله، مع ما تثيره من تقزّز واشمئزاز في نفس كلّ بشريّ، تدفع المرء إلى الخجل من الانتماء إلى هذه الأمّة. إنّي أجد نفسي بعد مشاهدة هذا الشريط غيري.

ولهذا يجب أن يرفع الشعار: تعيش، تعيش مؤامرة الناس البسطاء على كلّ أصناف المستبدّين!

والعقل وليّ التوفيق!
*

رابط الشّريط في الـ“يوتيوب“: (الرجاء إبعاد الأطفال عن مشاهدة الشريط حفظًا لسلامتهم وصحّتهم النفسيّة).
***
نشر في: إيلاف“، 20 مايو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أين اختفى حسن نصر الله؟

سلمان مصالحة

أين اختفى حسن نصر الله؟

منذ مدّة غاب عن الشاشة
السيّد حسن نصر الله. لقد اختفت آثاره ولم يعد يطلّ منها على جمهوره المتلهّف لسماع خطبه وتحليلاته عن الأوضاع والمستجدّات على الساحة. والرجل معروف بحبّه الظهور على الشاشات في المناسبات المختلفة لطرح تصوّراته وما يختلج في صدره من أمور وأفكار وصيلة بشؤون "الأمّة"، أي العالم العربي والإسلامي. إنّه معروف بحبّ الظّهور والتّواصل مع الجمهور في كلّ شاردة وواردة. وهذه على كلّ حال هي عادة السّياسيّين في كلّ مكان، وليست حصرًا على سياسيّي العرب.

هكذا، عندما اندلعت المظاهرات
في مصر وخرجت الجماهير إلى ميدان التحرير، لم ينتظر نصر الله طويلاً، فقد شمّر هو الآخر عن ساعديه وخرج إلى ”شاشات التحرير“ وانضمّ بدوره إلى المتظاهرين معلنًا التّضامن مع ثورة الشباب المصري: ”في هذا اليوم نلتقي وهدفنا واضح... نحن نجتمع هنا لنعلن تضامننا ووقوفنا إلى جانب شعب مصر وشبابها، ومن قبل إلى جانب شعب تونس وشبابها...“، كما ورد في خطابه المتلفز حول الانتفاضة الشعبية المصرية.

وهكذا فعل أيضًا عندما وصلت
شرارة الانتفاضات الشعبية إلى البحرين، فقد خرج مرّة أخرى في خطاب ملتهب ناريّ أيضًا: ”كلمتي للأخوة والأخوات في البحرين، لا تتأثّروا بأصوات الطائفيين، ولا تحزنوا من إعلامهم ولا من فتاواهم... أقول لإخواننا وأخواتنا في البحرين: اصبروا وصابروا واثبتوا في الدفاع عن حقوقكم... إنّ دماءكم وجراحكم ستهزم الظالمين والطواغيت وستجبرهم على الاعتراف بحقوكم المشروعة...“.

ولكنّه، ومنذ مدّة قد اختفى
عن الشاشات المحبّبة لديه؟ طالما تحدّث عن المستضعفين في الأرض، وطالما تحدّث عن الظالمين والطواغيت، كما ذكرت مقتبسًا آنفًا من أحاديثه المتلفزة. غير أنّه في الآونة الأخيرة قد اختفى عن هذه الشاشات وعن الحديث عن المستضعفين، وعن الاستبداد والظّلم بعيدًا عن حدود لبنان. لقد اختفى لا لشيء سوى أنّه لا يدري ما يقول بشأن مستضعفين آخرين قريبين منه ومن لبنان قد خرجوا هم أيضًا ضدّ الاستبداد والظّلم. إنّهم المستضعفون السوريون الذين يذوقون الأمرّين طوال عقود من طغمة البعث القبلي، طواغيت سورية.

هكذا يصمت نصر الله
إزاء الجرائم التي يرتكبها هذا النّظام البعثي القبلي المستبدّ بحقّ المواطنين السوريين. وهكذا، يكشف عن كونه هو الآخر يكيل بمكيالين، إن لم يكن بمكاييل كثيرة. في تونس ترك زين العابدين بن علي البلد وجنّب شعبه القتل والدمار. وفي مصر لم يأمر مبارك الجيش المصري بقصف المدن المصرية وقتل الأبرياء. بينما في سورية يؤمر الجيش باحتلال المدن وقصفها على من فيها. نعم، إنّه النّظام ذاته الذي لم يطلق طلقة واحدة لتحرير الجولان، يرسل الجيش والمليشيات القبلية لقتل المواطنين السوريين الأبرياء.

ونصر الله لا يختلف في ذلك
عن صنف آخر من العرب. إنّه الصّنف الذي أطلقت عليه منذ زمن طويل مصطلح ”مراهقي العروبة“ الذين طالما تغنّوا بشعارات الممانعة من على منبر شاشة ”جزيرة“ العربان القابعة في ميدان قطر هو أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. لقد اختفى كلّ هؤلاء عن الشاشات فيما يتعلّق بالشأن السوري وبشؤون انتفاضة الشعب السوري ضدّ الطغيان البعثي القبلي، وذلك إلى أن يتمّ الإيذان لهم بالبدء بالكلام.

لا يستطيع أحد أن يتّهمني
بأنّي أقف في صفّ مؤيّدي السلفية، فطالما كتبت في الماضي وطالما ورفعت صوتي ضدّ كلّ هؤلاء ومن لفّ لفّهم وفي أكثر من منبر وأكثر من لغة. غير أنّ هذا أمرًا وما يجري على الساحة هو أمر مختلف تمامًا. فالوقوف مع المستضعفين في هذا الأوان هو وقوف مع المواطنين السوريين، على جميع مللهم ونحلهم. نعم إنّه وقوف مع كلّ هؤلاء الذين سئموا العيش في كنف نظام توريثي مستبدّ أفقدهم ليس حيواتهم فقط، بل معنى الحياة أصلاً. وها هم أيضًا يخرجون للساحات ضدّ الظّالمين والطواغيت.

إنّ اختفاء نصر الله، كما
هو اختفاء مراهقي العروبة، واستنكافهم عن نصرة الشعب السوري ومطلبه بالحرية يكشف عن عورات كلّ هؤلاء. هل تذكرون كيف تسلّل دريد لحّام وأشباهه عبر الأنفاق إلى غزّة بدعوى فكّ الحصار عن أهلها؟ أنظروا كيف اختفى هو الآخر وأشباهه الآن، فلم يجد أمثال هؤلاء متّسعًا من الوقت للتّسلّل إلى درعا، حمص أو بانياس لفكّ الحصار عن أهلهم السوريّين الذين يتعرّضون للقتل والتنكيل منذ عقود، وليس الآن فقط.

كلّ هذه الوقائع تكشف عن زيف كلّ هؤلاء وعن زيف كلّ شعاراتهم. ولهذا اقتضى التنويه.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: إيلاف، 8 مايو 2011
___________________

الخروج من المأزق السوري


وإذا كان الرئيس الوريث شابًّا، فهل هذا يعني أنّ الشّعب السوري قد كُتب عليه أن يقبل بوجود هذا الرئيس لعقود طويلة مستقبلاً؟ وهل كتب على الشعب السوري أن ينتظر عقودًا من الزّمن حتّى تُضحي حال بشّار الأسد كحال حسني مبارك، والقذافي وعلي عبد الله الصالح بعد سنوات طويلة من الحكم والظلم والفساد والاستبداد؟...

تفكيك العالم العربي



سلمان مصالحة || 

تفكيك العالم العربي


أيّ عالم عربيّ هو هذا؟

إنّ هذه البقعة من الأرض التي يُصطلح عليها في الكتابات السياسية العربية بتعبير ”العالم العربي“ ليست سوى مساحات جغرافية شاسعة هي من مخلفات حقبة الاستعمار العربي المسمّى بـ“الفتوحات الإسلامية“، مرورًا بدول الخلافة/الخلافات الإسلامية المختلفة، عبورًا إلى الإمارات والسلطنات على اختلافها وانتهاء بالاستعمار الأوروبي الذي خلف الإمبراطورية العثمانية الآفلة.

على مرّ التاريخ عاشت وتعيش في هذه البقعة من الأرض مجموعات بشريّة متعدّدة المنابت والأصول العرقية، كما ونشأت فيها وتعدّدت المشارب والمذاهب الدينيّة والطائفيّة. وعلى مرّ التاريخ أيضًا لم تتشكّل فيها، في كلّها أو في بعضها، هويّات جمعية.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أنّ الاستعمار الأوروپي هو الذي رسم حدود هذه البلدان المسمّاة الآن ”العالم العربي“، وهي البلدان المنضوية تحت راية جامعة الدول العربية. وحتّى هذه الجامعة العربيّة ذاتها، والتي شاع صيتها فقط في عقد المؤتمرات العربيّة، فهي أيضًا من ”إبداعات“ ذات الاستعمار الأوروپي أصلاً.

قبل الحديث عمّا يجري من هبّات
في هذا ”العالم العربي“ المترامي الأطراف، حريّ بنا أن نعود إلى المفاهيم المتجذّرة في حضارتنا قبل أن نحاول المضيّ قدمًا في استجداء الأحلام أو الأوهام المستقبليّة. ولهذه الغاية أرى من المفيد أن نستنطق مدلولات المصطلحات التي نستخدمها في لغاتنا، المحكيّات منها والمكتوبات.

فلو نظرنا إلى مدلولات المصطلح ”شعب“ في لغتنا العربيّة نرى أنّ ثمّ إشكاليات كثيرة مرتبطة به ارتباطًا عضويًّا. لا بدّ من التطرّق إلى هذه الإشكاليات بغية الوقوف على الإسقاطات التي زالت فاعلة فينا وفي ”شعوبنا“ منذ القدم وإلى يومنا هذا.

