مختارات تراثية
هذا حديث دار بين الشيخ عمر الصيني والراهب الجرجاني، تقدّس سرّه.
عظة الراهب الجرجاني
”قال الشيخ عمر: مررت براهب وهو في صومعته فجرى بيني وبينه مؤانسة.
فقلت له: يا راهب لمن تعبد؟
فقال: أعبد الله الذي خلق العالم بقدرته. وألّف نظامه بحكمته. وقد حوت عظمته كل شيء. لا تبلغ الألسن وصف قدرته. ولا العقول لج رحمته. له الشكر على نتقلب فيه من نعمته التي صحت بها الأبصار. ورعت بها الأسماع. ونطقت بها الألسن. وسكنت بها العروق وامتزجت بها الطبائع.
فقلت: يا راهب ما أفضل الحكمة؟
فقال: خوف الله.
فقلت: وما أكمل العقل؟
قال: معرفة الإنسان بقدرته.
قلت: ما يعين على التخلص من الدنيا؟
قال: أن تجعل بقية يومك انقضاء أملك.
فقلت: وما حملك على أن عقلت على نفسك في هذه الصومعة؟
فقال: لأحبس هذا السبع عن الناس، وأومأ بيد إلى لسانه.
قلت: من أين تعيش؟
قال: من تدبير اللطيف الخبير الذي خلق الرحى وهو يأتيها بالطحين.
قلت: لم لا تنزل إلينا وتخالطنا؟
فقال: لأن الأشياء الموبقة بأسرها بينكم والسلامة من ذلك إنما تكون في الوحدة.
قلت: وكيف صبرت على الوحدة؟
فقال: لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك.
قلت: كيف لبست السواد؟
فقال: لأن الدنيا دار مأتم وأهلها في حداد. وإذا حزنت لبست السواد.
فقلت: كيف تذكر الموت؟
فقال: ما أطرف طرفة عين إلا ظننت أني مت.
قلت: ما لنا نحن نكره الموت؟
فقال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم. فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب.
قلت: يا راهب عظني!
فقال: أبلغ العظات النظر إلى محلة الأموات. وفي تغيير الساعات والآجلات. وإن شيعت جنازة فكن كأنك المحمول مثل ذلك. ولا تنس من لا ينساك. وأحسن سريرتك. يحسن الله علانيتك. واعلم أن من خاف الله أخاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. اطلب العلم لتعمل به ولا تطلبه للتباهي أو تماري به السفهاء. وإياك والأهواء فإنها موبقة. والهرب الهرب من الجهل. والهرب الهرب ممن يمدح الحسنات فيتجنبها ويذم السيئات فيرتكبها. ولا تشرب المسكر فإنّ عاجلته غرامة. وعاقبته ندامة. ولا تجالس من يشغلك بالكلام ويزين لك الخطأ ويوقعك في هذه الغموم. ويتبرأ منك وينقلب عليك. ولا تتشبه في طعامك وشرابك ولباسك بالعظماء ولا في مشيك بالجبابرة. وكن ممن يرجى خيره. ولا تكن ممن يخاف شره. واعلم أن من أحبه الله ابتلاه. ومن صبر رضي الله عنه. وإذا اعتللت فأكثر من ذكر الله وحمده وشكره. وإياك والنميمة فإنه تزرع في القلوب الضغائن وتفرق بين المحبين. وانظر ما استحسنته من غيرك فامتثله لنفسك. وما أنكرته من غيرك فتجنبه. وارض للناس ما ترضاه لنفسك. فإنه كمال الوصال والصلاح في الدين والدنيا. وقال: إني أستودعك الله وأقرأ عليك السلام.
ثم إنه نهض إلى صلاته فسمعته يقول: إلهنا تقدس اسمك يأتي ملكوتك. تكون مشيئتك في السماء كذلك على الأرض. ارزقنا الكفاف يومًا بيوم. اغفر لنا خطايانا وآثامنا. ولا تدخلنا في التجارب وخلصنا من إبليس لنسبحك ونقدسك ونمجدك إلى دهر الداهرين. ثم جعل يقول أيضًا: اللهم إن رحمتك كعظمتك. اللهم إن نعمتك أعظم من رجائنا. فصنعك أفضل من آمالنا. اللهم اجعلنا شاكرين لنعمائك حتى تشتغل بذكرك جوارحنا. وتمتلئ قلوبنا. اللهم أعنا على أن نحذر من سخطك ونبتغي طاعتك ورضاك. اللهم وفقنا للعمل بما نفوز به من ملكوتك. من أجل أنه ينبغي لك العز والسلطان والقدرة.
قال الشيخ: فاستحسنت ذلك منه. وسألته أن يدعو لنا وانصرفت وأنا متعجب من حسن مقاله.”
(لويس شيخو: مجاني الأدب في حدائق العرب، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1913، ج 3، ص 19-22)