ظواهر الشّرف وبواطن القرف



سلمان مصالحة


ظواهر الشّرف وبواطن القرف


لمّا كان الإنسان العربيّ
لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة. والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة وطائفيّة.

في الكثير الكثير من الأحيان 
 نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من الأقنعة الشفّافة والكاذبة. والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث، ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع أفرادها منذ سنّ مبكّرة. وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف نابعين من ذاته.

وحينما يكون الرّجل العربيّ 
بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول الحفاظ عليهما في الـ"آخر" الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل، والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه، ليس من جنسه.

والدّجل السّافر في هذا الموضوع، 
هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ"أنا" القبليّة. أي أنّ الرّجل العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة. وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ"ليس منه" هو هذه الحلقة القبليّة الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.ليس صدفةأن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.

هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي، في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟

المجتمعات العربيّة بحاجة 
 إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة، بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.

قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله. فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة، هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة بنوع من التفهّم.

وهذا الرّجل العربيّ المكبوت 
نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه. فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.

والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.

إنّ تحرير الرّجل العربيّ 
من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر، وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.

***


نشرت في: "كلّ العرب"، يوليو 1994
*
مقالات أخرى حول الموضوع:
"لماذا يقتل الرجل العربي المرأة"، إيلاف
"الرجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ"، إيلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!