فها هو ابن منظور في اللسان يذكّرنا ماذا يعني ”الشّعب“، هذا التعبير المتعارف عليه في هذا العصر. إذ يذكر ابن منظور: "وهو أيضًا القبيلة العظيمة، والجمع شعوب... وقيل الشّعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب“. وفي التفاتة أخرى من السّلف إلى هذه المسألة نرى أنّ مصطلح شعوب يخصّ الموالي: "ويقال شعوبًا موالي، وقبائل عربًا." (أنظر: تنوير المقباس المنسوب لابن عبّاس: ج 2، 40؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 7، 473). وفي مواقع أخرى أضاف القدماء تعبير الأسباط إلى هذه التعريفات بغية الوصول إلى زيادة في التوضيح: "وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل." (أنظر: تفسير البحر المحيط لابن حيان: ج 10، 116).

وقيل: الشعوب: عرب اليمن من قحطان، والقبائل: ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقال قتادة ومجاهد والضحاك: الشعب: النسب الأبعد، والقبيلة: الأقرب.“ (أنظر: تنوير المقباس المنسوب لابن عباس: ج 2، 40؛ تفسير القرطبي: ج 16، 344؛ تفسير البحر المحيط لابن حيان: ج 10، 116).


ولشدّة ما تبلبل العرب
في هذه القضايا، فقد أطلقوا مصطلح الشّعوب على الأمم الأخرى، غير الناطقة بالعربية، وبكلمات القشيري: "فالشعوب - من لا يُعرف لهم أصلُ نسبٍ كالهند والجبل والترك. والقبائل - من العرب." (تفسير القرطبي: ج 16، 344). إذن، فالمصطلح ”شعب“ يطلق على بطون الأعاجم، أمّا فيما يتعلّق ببطون العرب فالمصطلح الأصحّ في سياق حالهم الاجتماعية فهو ”القبيلة“.

إذن، وممّا أوردنا سابقًا، نصل إلى قناعة راسخة أنّ مصطلح ”القبيلة“ هو المصطلح المركزي فيما يتعلّق بالحياة العربية منذ أقدم العصور. وهذا المصطلح، في حقيقته، له علاقة بالنّسَب البيولوجي فقط، دون غيره من التبعيّات. أو كما يورد القرطبي: "والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم." (تفسير القرطبي: : ج 16، 344)، وبكلمات ابن عبّاس: الشعوب هي الأنساب.

وهكذا نرى أنّ المسألة ليست بهذه البساطة كما قد يظنّ البعض، لأنّ لها علاقة وثيقة بالهويّات والعصبيّات المتجذّرة في هذه الطبائع العربيّة منذ أن ظهر العرب على مسرح التاريخ. أي أنّ الإنتماء إلى الشّعب في حضارة العرب هو إنتماء بيولوجي وليس إنتماء إلى حضارة جامعة تتخطّى النّسب القبلي الأعلى. ومنذ القدم كان العرب مولعين بالأنساب حتّى أفردوا له علمًا خاصًّا به.

لذا، فعندما يقتبس أصحاب الشعارات
آيات قرآنية، فإنّما هم حينما يفعلون ذلك فهم يخرجون الآيات من سياقها دون العودة إلى مدلولاتها الحقيقية المتجذّرة. أجل، فالآية القرآنية من سورة الحجرات "وَجَعَلْناكُم شُعوبًا وقبائلَ لتَعَارَفُوا"، تميّز بين الشعوب والقبائل، كما إنّ مدلول ”الشعب“ فيها لا يتعدّى المعنى القبليّ الدالّ على ”رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج...“ (أنظر: تفسير البغوي: ج 7، 347؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 277؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 4، 180). ومهما اختلف المفسّرون في مدلولات مصطلح شعب، إن كان يعني قبيلة، أم فخذًا أم بطنًا أم شيئًا من هذا القبيل فهو لا يتعدّى النّسب البيولوجي في الذّهنيّة العربيّة.

قد يكون في هذه الخلفية زادٌ يزوّدنا ببعض المفاتيح لفهم ما جرى في العقود الأخيرة وما هو جار في ”العالم العربي“ هذه الأيّام. فهل يمكننا، إذن، الحديث عن عالم عربيّ متجانس؟

لقد جاءت الأنظمة العربية التي خلفت الاستعمار الغربي، وعلى خلفية الحالة الاجتماعية العربية، على صورة ممالك، إمارات وسلطنات، ثمّ ما لبثت حركات العسكر، وعلى خلفية الحرب الباردة، أن قامت بتمرّدات أطيح فيها ببعض الملوك وتسلّم العسكر زمام السلطة باثّين على الملأ شعارات رنّانة كالعروبة والحريّة والاشتراكية والأمّة الواحدة والرسالة الخالدة وما إلى ذلك من كلام معسول ومقفّى. غير أنّ الحقيقة سرعان ما ظهرت على السّطح، فقد تحوّلت كلّ هذه الأنظمة إلى الاستبداد والطغيان، فلم تجلب لا الحرية ولا الاشتراكية ولا الوحدة، بل أضحت آلية استبداد رابخة على رؤوس العباد. والأنكى من ذلك، أنّها عادت بالمجتمعات إلى الاستبداد القبلي والطائفي كما هي حال العراق وسورية وغيرهما. والحقيقة التي لا مناص من الإشارة إليها هي أنّه وبالمقارنة بين نوعي الأنظمة فإنّ الأنظمة الملكية في البلدان العربية كانت أكثر رحمة بشعوبها من تلك الأنظمة التي ادّعت الثورية رافعة شعارات تدغدغ الوجدان العربي، بينما في الواقع عاثت في الأرض فسادًا واستبدادًا.

حتّى إنّ الاستعمار الغربي
كان أرحم بالعباد من حكّام هذه البلاد الّذين يدّعون العروبة. لهذا السّبب، من الجدير بالذّكر أنّ الهبّات الشعبيّة التي تجتاح هذه البقعة من الأرض قد تخطّت تقريبًا البلاد التي يسود فيها النظام الملكي، وقد ضربت هذه الهبّات الشعبيّة كلّ تلك البلدان التي حكم فيها العسكر الحزبي، ومن ثمّ القبلي والطائفي. أي أنّ هذه الهبّات هي هبّات شعبية ضدّ مخلّفات الناصرية والبعثية في العالم العربي.

قد يشعر البعض بالتفاؤل جرّاء هذه الهبّات الشعبية العربية ضدّ الطغاة العرب. لكن، من جهة أخرى، وحتّى هذه اللحظة، لا أرى في الأفق بشائر ثورات حقيقيّة. كلّ ما في الأمر هي أنّ جماهير البشر المستضعفة لم تعد تطيق هذه الأنظمة الاستبدادية حاملة الشعارات المعسولة الكاذبة.


الثورة العربية الحقيقية هي فقط
عندما تخرج الجماهير طالبة فصل الدين عن الدولة، وفصل الطائفة والقبيلة عن الدولة، ووضع الأسس الدستورية لدولة المواطنة وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ووضع حدّ للتوريث القبلي وهو المرض الخبيث الذي يفتك بالعرب منذ القدم.

هذه هي المبادئ التي تخلق شعبًا واحدًا في هذا العصر، وإن لم يحصل ذلك، فإنّ لسان حالنا سيظلّ يقول: كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا، وستبقى العصبيّة القبلية والطائفية تنخر في هذا الجسم الجغرافي الديموغرافي الذي يُطلق عليه مصطلح ”العالم العربي“. سيبقى هذا الجسم أسيرًا للمفاهيم والاصطلاحات العربية القديمة، وسيظلّ مفهوم الشعب خاصًّا بالأمم الأخرى وبعيدًا عن توصيف العرب.
*
نشرت في: إيلاف، 23 أپريل 2011

***
___________________________

الأسد ملك إسرائيل



لقد أثارت المقالة التي نشرتها بتاريخ 29 مارس في صحيفة ”هآرتس“ العبرية، ونشرت أيضًا بنسختها الإنكليزية، ردود فعل كثيرة، وعلى وجه الخصوص في الصحافة والمواقع العربية. ولأنّ الترجمات العربية للمقالة كانت رديئة وركيكة ومقتطعة، فقد ارتأيت أن أضع هنا ترجمة دقيقة للمقالة كما ظهرت في الأصل باللغة العبرية.

طل نيتسان | تهليلة معاقة

تهليلة عابرة للحدود

الطفلة طل هي حفيدة الشاعر الفلسطيني باسم النبريص من غزّة. والقصيدة المهداة إليها هي من كلمات طل نيتسان، وهي شاعرة، مترجمة ومحرّرة أدبية من من تل-أبيب. وقد رغبت في أن توصل هذه القصيدة إلى الصديق الشاعر باسم النبريص وإلى حفيدته، وما من سبيل لذلك سوى سبيل الترجمة العابرة للحدود والحواجز والحصارات كلّها.

فها أنذا أقدّم هذه الترجمة هديّة لطل الصغيرة وطل الكبيرة معًا، وكذلك للجدّ باسم النبريص كي يقرأها على مسامع حفيدته.
***

طل نيتسان


تهليلة معاقة
إلى: طل أشرف أبو خطّاب، المولودة في غزّة في 1 أيّار 2010

الطفلة التي تَحْملُ اسْمِي بَلَغَتْ من العُمْرِ اليَوْمَ شَهرًا ويومين
ودون أنْ تَعْرفَ أنّها وُلِدَتْ فِي جَهَنّم فَهْي تَزُمّ أَنْفًا صَغيرًا
وتَقْبضُ كَفَّيْها كَما الأَطْفال في كُلّ العالَم.

أرْبَعةُ كيلوغراماتها والكَعْكَةُ التي لم يَخْبزْ لها جَدُّها
حِمْلٌ ثَقيلٌ عَلَى قَلْبي.
إنْ أُرْسلْ لها دُبًّا صَغِيرًا سَيَسْقُطْ كالحَجَر.

الزّعْنفةُ الحادّةُ تَحومُ دَوائرَهَا. ها أَنَذا أَصْعُدُ،
قَدَمي علَى ظَهْر السّفينة، ذُعْرٌ وخَجَلٌ عَلَى مُحَيّاي.
طِفْلَتي تُركَتْ في الوَرَاء.


ترجمها من العبرية: سلمان مصالحة
***
For Hebrew, press here
For English, press here
_________________________

وصمة على جبين طاغية

سلمان مصالحة

وصمة على جبين طاغية

لعلّ خير
ما أبتدئ به كلامي هذا هو اقتباس هذه الجمل من قصيدة ”رقيمة على قبر طاغية“ للشاعر و. هـ. أودن: ”حِينَمَا ضَحِكَ، انْفَجَرَ ضِحْكًا شُيُوخُ الوَقَارْ، / وَحِينَمَا بَكَى، مَاتَ في الشَّوارعِ الأَطْفَالُ الصِّغَارْ“. فالشعر الحقيقي، على العموم، يختزل الحياة البشرية بتعقيداتها.
لقد تذكّرت كلمات الشاعر هذه لدى مشاهدة خطاب الرئيس السوري بشّار الأسد أمام ما يُسمّى زورًا وبهتانًا ”مجلس الشعب“.

ربّما كان من المفيد أن ننظر أوّلاً في مسألة لغويّة لها، على ما أعتقد، دلالات كبرى فيما يتعلّق بأحوالنا. والمسألة التي أعنيها هي المصطلحات المستخدمة في السياقات السياسية العربيّة.

فلو ذهبنا إلى التعبير ”مجلس الشعب“ كما اصطلح عليه في البلدان العربية فهو في الحقيقة مصطلح لا يحمل أيّ معنى. فبالعودة إلى الأصل وإلى الحقل الدّلالي للمصطلح نرى أنّ الـ“مجلس“ في اللغة العربية هو مكان الجلوس ليس إلاّ. بخلاف ذلك، لو ذهبنا لمقارنة هذه الدّلالة بدلالة المصطلحات الأجنبية المستخدمة في هذا السياق السياسي، كمصطلح الـ“پرلمان“ على سبيل المثال، فلا شكّ أنّنا سنقف على هذا البون الشاسع بين الدّلالات. فمصطلح ”پرلمان“ من ناحية إيتمولوجية، كما يفيد قاموس أوكسفورد، بدءًا من اللاتينية ”پرلمنتوم“، ثمّ الإنكليزية والفرنسية، يفيد الملتقى، الكلام، الحديث، النقاش، الجدل والسّجال. من هنا، يُلاحظ هذا الفرق بين هذه الدلالات ودلالة المصطلح العربي - ”مجلس“ -، الذي لا يحتوي على أيّ دلالة سوى الجلوس. كذا هي حال ”مجالس الشعوب“ عند العرب، كذا كانت منذ القدم ولم يطرأ عليها تغيير يُذكر.

لقد اعتلى الرئيس بشّار الأسد
منصّة ”مجلس الشّعب“ مزهوًّا باستقبال الجالسين في المجلس، تصفيقًا له وردحًا شعريًّا عربيًّا بليدًا. ليس مزهوًّا فحسب، بل يضحك أيضًا. فعلى ماذا يضحك؟ على أخبار عشرات القتلى ومئات الجرحى؟ وعلى ماذا يضحك معه ”شيوخ الوقار“؟ أعلى كلّ هذا الدّمار، أم على دماء الأطفال الصغار؟

إنّ ما يُسمّى ”مجالس شعب“ من هذا النّوع هو وصمة عار على جبين من ينتمي إلى هذه الأمّة. إنّ هذا النّوع من الجالسين في هذه المجالس هم صنف من البشر يصفّقون اليوم لهذا الدكتاتور، وهم أنفسهم سيصفّقون بلا شكّ عندما تدول دولته إلى من يأتي بعده. إنّهم دائمًا على أهبة التّصفيق للدكتاتور، أيًّا كان هذا الدكتاتور. فكيف يمكن للفرد أن يثق بهم؟

إنّ أشدّ ما يحزّ في نفس المرء
هو هذا السؤال الّذي لا يني يلحّ علينا صباح مساء وليل نهار: ما هي هذه الحضارة العربية التي تخلق هذا النّوع من البشر المطبّلين المزمّرين لكلّ طاغية؟ فمن أيّ طينة جُبل كلّ هؤلاء وما هي الأصول الحضارية التي يترعرعون عليها حتّى أضحوا مهزلة أمام العالم أجمع. غير أنّها مهزلة لم تعد تضحك أحدًا.

يشيع أتباع الدكتاتور الأقاويل عن عصابات سلفيّة وراء كلّ هذه الانتفاضة الشعبيّة للبشر الذين ينادون بالحريّة. لم تعد هذه الأكاذيب تنطلي على أحد في هذا العصر المعلوماتي. إذ أنّ هذه العصابات، كما ظهر في الأشرطة التي تصل إلى أرجاء العالم عبر الإنترنت، هي عصابات "شبيحة" البعث الفاشي وبلطجية النظام القبليّ نفسه.

فهل كلّ المثقّفين السوريّين الذين زجّ بهم هذا النّظام الفاشي في غياهب سجونه هم من السّلفيين؟ وهل المدوّنون الشبّان هم من السّلفيين؟ فعلى من يضحك زبانية هذا النّظام الذي أحدث بدعة سياسية عربية بالتوريث الجمهوري وسجّلها ماركة على اسمه في العلوم السياسية؟ وهل هنالك من يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة يشتري كلّ هذا الكلام من أزلام النّظام؟

يجب التأكيد مجدّدًا على
أنّه لا يمكن أن تقوم قائمة لدولة عربية، مثل سورية - وهي المتعدّدة الطّوائف والإثنيات -إلاّ على أرضيّة هي ضدّ السلفيّة بكلّ ما تمثّله هذه السّلفيّة من عنصريّة دينية وفرقة مجتمعية. وفي الوقت ذاته لا يمكن أيضًا أن تقوم لها قائمة إلاّ ضدّ الطائفيّة والقبليّة أيًّا ما كان مصدر هذه الطائفيّة والقبليّة، وهي الطائفيّة والقبليّة التي يفهم النّظام معناها ومغزاها، فهو من وضع الأسس لها.

فقط الدولة المدنية التي تفصل الدّين عن الدولة، وتحظر الأحزاب الدينية، وتتداول السلطة بالاقتراع الحرّ هي التي تتطوّر في هذا العالم المعاصر. وما دون ذلك، فبئس المصير. كلّ هذه الأسئلة لا مناص من طرحها على الملأ العربي الأعظم. ولزام على كلّ فرد عربيّ لا زال يمتلك ذرّة من كرامة أن يتفكّر فيها مليًّا.

هذه هي الطّريق لاعتلاء قطار الحضارة الإنسانية المتسارع قدمًا. وما لم يمض العرب في هذه الطّريق، فلن تقوم لهم قائمة، وسيظلّون يهيمون على وجوههم في صحاريهم الاجتماعية، الفكرية، السياسية وسائر مناحي حياتهم على هذه الأرض، وإلى أبد الآبدين.

والعقل ولي التوفيق.
***
نشر في: "إيلاف"- 1 أپريل 2011
*
English article on the same topic, press here
*
____________________

ثورة الحريّة السوريّة

كَلامًا مِنْ لَمَى أَلَمٍ يُسَلُّ - وَبَوْحًا مِنْ فُؤادِي أَسْتَهِلُّ
فَفِي الشَّامِ الّتِي نَكَأَتْ جِراحِي - شَبَابٌ فِي حِمَى الطُّغْيانِ حَلُّوا

---

سلمان مصالحة || 

ثورة الحريّة السوريّة

الأخبار الواردة من الشام
لا تبشّر بالخير. ماذا يمكن للمرء أن ينتظر من نظام قبليّ طائفي مُدمنٍ على القمع والكبت وفوق كلّ ذلك مولع على ما يبدو بسفك دماء شعبه؟ لقد أضحت هذه الجرائم سمة لهذا النّظام مثلما كانت دائمًا سمة لهذا البعث القبليّ الـ“عربي“ الفاشي منذ نشوئه في هذا المشرق. لقد صكّ هذا البعث شعار الـ“عروبة“ رافعًا ايّاها أكذوبة يخفي وراءها طبيعته القبليّة الطائفيّة. كذا كانت الحال في العراق زمن بعث ذلك السفّاح الّذي أفل وحزبه إلى غير رجعة. وكذا هي الحال، كانت في الماضي ولا تزال، بدءًا بالأسد الأب، ثمّ توريثًا لهذا القمع والفساد للأسد الابن، الذي سيأفل كسائر الآفلين عاجلاً أم آجلاً، فقد جلّ من لا يأفل. لكن، وعلى ما يبدو أيضًا فإنّ أفول هذا النّظام، كعادة هذا النّوع من الأنظمة، سيكون ملطّخًا بالدّماء، دماء السّوريّين، على اختلاف انتماءاتهم الطائفيّة.

إنّ الأنظمة القبليّة العربيّة، وبكلّ تنويعاتها المختلفة، هي في نهاية المطاف أنظمة استعماريّة لا تختلف بشيء عن الاستعمار الغريب سوى بكونها تتّسم بالعروبة الأكذوبة، حيث تقوم قبيلة معيّنة بفرض سلطتها على سائر مكوّنات الطّيف القبلي في هذه الدّول التي أنشأها ورسم حدودها الاستعمار الغربيّ أصلاً. إنّ أبرز مظهر لهذا الاستعمار القبليّ هو ما شهدته سورية من توريث للرئاسة مبتدعة بذلك ماركة عربيّة مسجّلة في سجّل العلوم السياسيّة. غير أنّنا لو قارنّا بين الاستعمار الغربيّ وبين هذا الاستعمار العربيّ الدّاخليّ لرأينا بلا أدنى شكّ أنّ الاستعمار الغربيّ كان أكثر رحمة من استعمار ذوي القربى هؤلاء. وما دامت الحال على هذا المنوال فما الحاجة إلى كلّ هذا الاستقلال وإلى كلّ هذه الشّعارات الرنّانة التي لازمتها طوال عقود من الكذب والبهتان وفي جميع الأحوال.

طالما أشبعنا هذا البعث الفاشي بشعارات الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة. فلم تكن أمّته واحدة في يوم من الأيّام، بل دائمًا كانت مشتّتة بائدة، ولا كانت رسالته خالدة، بل كانت ولا تزال مُفتّتة دائدة. فما الذي ينتظره المرء من نظام تشمل قوانينه، على سبيل المثال، بنودًا مثل ”إضعاف الشّعور القومي“ أو ”وهن نفسيّة الأمّة“، وما شابه ذلك من هذه السخافات التي يُحاكَم عليها المواطنون؟ وما الذي ينتظره المرء من نظام يقتاد إلى السجن مدوّنة شابّة، هي طلّ الملوحي، بتهمة التخابر مع دولة أجنبيّة؟ وما الذي ينتظره المرء من نظام طالما أشبعنا بشعارات المقاومة والصمود والتّصدّي والممانعة، وهو الذي لم يصمد ولم يتصدّ ولم يمانع ولم يطلق رصاصة واحدة لتحرير جولانه أو اسكندرونه منذ عقود وعقود طويلة؟

هذه هي حقيقة
وطبيعة هذا النّظام الذي يُقاوم ويُمانع ويصمد ويتصدّى خلف ظهور اللبنانيين والفلسطينيين، وخلف أيّ ظهر آخر. إنّه كان دومًا على استعداد أن يُمانع وأن يقاوم حتّى آخر لبناني وحتى آخر فلسطيني. هذا هو طبع هذا النظام، وهذه هي حقيقة هذا النّظام الذي سيبقى ممانعًا فقط بالشعارات بغية البقاء في سدّة حكمه وفساده وإرهابه. ومن أجل التغرير بعقول الأغبياء من مراهقي العروبة يرسل وكلاء مخابراته وعملاءه وسائر زبانيته للتنظير والتحليل في صحف وفضائيّات صحارى وجزائر العربان.

إنّ نظام البعث هذا، كسابقه الآفل في بلاد الرافدين، هو نظام استعماري طائفي وقبلي، وقد آن أوان اندثاره ورميه في مزبلة التاريخ. لقد آن الأوان أن يتحرّر العرب في هذه البقعة من الأرض من كلّ هذه الاستعمارات القبلية، الملكية والجمهورية الوراثية والسلطنات والإمارات الأمّارة بالسّوء، وكلّ تلك الأنظمة التي نخرت عظامهم فأحالتهم رميمًا على قارعة الشعوب.

ما من سبيل لبلوغ
هذه الغاية سوى سبيل المدنية الحديثة. إنّها مدنية دولة المواطنين الأحرار في بلادهم الماسكين بزمام أمورهم ومصائرهم. ما من سبيل سوى سبيل فصل الدين عن الدولة ووضع الدساتير العصرية التي تكفل للأفراد والجماعات الحقوق والحريات في كلّ مجالات الحياة، السياسية والثقافية والاجتماعية. وفوق كلّ ذلك، يجب أن يرفع الجميع في هذا المشرق العربيّ شعارات: لا توريث للسلطة بعد اليوم، لا اضطهاد للعباد بعد اليوم، لا كبت للحريات بعد اليوم، لا استعمار قبليًّا طائفيًّا بأيّ شكل من الأشكال بعد اليوم.

ولعلّ خير الختام هذا الكلام:

حلم الحرية

كَلامًا مِنْ لَمَى أَلَمٍ يُسَلُّ - وَبَوْحًا مِنْ فُؤادِي أَسْتَهِلُّ
فَفِي الشَّامِ الّتِي نَكَأَتْ جِراحِي - شَبَابٌ فِي حِمَى الطُّغْيانِ حَلُّوا
لَهُمْ أَمَلٌ وَلكِنْ كَيْفَ يُرْجَى - وَفَوْقَ الصَّدْرِ أَثْقَالٌ تُشِلُّ
شَبَابٌ مِنْ لَظَى النّيرانِ قَامُوا - وَقَالُوا اليَوْمَ للطّاغِينَ: حِلُّوا
عَنِ الأَرْضِ الّتِي شَبِعَتْ عَذَابًا - عَنِ الشَّعْبِ الَّذِي أَضْناهُ غُلُّ
أَلا يَا شَامُ، يَا حورانُ صَبْرًا - بُغَاةُ الأَرْضِ للأَحْرارِ نَعْلُ
إذَا نَادَى المُنادِي فِي شَآمٍ - وَأَسْرَجَ حُلْمَهُ فَالكُلُّ خَيْلُ
لَكُمْ حُلُمٌ وَبَعْضُ الحُلْمِ يَأْتِي - بِأَسْحارٍ لَهَا الدّمْعَاتُ طَلُّ
فَلا يُعْلَى عَلَيْهِ وَإنْ تَمَادَتْ - بُغَاةُ الأَرْضِ، إنَّ الحُلْمَ يَعْلُو

والعقل وليّ التوفيق!
***
نشر في: "إيلاف"، 26 مارس 2011

في مديح الاستعمار


سـلمان مصـالحة || 

في مديح الاستعمار


هل نستطيع أن نصارح أنفسنا ولو لمرّة واحدة؟

هذا السؤال، على بساطته، ليس سهلاً البتّة. إنّ طريق الوصول إلى الإجابات الشّافية تبدأ فقط من النّقطة الّتي نطرح فيها على أنفسنا السّؤال الصّحيح. إذن، الخطوة الأولى للخروج من دوّاماتنا يجب أن تأتي عبر تعلّمنا أن نسأل الأسئلة الصحيحة، لأنّها وحدها الّتي تفتح أمامنا شعاب الجواب.

باسم الأب والابن

سـلمان مصـالحة

باسم الأب والابن


منذ انقلابه
على المملكة السنوسية، وبتأثير من عبد الناصر والناصرية، وإطلاقه الاسم الأكبر "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى" على "دويلة" هي أبعد ما تكون عن معنى الدولة في العالم المعاصر، كان من الواضح أنّ العقيد البليد المصاب بجنون العظمة العربية الناصرية هو أقرب إلى حالة عصابية منه إلى رجل دولة. غير أنّ أقطار العالم العربي المصابة، كلّ قطر على حدة، بعصاب داخلي مزمن لا تلتفت إلى مثل هذه الأمور لدى "الأشقّاء". فلكلّ بلد بلواه وكلّ بلد يغنّي على ليلاه.
 
والآن، وبعد الهبّة التي اجتاحت بعض أقطار هذا العالم العربي ضدّ مخلّفات الأنظمة الناصرية المتبقية فقد وصلت هذه الاحتجاجات إلى الأراضي الليبية خارجة ضدّ حكم العقيد وطغيانه. وهكذا أيضًا سرعان ما ظهر طبع هذا النّوع من الأنظمة على حقيقته غالبًا التّطبُّع الثّوري الذي حاولت التّلبُّس به. فقد خرج ابن العقيد، سيف الإسلام، واعدًا متوعّدًا بأنهار من الدّم.

ليس مفاجئًا
هذا التّهديد الموجّه للشعب اللّيبي بأنهار من الدّم التي ستسيل إن واصل الشعب احتجاجه على طغيان العقيد الأب. إنّ هذا التّهديد متوقّع من شخص يحمل اسم "سيف الإسلام". إنّ مجرّد اسم من هذا النّوع فيه أكثر من إشارة إلى ما يحمله هذا الاسم في طيّاته من أمور هي أبعد ما تكون عن السماحة والسلام.

إنّ للأسماء أهميّة بالغة في حياة الأفراد والشّعوب. فعندما يختار الوالدان اسمًا لولد رُزقا به فإنّهما في حقيقة الأمر يزجّان بالوليد في قالب ذي أبعاد خطيرة على مسيرة حياته قاما هما بتحديده. بفعلهما هذا إنّما يحدّدان توقّعاتهما منه. وهكذا فإنّ كيان الولد بأسره يرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا القالب - الاسم - الذي وضعاه فيه. إنّ الاسم الذي يُعطى للولد له تأثير كبير على مجرى حياته، على مفاهيمه وعلى سلوكه في المجتمع الذي يترعرع فيه.

على هذه الخلفيّة،
يمكن أن نفهم سلوكيّات سفّاح العراق السّابق الّذي نكّل بشعبه وببيئته طوال عقود. فكلّ سلوكيّاته كانت قد نُقشت منذ الصّغر في الاسم الّذي سُجن فيه. فهل الأمر مُفاجئ أن سلك صدّام السّلوك الذي كان سمة لحكمه؟ إنّ مجرّد إعطاء الاسم "صدّام"، بما يحمله هذا الاسم من عنف في دلالاته، لولد في هذا المجتمع القبليّ كان كافيًا لكي يتحوّل العنف جزءًا من كيانه. وهكذا أضحى هذا العنف بعد أن تقدّم به العمر ووصل إلى سدّة الحكم سمة بارزة لهويّته الشخصيّة داخل هذا المجتمع القبلي الذي يسجد للقوّة وللعنف أصلاً وإلاّ لما مُنح الأطفال أسماء من هذا النّوع.

هنالك مجتمعات تُعطي اسم الأب للابن. كذا هي الحال مع جورج بوش الابن. بهذا السّياق، لم يكن صدّام مرتبطًا بالهجوم الإرهابي على أميركا في 11 سپتمبر، بل إنّ غالبيّة الإرهابيّين كانوا من جنسيّات سعوديّة وليسوا عراقيين بأيّ حال. ومع ذلك، فإنّ جورج بوش الابن الّذي كان قد سُجن في قالب اسم والده، فقد ترعرع ووصل إلى الرئاسة الأميركيّة مع كلّ هذه الدّافعيّة لإنهاء مهمّة جورج بوش الأب التي لم تصل إلى نهايتها في العراق.

منذ القدم
تُعزى أهميّة كبيرة للأسماء التي تُعطى للولد. ففي بعض الأحيان يتدخّل الإله بنفسه لتغيير اسم الشخص تبعًا للمهمّة الملقاة عليه من السّماء. كذا هي الحال مع إبراهيم، كما ورد عن عهد الإله الذي قطعه له في سفر التكوين: "ولَنْ تُدْعَى بعد اليوم باسم أبرام بل يكون اسمك أبرهام [= إبراهيم] لأنّي أجعلك أبَا أممٍ جَمّة" (تكوين 17، 5).

الاسم الذي يُعطى للولد يعيش معه طوال حياته، وبذا فهو يتحوّل جزءًا من هويّتة الفرديّة، ولذا فهو بالغ الدّلالة، وما من شكّ فإنّ له تأثيرًا بيّنًا على شخصيّته المتبلورة على مرّ الزّمن.

لقد أولى العرب القدماء اهتمامًا بالأسماء، فقد سمّوا أبناءهم بأسماء اعتقدوا أنّ في وسعها أن تدبّ الرّعب في السّامع، كغضنفر وصخر وشأس وذئب، بينما سمّوا عبيدهم وجواريهم بأسماء تتّسم بالرقّة واللّطافة، كفيروز وياقوت وريحانة ويُسر وكافور. وقد فسّروا ذلك بأنّ أسماء أبنائهم وأسماء قبائلهم موجّهة لترهيب الأعداء بينما أسماء العبيد والجواري فهي موجّهة لهم.

وهكذا، وعلى هذه الخلفية،
بوسعنا الآن أن نفهم ما هو حاصل في ليبيا. إنّ أنهار الدّم التي وعد بها القذّافي الابن منقوشة على جبين الابن وعلى جبين الأب. فإنّ العربيّ الّذي ينتسب إلى اسم مثل "قذّاف الدّم" لا يمكن أن يتحرّر مما يحمله اسم كهذا ومن مدلولاته.

عاجلاً أم آجلاً سيطفو الشرّ على السّطح مع أسماء من هذا النّوع. كذا كانت الحال مع العنف الكامن في الاسم "صدّام"، وكذا هي الحال الآن مع قذّاف الدّم".

وأخيرًا، ما على العرب إلاّ التّفكير مجدّدًا فيما يختارونه لأبناءهم ولعائلاتهم من أسماء.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: إيلاف
***
Relating stories
English, press here
Hebrew, press here
Spanish, press here
Italian, press here

____________________

في ضيافة ملك الملوك

سـلمان مصـالحة

في ضيافة ملك الملوك
كاريكاتير
عربان 48


في الصورة
أعضاء الكنيست محمد بركة (الجبهة الديمقراطية)، أحمد طيبي (القائمة العربية)، حنين زعبي (التجمع الوطني)
ضمن
وفد أحزاب وزعامات عرب 48
إلى مضارب قبيلة القذّافي
في
"الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"
***

Read more about the issue
English,
press here
Hebrew, press here

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمّة عربيّة بائدة ذات رسالة دائدة

مقالة من عام 2005:
 
 
 

سلمان مصالحة ||

 أمّة عربيّة بائدة ذات رسالة دائدة


مثلما اختفى النّظام البعثي الفاشي في بغداد بين ليلة وضحاها، وذهب ليختبئ في جحر في الأرض، هكذا آن الأوان أن يذهب البعث الشّامي إلى الجحيم، وإذا شاءت الأقدار أن يكون ذلك بعون من العالم الحرّ والدّيمقراطي، فليكن ذلك. النّظام العربي بأسره، ممالك وإمارات وسلطنات وجمهوريّات وراثيّة، والنّظام العربي بأسره من مجتمعات وتقاليد ومعتقدات، يجب أن يذهب إلى الجحيم وإلى الأبد. لم يعد أحد يطيق هذا الوضع المزري. التّغنّي بالشّعارات الزّائفة طوال قرون قد أزهقت أرواح البشر على مللهم ونحلهم وأفقرت البشر في مناطق تُعدّ من أغنى بقاع الأرض. لم يعد أحد في هذا العصر يصدّق هذا الدّجل العربي. 
 
نحن أمّة على مفترق طرق فإمّا أن ننظر إلى أنفسنا بالمرآة ونرى قبحنا وإمّا فلن تكتب لنا الحياة أبدًا. نحنُ أمّة تُقدّس الماضي على موروثه الإجرامي، بل أكثر من ذلك إنّنا نُربّي الأجيال الجديدة في البيت وفي المدرسة، في وسائل الإعلام وفي دور العبادة على هذا الموروث الّذي آن الأوان إلى نفضه وإلى طحنه وإلقائه في سلّة مهملات التّاريخ البشري. 
 
نحنُ أمّة عنصريّة وقد ترعرعنا حضاريًّا على كراهية العجم، والعجم هم الأغيار بلغة هذا العصر. نحنُ أمّة عنصريّة لأنّنا كُنّا نتغنّى في الصّبا بشعر المتنبّي: "لا تشترِ العبدَ إلاّ والعصا معه - إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ"، فعلّمونا في المدرسة أن تهتزّ مشاعرنا فرحًا بهذه العنصريّة الشّعريّة. هكذا في المدرسة وهكذا في الشّارع وهكذا في كلّ زاوية من بقاعنا من المحيط إلى الخليج.
 
 نحن أمّة عنصريّة لأنّنا ملل ونحل وطوائف وقبائل تربّي أبناءها على الكراهية طوال قرون، بينما ترفع في العلن شعارات الإخاء الزّائفة. لم يعد هذا الكلام ينطلي على أحد. 
 
نحن أمّة قبيحة تتغنّى بجمالها الزّائف، غير أنّ العالم من حولنا يرى قبحنا على حقيقته. آه، ما أقبحنا.
 
انظروا كيف أنّنا نحن أكثر الأمم حديثًا عن الشّرف والكرامة. أليس في هذا خير دليل على انعدام الشّرف والكرامة لدينا. إذ لو كنّا حقًّا شرفاء وكرامًا لما احتجنا إلى التّغنّي بكلّ هذه الشّعارات. لو كنّا حقًّا شرفاء وكرامًا لأشعنا أنوارهما على من حولنا. نحن أمّة ذكوريّة لا شرف لنا من ذواتنا نحن، بل نضع كلّ هذا الشّرف في النّساء. إنّ من لا ينبع شرفه من ذاته هو فلن يكون شريفًا أبدًا، مهما تغنّى بهذا الشّرف الزّائف.
 
 إنّ ما نشيعه اليوم في العالم من حولنا هو الإرهاب والتخلّف فقط. هذه هي صادراتنا العربيّة إلى العالم اليوم. ألا تخجل هذه الأمّة بهذا الإرث الّذي نخرته الأرضةُ فتتطاير شررًا يحرق الأخضر واليابس عندنا، وعند جيراننا في هذه البشريّة المنكوبة بنا وبحضارتنا البلهاء.
 
 غالبية مثقّفينا ومفكّرينا خانوا شعوبهم بصمتهم على هذا الإرث الإجرامي والّذي ينزف دمًا وتخلُّفًا منذ قرون طويلة. ألم يئن الأوان لإجراء جلسة واحدة حقيقيّة لحساب النّفس؟ ألم ييأس أحد بعد من هذا الوضع؟ 
 
ها أنا أدعو القرّاء اليوم إلى اليأس. اليأس هو مفتاح الولوج إلى سواء السّبيل. وسواء السّبيل ليس بالمعنى الدّيني الّذي يرفعه الدّجّالون من فقهاء الظّلام. سواء السّبيل الّذي أرمي إليه هو إعمال العقل، هذه النّعمة الّتي أغدقتها علينا الطّبيعة. العقل يوحّدنا بَشَرًا، وكلّ ما سواه يفرّقنا مللاً ونحلاً هي أقرب إلى الحيواناتِ المفترسة منها إلى البشر. فالعقل، والعقل وحده، هو ميزتنا البشريّة، وكلّ ما سواه، من معتقدات دينيّة وتقاليد بائدة، هو ميزتنا الحيوانيّة من عصور التّخلُّف البشري السّحيقة.
 
 نحن بحاجة إلى ثورة أتاتوركيّة في العالم العربي تفصل الدّين عن الدّولة وعن المجتمع العامّ بصورة جذريّة. نحن بحاجة إلى ثورة أتاتوركيّة تحظر قيام أحزاب دينيّة تفرض أيديولوجيّاتها على المجتمع وعلى الشّارع. نحن بحاجة إلى ثورة ذهنيّة تقوم بإرجاع العفريت الدّيني والطّائفي إلى القمقم ودفنه في أسفل سافلين.
 
 لا توجد طريق أخرى للخروج من هذه المزبلة الحضاريّة.
 
 إذا كان لديكم طريق أخرى، هيّا أرشدونا! 
 
* نشرت في: إيلاف - 18 فبراير 2005 

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

سـلمان مصـالحة

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

ينشرح صدر المرء
عندما يرى الناس ترتعش وتنتفض ضد الظّلم. هذا ما حصل في تونس وفي مصر، وهذا الفرح يعمّ شرائح شعبيّة واسعة ليس في مصر فحسب، بل وفي أنحاء العالم العربي. غير أنّ تسمية هذه الارتعاشات الشعبيّة "ثورة" يفتقد إلى الأسس التي تجعل من هبّة النّاس، مهما اتّسعت رقعتها، ثورةً بما يعنيه هذا المصطلح في العلوم السياسية.

من هنا فعلى الذين يتحدثون عن "ثورة" أو ثورات عربيّات أن يشرحوا لأنفسهم أوّلا، وقبل أن يطلقوا الشعارات الرنّانة ويوزعوها على الملأ، كَيْفَذا ولِمَذا تجتاح هذه الاحتجاجات الشعبيّة بالذّات البلاد العربية التي أفرزت منذ منتصف القرن المنصرم، وبعد جلاء الاستعمار أنظمة مسمّاة زورًا وبهتانًا أنظمة جمهورية وثورية؟ وهل كانت هذه حقًّا جمهورية وثورية؟

إنّ تخطّي هذه الاحتجاجات الشعبية العربية الأنظمة الملكية في العالم العربي يثير الكثير من التساؤلات. إنّ هذه الهبّات الشعبية التي تتخطّى الأنظمة الملكية إنّما هي تعبير عن رفض الدجل الذي اتّسمت به كلّ تلك الأنظمة التي تدّعي الـ"ثورية" والـ"جماهيريّة". فكلّ تلك الأنظمة "لثورية" الدّاجلة في جوهرها والزّاجلة في شعاراتها، بدءًا من عبد الناصر والناصرية وانتهاء بصدّام والأسد والبعثيّة القبلية لم تجلب سوى الطغيان والاستبداد وتقتيل العباد والاستيلاء على خيرات البلاد لتوزيعها وتوريثها لذوي القربى والأولاد.

بل يمكن القول جهرًا إنّ كلّ تلك الأنظمة الملكية العربيّة، والتي طالما وسمها هؤلاء النّفر "الثوريون"، ممّن يرفعون شعارات قوموية عن الثورة والجماهير وما إلى ذلك من كلام المواخير المستوردة بالـ"رجعية"، كانت أنظمة أكثر رأفة بشعوبها من كلّ ما يأفك هؤلاء في شعاراتهم. كما يمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول إنّه حتّى الاستعمار ذاته كان أفضل بكثير ممّا جلبته هذه الأنظمة "الثورية" على شعوبها من خيبات وويلات.

هكذا، وعلى سبيل المثال،
يخرج ما تبقى من فلول الشيوعيين العرب من جحورهم ويدبّجون كلامهم بشعارات ثورية رومانسية ظانّين بسذاجتهم أنّ ميدان التحرير في القاهرة، وبين ليلة وضحاها وبجرّة شعارات أكل الدهر عليها وشرب حتّى ثمل، قد أضحى الساحة الحمراء في موسكو التي طالما شدّوا إليها الرحال، قبل أن تنفرط المنظومة، كما لو أنّها محجّة يتضرّعون في أنحائها إلى وليّ نعمتهم الّذي اندثر ولم يبق منه أثر. وهو على كلّ حال ولي نعمة لم يختلف في دكتاتوريته وفساده عن سائر الدكتاتوريات من دول الإفساد. وهؤلاء هم ذاتهم الذين دعموا في الماضي ولا زالوا في الحاضر يدعمون أسوأ الأنظمة دكتاتورية وفسادًا بدءًا من بلاد العرب وانتهاء ببلاد العجم وما وراءها.

هكذا أيضًا، يخرج ما تبقى من فلول العروبيين، أناصريين كانوا أم بعثيين، ناشرين على الملأ كلامًا معسولاً، منثورًا أحيانًا وموزونًا أحيانًا ومقفّى في أخرى، عن أمّة العرب وعن العروبة. نعم، يتحدثون بكلام شاعري عن هذه الأكذوبة التي ما فتئوا يروّجون لها ولأنظمتها القمعيّة "الممانعة" حتّى أضحت وبالاً عليهم وعلى من لفّ لفّهم من أصحاب البهتان. فلا جاءت هذه القوموية العروبية الرومانسية بهوية تجمع ما انتثر من بطون وأفخاذ، ولا جاءت بنظام يجلب العدل والرفاهية لأهل البلاد. بل على العكس من ذلك، لقد حكمت هذه العروبة "الممانعة" الكاذبة حكمًا مستبدًّا، قبليًّا أحيانًا وعسكريًّا أحيانًا أخرى، ونهبت خيرات البلاد وأراقت دماء العباد في حروب ونزوات وغزوات فاشلة عبر الحدود أو في دهاليز مخابراتها وعسسها الذين يعيثون في الأرض فسادًا.

لا ندري ماذا ستكون
وجهة هذه الهبّات الشعبيّة، بدءًا من تونس عبورًا إلى مصر أو بقاع عربيّة أخرى. غير أنّ أمرًا واحدًا يجب الالتفات إليه، ألا وهو انعدام أي أجندة "ثورية" حقًّا في هذه الانتفاضات. الشيء الواضح هو أنّ ثمّة تذمّرًا من هذه الأنظمة التي يربخ فيها الرئيس "الجمهوري" في منصبه عشرات السنين دون أن يفكّر أصلاً بأن "يحلّ عن ربّ" البشر في البلاد ويذهب للتقاعد. بل أنكى من ذلك، يحاول العمل على توريث المنصب وخيرات البلد للولد الذي ترعرع في أحضانه، كما لو أنّ الأوطان إقطاعيّة أو حظيرة عائليّة.

كذا هي حال الشام التي ابتدعت توريث الجمهورية. وقد مضى حتّى الآن على توريث بشّار الابن الشّاب عقد من الزّمان في رئاسة سورية. ألا تكفي هذه الأعوام ليُعرف صالحه وطالحه؟ لكن، يبدو أنّه، ولأنّه لا يزال في عمر الشّباب، فربّما كُتب على الشعب السّوري أن يخضع لرئاسته لعقود طويلة أخرى. غير أنّي أقول للحقّ أيضًا ودون مواربة، فمن خلال قراءة بعض كتابات المعارضين السوريين، أقول بعضها وليس كلّها، فإنّها هي الأخرى تثير الاشمئزاز بقدر ما يشمئز المرء من نظام البعث ذاته. فهي أيضًا لا تبشّر بالخير الذي يصبو إليه بنو البشر في هذه الربوع، كما إنّ الإسلاميين بإخوانهم وبمن يتبعهم فليسوا بأفضل حالاً من نظام القمع البعثي ذاته. على المعارضة أوّلا أن تقنع الجمهور السوري بجميع أطيافه الدينية والإثنية أنّها ليست طائفية وقبليّة هي الأخرى كالنّظام القائم الظّالم ذاته.

وكذا أيضًا هي الحال وعلى هذا المنوال في سائر "الجمهوريات" العربيات. لهذا السّبب فقد جاء ردّ فعل العقيد القذّافي مناصرًا لزين العابدين ولغيره من المستبدّين المخلّدين في السلطة. فهذا العقيد الغريب الأطوار لم يعد مُضحكًا بالمرّة. وهو وإن كان يُنعَت بـ"الأخ العقيد"، بينما يليق به أكثر تعبير "الآخ على التعقيد". إنّه الآخر لا يريد أن "يحلّ عن ربّ الشعب اللّيبي" بعد أكثر من أربعة عقود.

إنّ الهبّة الشعبيّة المصريّة كانت، أصلاً وفي الأساس، هبّة للإطاحة بمخلّفات الناصريّة العسكرية وأعوانها الذين أناخوا كلكلهم على صدر الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى طوال عقود طويلة دون أن ينقلوا البلد والمجتمع إلى مرتبة متقدّمة أسوة بباقي شعوب الأرض. لقد أفلحت الهبّة حتّى الآن فقط بالإطاحة بالرئيس، غير أنّ الطبقة العسكرية، صاحبة الامتيازات الاقتصادية المتشعبة، هي التي أحكمت القبضة الآن في أرض الكنانة.

لا يكفي ترديد شعار
"ثورة ثورة حتّى النصر". إنّما الثّورة تكون ثورة حقيقية وجديرة بهذه التسمية، فقط عندما تصل ليس حتّى النّصر، بل تصل حتّى العصر. أيّ حتّى تُجذّر المُكتسبات العصريّة التي تدفع بالبشر قدمًا. إنّ الانتفاضة المصرية ضدّ النّظام يمكن أن تتحوّل إلى ثورة حقيقيّة فقط عندما تقبل الطبقة العسكرية وأعوانها الذين يحكمون الآن بالمبادئ الأتاتوركية الدستورية التالية:
أوّلاً - فصل الدّين عن الدولة فصلاً تامًّا، بكلّ ما يعنيه هذا الفصل.
ثانيًا - مساواة تامّة في المواطنة بين المصريين - لا فرق بين مسلم ومسيحي وما سواهما من سائر المعتقدات الدينية وغير الدينية.
ثالثًا - مساواة تامّة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات دون استثناء.
رابعًا - فصل السلطات، التنفيذية، التشريعية والقضائية.
خامسًا - حريّة التفكير وحريّة التعبير وحرية الصحافة والنّشر هي حقوق دستورية مكفولة للمواطن.
سادسًا - يُنتخب الرئيس فقط لدوتين انتخابيّتين على أقصى حدّ، أي بما لا يزيد عن عشر سنين، يُحال بعدها إلى التقاعد.

هذه مجرّد بعض المبادئ، وهنالك بالطبع قضايا ومبادئ أخرى يجب العمل على تثبيتها. فقط عندما يتمّ إقرار هذه المبادئ بحذافيرها، عندئذ يمكن الحديث عمّا حصل في مصر بأنّه ثورة حتّى العصر. أمّا ما سوى ذلك، فإنّ لسان حالنا سيظلّ يقول: رجعت حليمة لعادتها القديمة، أو أنّنا سنظلّ نردّد إلى يوم يبعثون: كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

والعقل ولي التوفيق!
***
***
For Hebrew on the same topic, press here

إقرأ أيضًا:
أفكار معروضة للسرقة
______________________

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
______
سـلمان مصـالحة

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

لقد كتب الأستاذ نادر قريط هنا في الأوان تهويمات نثريّة عاطفيّة عن الهبّة الشعبيّة التونسيّة التي أدّت في نهاية المطاف إلى رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وما من شكّ في أنّ الأسارير تنفرج والقلوب تنشرح حينما نرى النّاس يهبّون ضدّ المظالم التي يواجهونها. والهبّات تكشف، بين سائر ما تكشفه، أنّ هذه المظالم قد طال أمدها وقد تراكمت تبعاتها على صدور العباد حتّى أضحت جمرًا مستعرًا مختبئًا تحت رماد من صنوف الكبت. يُضحي الوضع في انتظار هبوب نسمة خفيفة تذرو هذا الرّماد فيستعر الجمر ويعلو اللّهب.

وهكذا، فقد تعالى من جديد على ألسنة العرب بيت شعر لأبي القاسم الشابي، وردّده الجميع في مشارق العرب ومغاربهم. غير أنّ الكثيرين الكثيرين من كلّ هؤلاء المردّدين لـ"إذا الشّعب يومًا… فلا بُدّ أن…"، إنّما هم يردّدون كلامًا لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم. إنّهم يردّدون بيت الشّعر بوصفه شعارًا شعبويًّا ليس إلاّ. وذلك، لأنّ جوهر هذا البيت هو نقيض واضح وبيّن لما هو قائم في الإيمان الإسلامي بالقضاء والقدر. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الفرديّة، ثمّ الجمعيّة من بعدها، هي الأصل وأمّا القدر بكلّ ما يحمل من معانٍ فلا عمل له في المصير بأيّ حال. القدر فقط يقوم بدور الاستجابة للإرادة، أفرديّة كانت هذه الإرادة أم شعبيّة. لقد نوّة الأستاذ نادر قريط عَرَضًا إلى هذه النقطة في مقالته قائلاً: "في معادلتك الشعرية الفذّة يا أبا القاسم، وضعت الشعبً والقدر وجها لوجه، فكسبت الرهان…".

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.

غير أنّ المفارقة الكبرى في كلام الأستاذ قريط تكمن في هذه الفقرة من مقالتة الشعريّة: "تونس "شعب" تجمعه الأرض والتاريخ، ويوحده حلم العيش الكريم ومدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال، ورجمت مليشيات الطاغية، وضمّدت الجرحى". يجب ألاّ ينسى الأستاذ قريط، وكثيرون غيره، ممّن يدبّجون الكلام الشّعري الآن على خلفيّة الهبّة التونسيّة، أنّ ما يمتدحونه في تونس بكلام مثل: "مدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال…"، فهو في نهاية المطاف من مُنجزات هذا النّظام التونسي بالذّات، بخلاف سائر الأنظمة العربيّة. أيّ أنّ كلام قريط هذا قد جاء ذامًّا فانتهى مادحًا بكلام هو ممّا يُحسب لصالح النّظام بالذّات.

ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح والتحسُّر على المشرق: "أما في مشرقنا فواحسرتاه! لقد كنّا شعبا في يوم ما، أما اليوم فنحلم على أريكة الديوان الشرقي، لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات، وفقهاء نبحث عن العصر الباليوليتي وعصماء بنت مروان لنهرب من واقعنا، فما أوسخنا…".

لقد وردت في المأثور العربي مقولة "يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره". وهي مقولة فيها نوع من التّساهُل والتّسامُح مع نزق الشّعراء في الخروج على النّحو والقواعد والمألوف في اللّغة. ولمّا كان الأستاذ قريط قد كتب مقالة شعريّة، فإنّي سأنظر إليها بنوع من التّساهُل أيضًا قائلاً بيني وبين نفسي: يحقّ له في هذا الانجراف الشّعري ما لا يحقّ لغيره.

ولكن، ومن جهة أخرى، فهل ما ورد في كلامه الشّعري هذا يستند إلى أسس متينة؟ إنّه يقول: "لقد كنّا شعبًا في يوم ما". فهل هذه المقولة صحيحة؟ ومتى كنّا شعبًا في يوم ما؟ هل بوسع الأستاذ قريط أن يذكر لنا ذلك اليوم بالتحديد؟ ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح: "لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات…". مرّة أخرى، لا أدري علام يستند هذا الكلام.

في رأيي، لقد تحوّل الحديث عن "البترودولار" في السّنوات الأخيرة نوعًا من الشّعارات الشّعبويّة التي تُطرح لتُدغدغ عواطف "مُراهقي العروبة" في المشرق والمغرب دون أن تكون هذه الشعارات مدعومة بأيّ حقائق. فهل حقًّا كلّ مآسي العرب مردّها إلى "البترودولار"؟ وهل القبائل والشيع والملل والمذاهب كلّها مردّها إلى "البترودولار"؟ ولو كانت هذه حقيقة، فماذا كان العرب قبل البترودولار؟

إنّ ما أخشاه في هذا النوع من الكلام هو أن يتحوّل إلى جوهر الخطاب العربي. إنّ هذا الكلام لا يختلف كثيرًا عن أنواع الكلام المندرج في خطاب "نظريّات المؤامرة" الشائعة الفضاء العربي. إنّ هذا النوع من الكلام، رغم كلّ النوايا الطيّبة التي قد تكون تلفّه، إنّما يشقّ في نهاية المطاف طريقًا أخرى من الطّرق التي يسلكها كلّ الهاربين من مواجهة الحقائق العربيّة. إنّها حقائق عربيّة متعدّدة المناحي، من الاجتماعيّة والدينية والثقافية والسياسية إلى آخره.

إنّ ما جرى في تونس كان ممكن الحدوث لعدّة أسباب:

أوّلاً، لأنّ الشّعب التونسي يتّسم بالتّجانس، إذ أنّ 99 بالمائة منه عرب يدينون بذات المذهب، وكلّ ما يجري لا يمكن أن يتحوّل إلى صراعات مذهبيّة.

ثانيًا، لأن ما جرى من تحديث في البلد بخصوص الأحوال التعليمية والأحوال الشخصيّة ومساواة المرأة وحضورها المدني من جهة، وتقييد الإسلامويين وما يمثلونه من جهة أخرى، هي بالذّات من منجزات النظام التونسي التي تُحسب له، لا عليه. وهي في نهاية المطاف ما تدفع إلى حدوث هبّات من هذا النوع المدني.

إنّه لمن المفرح أن يهبّ التونسيّون ليطيحوا بطاغية النّظام، غير أنّ الحذر يجب أن يكون نصب أعين المنتفضين في تونس. يجب التشبُّث بالمنجزات المدنيّة والّتي على رأسها مساواة المرأة والرّجل في كلّ مناحي الحياة. إنّ هذا المنجز هو ما يجب البناء عليه للمستقبل. ويجب في الوقت ذاته الحذر من الإسلامويين المتربّصين الذين ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المنجز التونسي وسائر المنجزات الأخرى، بغية جرّ تونس إلى الوراء. يجب أن يتذكّر التونسيّون، كما سائر العرب، أنّه فيما يتعلّق بالمجتمعات العربيّة فإنّ المرأة هي الحلّ، وليس الإسلام بأيّ حال.

هل ما حدث في تونس قد يحدث في بلاد عربيّة أخرى، مثلاً في سورية؟
أشكّ في ذلك جدًّا. وشكوكي نابعة من رؤيتي للحقيقة السورية المختلفة جذريًّا عن تونس. ففي سورية، مثلما هي الحال في العراق وأماكن أخرى، لا يمكن الحديث عن شعب متجانس، فمصطلح "الشّعب السّوري" هو مصطلح فضفاض، إذ أنّ المواطنين الذين ينضوون تحت مسمّى الدولة السوريّة هم تشكيلة متنوّعة من النّاس والأقوام والمذاهب والطوائف، من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيّين وسنّة وشيعة ودروز إلى آخره. هذه الحقيقة تختلف جذريًّا عن الوضع التونسي. كما إنّ النّظام السّوري، وإن كان يرفع شعارات قومويّة، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر نظام قبليّ بامتياز يستند إلى سلسلة من قوّات عسكريّة خاصّة ومخابرات مرؤوسة كلّها طائفيًّا وغايتها حماية رأس النّظام القبلي. لهذا السّبب، فإنّ طبيعة هذا النّظام هي طبيعة اضطهاديّة في جوهرها، ولذلك فإنّ أيّ تحرّك شعبي ضدّ النّظام ورأسه يُفهَم من قبل أركان النّظام على أنّه خطر على القبيلة، أو الطائفة، بأسرها، ولذا فإنّ سحق أيّ تحرّك شعبي من هذا النّوع هو من أولويّات نظام تأسّس على هذه الأصول. وما جرى في حماة هو مثال صارخ لهذه الدمويّة.

من هنا، فلا يمكن بأيّ حال مقارنة ما جرى في تونس ومع ما يجري في سائر البلاد العربيّة، وخاصّة تلك البلدان التي تتشكّل من أطياف بشريّة متنوعة دينيا وإثنيا. وخلاصة القول، ولقد ذكرت ذلك أكثر من مرّة في الماضي، إنّ العرب على العموم هم أكثر الأمم احتياجًا إلى ثورة حقيقة تفصل الدين عن الدولة بكلّ ما يعني ذلك. وبكلمات أخرى، هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ في هذا الأوان. إذ، بغير ذلك، فسيواصلون التّخبُّط والتفتُّت إلى أن يندثروا من التاريخ البشري.
*
نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب، 22 يناير 2011

***
On the same topic:
Hebrew, press here
English, press here
Italian, press here
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان!

هكذا، بشعار: "بالرّوح بالدّم، نفديك يا فُلان" يتمّ اختزال الوجود العربي، البشريّ والحضاريّ، في هذا الـ "فلان" كائنًا من كان...
----

سـلمان مصـالحة

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان!

هكذا وعلى مرّ التّاريخ العربي المعاصر تتعالى الأصوات من لَهَوات الحُلُوق والحناجر. فمرّة تعلو هذه في مسيرات مُسَيّرة، لا مُخَيَّرة، في الشّوارع، ومرّة تعلو هذه الأصوات من مؤتمرات ما يُسمّى زورًا وبهتانًا نقابات صحفيّين أو مُحامين في بلاد لا صحافة فيها ولا محاماة.

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان: "فلان وفلانة: كناية عن أسماء الآدميين. والفلان والفلانة: كناية عن غير الآدميين. تقول العرب: ركبتُ الفُلان، وحلبتُ الفُلانة... وعن ابن السّكّيت: إذا كنيت عن الآدميين قُلتَه بغير ألف ولام، وإذا كنيت به عن البهائم قُلتَه بالألف واللاّم.... وقال ابن بُزُرْج: يقولُ بعضُ بني أسد: يا فُلُ أقْبِلْ، ويا فُلُ أقْبِلا، ويا فُلُ أقْبِلُوا... وقال ابنُ بَرِّي: فلانٌ لا يُثنّى ولا يُجمَع. وقوله عزّ وجلّ: "يا ويلتا ليتني لم اتّخذ فُلانًا خليلا"، قال الزّجّاج: لم اتّخذ فُلانًا الشّيطان خليلاً". وهنالك أيضًا من يفرد ويثنّي ويجمع: فل وفلان وفلون (عن لسان العرب، مادّة: فلن)
***
هكذا، بشعار: "بالرّوح بالدّم، نفديك يا فُلان" يتمّ اختزال الوجود العربي، البشريّ والحضاريّ، في هذا الـ "فلان" كائنًا من كان، ويتمّ على هذا الأساس نفيُ الإنسان وعَزْلُ الأوطان. ولمّا كان هذا الـ "فُلان"، أكان من بني البشر أو من ذوي الوبر، آيلاً للزّوال، فما على العربان إلاّ استنساخ فلان بفلان في سمفونيّة التّهليل لكلّ حاكم ضِلّيل. وعندما يرتفع هذا التّهليل على خلفيّة مبنيّة على أسس التّهويل فما من سبيل إلى سواء السّبيل.

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلُ، ويا فُلان، ويا فلون. هكذا بشعار واحد يغيب البشر، طوعًا وكراهية، عن الوجود. وعندما ينفي الإنسيُّ وجوده كمخلوق عاقل فاعل في هذه الطّبيعة تُضحي صورةُ الشّعب صورةً طبق الأصل لهذا الفلان الّذي يتمّ افتداؤه بالرّوح وبالدّم. وإذا كان الفُلانُ نَزِقًا مُتهوّرًا يتطبّع الشّعبُ بهذه النّعوت. وإذا كان جاهلاً فهو يغدو كارهًا للعلم وللعلماء ويطبع النّاس بطبعه. وإن كان فاسدًا فسد النّاس معه، لأنّ النّاس تنازلت، تَمَثُّلاً به طبعًا، عن ملكة العقل تَزَلُّفًا. فالفُلانُ الرّابخ على سدّة الحكم، يُفكّر باسم الجميع، ويتكلّم باسم الجميع. وإن شاء أيضًا فهو المُخوَّلُ أيضًا بأن يُغيّر رأيه باسم الجميع. وما على الشّعب سوى أن يُوقّع على صكوك الولاء الأبدي السّرمدي لفُلان الفُلانيّ.

ولمّا كان الفُلانُ، كسائر الحيوان، مصيرُه الزّوالُ يقينًا، فلا خشية أن تتبدّل هذه الذّهنيّة لدى بني يَعرُب. فـ"فلان" هذا، كسائر مخلوقات الطّبيعة، يُعقِبُ نسلاً على شاكلته، مثلما أنّ الشّعوبُ هذه المتطبّعة بذهنيّة "فلان" تُعقبُ هي الأخرى نسلاً على شاكلتها. وما أن يأتي فُلانٌ جديد حتّى تأتي فُلُونٌ أخرى تهتفُ من قعر رؤوسها، المُفرّغَة طوعًا وكراهية، بافتداء "الفُلان الجديد" بالأرواح والدّماء الرّخيصة.
***
ولمّا كانت الأجيال العربيّة النّاشئة تعيش في حالٍ من الأوهام. ولمّا كانت هذه الأجيال لا تقرأ شيئًا من تراثها، وإن قرأت لا تفهم، وإن لم تفهم فهي لا تتجرّأ على الاستفهام، فها نحنُ نذكّرهم ببعض ما رُوي من أقوال عن السّلف، لعلّ في ذلك ما يدفعهم إلى مساءلة هؤلاء الحُكّام، وإلى قول كلمة الحقّ علانيةً، لا يخشون في ذلك لومة من أحد اللّوّام. فقد ورد في حديث عليّ الإمام (عليه السّلام): "عن أبي جعفر قال: خطب أمير المؤمنين الناس بصفين، فكان مما قاله: فلا تُكلّموني بما تُكَلَّمُ به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتَحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمُصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حَقٍّ قيل لي، ولا التماسَ إعظامٍ لنفسي لما لا يصلح لي. فإنّه من استثقلَ الحَقَّ أن يُقالَ له، أو العدلَ أن يُعرضَ عليه، كان العملُ بهما أثقلَ عليه. فلا تكفّوا عني مقالةً بحقٍّ، أو مشورةً بعدلٍ، فإنّي لستُ بفوق أن أُخطئ، ولا آمَنُ ذلك من فِعْلي، إلاّ أن يكفي الله مِنْ نفسي ما هو أمْلَكُ به منّي؛ فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون"، (عن: بحار الأنوار للمجلسي، ج 27، ص 253)
***
ولمّا كانت السّياسة ليست دينًا، كما أنّها ليست توحيدًا إلهيًّا، وليست أيّ شيء من هذا القبيل، فحريّ بنا أن نفكّر في سبيل آخر للخروج من هذا المأزق. بكلمات أخرى، بوسعنا أن نقول، إنّه فيما يخصّ السّياسة والنّظم الّتي تسيّر أمور النّاس فإنّنا، نحن العربان، بحاجة إلى مبدأ الـ"شِرْكٍ" في هذه السّياسة. أي قد آن الأوان إلى الخروج من شراك هذا الشّعار "التّوحيدي" الّذي يعني، في أعرافنا المتوارثة كابرًا عن كابرٍ، الحاكم القائد الرّمز الفرد الواحد الأحد، الّذي تسلّط على ذهنيّة العربان السّياسيّة.

وهذا الـ"شِرْكُ" الّذي نعنيه في السّياسة هو بمعنى الـ"مشاركة" في تسيير أمور البشر، كمجتمع عصري متكامل متكافل. والمشاركة تعني أيضًا عدم الاقتصار على فُلان الفُلاني، أكان هذا الـ"فلان" من بني تميم أو بني قيس أو بني أسد، في السّيطرة على مصائر هؤلاء البشر وتصريف أمور المجتمع والدّولة. بل يجب أن ينضاف إليه "عَلاّن" آخر أو أكثر من علاّن واحد. بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول، إنّه يجب أن يتمّ استبدال فلان بـ "علاّن" في دورات انتخابيّة محدودة الزّمن من بين صفوف النّاس في الوطن. ألم نقرأ في المأثور: "لا يُغيّر الله ما بقوم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم". أو لنقل، حتّى يُغيّروا المفاهيم الّتي يترعرعون عليها في بيوتهم وفي كتاتيبهم الّتي شاعت باستخدام مصطلح مدارسهم.

وما لم يسر العربُ في هذه الطّريق، فلن يتمّ إسكات هذا الوسواس الخنّاس.

أليس كذلك؟
*
نشرت في "إيلاف"، 24 أغسطس 2006
__________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!